بين إنسانيتين... إطلالة على الزمن المفقود (2)

تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
TT

بين إنسانيتين... إطلالة على الزمن المفقود (2)

تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)

ما زلنا نطل على العقد المفقود (2020 - 2030) بكل تجلياته، وكنا في المقال السابق قلنا إننا على أعتاب عقد فريد، وكأنه مدرج للتسليم والتسلم بين إنسانيتين... وكأن الإنسانية تخلع عن كاهلها معاني وأفهاماً ومصطلحات وأدوات - شكلت واقعها لثلاثمائة سنة - لتبدأ سطوراً أولى في فصل جديد به مفردات اقتصاد جديد وسياسة جديدة، ووعي جديد ومجتمع جديد، بِسُنَّةِ الحياة، جديد أفضل من سابقه ليس على إطلاقه ولكن بنسبية حياتنا.

عالم ستحدد قسماته ثنائية سيكون لها القول الفصل في ولاية عقل أو في تسيد جهل... في عموم عدل أو في تفشي ظلم... في رشادة تعاون أو في شطط صراع... في تأجيج مخاطر أو في ترسيخ سلم وأمن... في انطلاق اقتصاد أو تعثره... في نجاعة سياسة أو إخفاقها... في بقاء سلطة أو زوالها... قلنا تلك هي ثنائية «الوباء والذكاء»!
وفصلنا في مقالنا السابق في شأن الوباء، وها نحن مع ثانية الثنائية، وهي عالم «الذكاء» الصناعي... وإرهاصاته الحالية، وأثره العميق الذي سيرمي بسهامه الأولى في قلب البشرية - التي عهدناها - في نهايات هذا العقد المفقود.
يتصاعد الآن صراع بين أميركا والصين، ليس مرده اتهام الصين بتصنيع فيروس الوباء، وليس مآله فقط الابتزاز الاقتصادي، ليس بالحرب التجارية التقليدية، وإن تطور عسكرياً فلن يكون حرباً عسكرية تقليدية.
ليس صراعاً على مواطئ استراتيجية، وإن كانت المواطئ الاستراتيجية هي الخلفية الجغرافية لنطاق الحرب، وليست حرباً على مصادر الطاقة، فذاك موضوع قد حُسِم على نحو كبير بتحالفات وولاءات تكاد تكون غير قابلة للمساومة.
هي ببساطة حرب على من يقود «العالم نحو المستقبل» ومِن ثَم من سيقود «عالم المستقبل»!
أما عن مسوغات قيادة العالم نحو مستقبله، فتتلخص في أمر واحد، هو «من يملك ناصية علم الذكاء الصناعي من حيث القاعدة البحثية والبنية التحتية؟».
أما قيادة «عالم المستقبل» فستكون للقادر على وضع فلسفات وأفكار هذا العالم الجديد، الذي يتماهى فيه الإنسان والآلة حتى يكادا يكونان صنوين لخلق جديد!
«الذكاء الصناعي»... أو اصطلاحاً (A.I) الذي تدور حوله رحى حرب اليوم والمستقبل... ليس ذلك المعنى البدائي المحدود لحواسب قادرة على تحليل البيانات - والمعروفة بالبيانات الكبرى (Big Data) - لتنتهي إلى نتائج إحصائية تعين البشر على اتخاذ القرار... وإن كانت تلك مزية كبيرة ما زالت بلاد كثيرة، ومنها بلادنا، تحبو خطواتها الأولى نحوها، إنما المقصود بالذكاء الصناعي متجاوز لذلك الأفق بآفاق أبعد... هو آلات قابلة للتعلم ولتطوير ذكائها بنفسها!
ليس في ذلك أي شبهة خيال علمي، بل هي الحقيقة التي يعمل على تطويرها ثمانون ألف عالم أميركي وينافسهم أربعون ألف عالم صيني على الضفة الأخرى.
استطاعت الصين - وبسبق ملحوظ عن بقية العالم - أن تطور «الجيل الخامس» من تكنولوجيا الإنترنت، وأن تتفرد بصدارة إنتاج بنيته التحتية، ولم يكد تطبيق قدرات الجيل الخامس يبدأ في نهايات عام 2019، حتى بزغ بالفعل سباق أبحاث تكنولوجيا «الجيل السادس» بين أميركا والصين واليابان وتكتلات غربية، مع وعد للإنسانية بأن تصبح تلك «التكنولوجيا الحلم» متاحة للبشر بين عامي 2027 و2030، أي على مقربة سبع سنوات منا فقط... أي بنهاية عقدنا المفقود!
وإن كانت تكنولوجيا الجيلين الخامس والسادس، هي البنية التحتية لعالم المستقبل... فإن نتاجهما هو شكل هذا العالم الجديد الذي ستأتي به على مستوى الفرد والمجتمع والدولة... على مفهوم الاقتصاد والسياسة... على حقيقة القوة والهيمنة والقيادة... على جوهر التعلم... والأهم على رقي القدرة العقلية للإنسان ذاته... وعلى تصنيفات جديدة ستقاس عليها البشرية، متجاوزة العِرق والدين والثقافة والجغرافيا... ليبقى تصنيف حاد - لن يجامل أو يحابي أحداً - وهو بشر أرقى ذكاءً وبشر أدنى ذكاءً... بل - ودون خوف أو فزع - بين بشر ذكي وآلات أذكى!
ولكي نعي ما نحن مقبلون عليه... فإن تكنولوجيا الجيل الخامس... والتي حولها كل التضييق والمنع بل والحرب... هي التي ستطلق آفاق عالم جديد يسمى «إنترنت الأشياء»... من السيارات ذاتية القيادة... إلى حماية الأمن العام والمنع الاحترازي للجريمة... إلى إجراء عمليات جراحية عن بُعد قد تكون بتركيب أعضاء بشرية مُخلقة جينياً ومنتجة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في جسد إنساني مريض.
إن كان ذلك بعضاً مما ستتيحه تكنولوجيا الجيل الخامس التي ستفقد صلاحيتها في غضون سبع إلى عشر سنوات فقط... فالتالي لها هو ما ستبدأ به طبعة ثالثة من حياة الإنسان ليس على كوكبنا فقط، ولكن في الكون الفسيح كله.
تكنولوجيا «الجيل السادس» - التي تبعد عنا عشر سنوات على الأكثر- هي الفاتحة للآلة القادرة على تطوير ذكائها بنفسها... وهو فتح لو تعلمون عظيم ومخيف في آن واحد!
أما عن الأثر المجتمعي على البشر من كل هذه الفتوحات العلمية، فهو ما يشغل العالم العاقل حتى وهو يتصارع ويتحارب... ولتُنشأ مراكز بحثية معنية بذلك، مثل «معهد مستقبل الحياة» و«معهد الأسئلة الأساسية»... وهي مراكز فكر إنساني موجودة بيننا تقوم عليها عقول من أمثال ماكس تيجمارك عالم الكونيات والفيزيائي، وأندرو ماكافي أحد أبرز علماء وفلاسفة الإدارة... وجيفري ساكس الاقتصادي الأشهر والمعني بمحاربة الفقر ورئيس «معهد الأرض» في جامعة كولومبيا.
ما يشغل هؤلاء العقلاء - ومن مثلهم - ومن ورائهم الساسة وصناع القرار المتلهفين لمعرفة ما تنتهي إليه كلمة العلم والعلماء... هو سبب وجود المؤسسات ذاتها في المستقبل... أي لماذا الاقتصاد، لماذا السياسة، من أجل أي غاية نعلم، بل حكمة وجود العمل الإنساني أكثر من طبيعته... مدى الاحتياج لدور البشر في منظومة العمل في عالم تديره آلات ذكية ليست فقط دقيقة أو قادرة.
وهو بعض مما أسميته في مقالات سابقة بـ«أسئلة الحقيقة»!
أما السؤال الفلسفي الأهم، فهو كما أجمله ماكس تيجمارك... إلامَ نقود الذكاء الصناعي حتى لا يتمكن هو من قيادنا؟!
أعمق ما انتهى إليه هؤلاء العدول من البشر أن المسار الذي يلزم أن ينتهجه العالم في مواجهة بطالة عالمية كارثية إثر استبدال الآلات بالبشر... هو أن يتحرر البشر أكثر - فكراً وتعبيراً وممارسة - فبالحرية وحدها هم قادرون على ابتكار أنماط الأعمال التي ستقرر نوع الحياة الإنسانية وطبيعة استعمار الإنسان في الكون على نحو جديد.
وأن ما سيقاوم الكوارث الصحية والبيئية هو عالم أقل فقراً وأكثر رفاهة، أي ضرورة التوجه لتنمية اقتصادية عالمية أكثر عدلاً تعم عوائدها كل البشر... وإن بقي حق التفاوت محفوظاً فيمن يملك أدوات الذكاء الصناعي دون غيره... ليهنأ بعض البشر بآفة الإحساس بالعنصرية والعلو!
ما ينتهي إليه من «يؤرخون للمستقبل» المهمومون به... من يصنعونه أكثر منهم يتنبأون به... إنه لا بقاء لبشر في مواجهة فناء مادي إلا بمجتمعات أكثر حرية وأكثر عدلاً!

بعد زوال... وعند حلول
أخيراً... سيتعافى البشر من كل وباء؛ لأن توقهم للحياة والحرية أقوى من كل داء يمنعهم الحرية ويهدد حلم الحياة الأكرم والأسعد والأعدل... ولكن ستبقى مساراتنا لحماية الحرية والحياة، أولى من مجرد قدرتنا على انتزاعهما من براثن داء خبيث.
مسارات تعيد ترتيب أولويات الإنسانية وتلزم بالتعاون في كل المشترك - المتوجب التعاون فيه - من أجل بقائنا كلنا سالمين، أقوياء وضعفاء... أغنياء وفقراء... الوثابين منا في مضمار الحضارة والمتعثرة خطاهم... سواء بسواء!
مسارات علم واقتصاد وسياسة لن يوجد في غيرها ارتحال...
«مسار علم» يعيد لأهلية العلم والعلماء موقع القيادة والحل والعقد فوق هرم كل سلطة... في بشرية صارت فيها مواجهة المرض والوباء مكافئة لحفظ الأمن والسلام العالميين.
«مسار اقتصاد» تستحدث فيه كيانات جديدة وأدوات جديدة للتعامل مع تآكل الموارد وتراجع الإنتاج وانحسار الطلب وتضخم البطالة.
«مسار سياسة» يعني برشد الحكم وبخلق مؤسسات قادرة على استشراف احتياجات مجتمعاتها... والأهم مشروعات حكم قادرة على إلهام مجتمعاتها وتعبئة طاقاتها نحو المستقبل على قاعدة منطق، لا بعصا الحشد أو الخوف.
إنها قسمات الزمن المفقود، تلك التي أطللنا عليها... ومع ما يعتريها من توجس وريبة... فكأنها تبشر بإرهاصات بداية حقيقية يتبوأ فيها العلم والإبداع موقعهما الطبيعيين ويُمَكَّنا بتمكين الأهلية لا بتمكين السلطة.
قسمات وإن بدت شاحبة قلقة من عالم على شفا الصدام... فكأنها تبشر بإرهاصات نظام عالمي قد يحمل على فضائل العدل المشاع.
وكأنها تبشر بعالم جديد... قد يثاب رغم أنفه!
في أصداء سيرته الذاتية... سأل نجيب محفوظ الشيخ عبد ربه التائه: «كيف لتلك الحوادث أن تقع في عالم هو من صنع رحمن رحيم»... فأجابه الشيخ بهدوء: «لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا...
* كاتب ومفكر مصري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.