بين إنسانيتين... إطلالة على الزمن المفقود (2)

تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
TT

بين إنسانيتين... إطلالة على الزمن المفقود (2)

تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)
تُظهر هذه الصورة التي قدمتها «أمازون» سبتمبر الماضي جهاز الإنذار الذكي Halo Rise بجانب السرير، وهو جهاز يمكنه تتبع أنماط النوم من دون سوار معصم باستخدام مستشعرات عدم الاتصال والذكاء الصناعي لقياس حركة المستخدم وأنماط التنفس (أ.ب)

ما زلنا نطل على العقد المفقود (2020 - 2030) بكل تجلياته، وكنا في المقال السابق قلنا إننا على أعتاب عقد فريد، وكأنه مدرج للتسليم والتسلم بين إنسانيتين... وكأن الإنسانية تخلع عن كاهلها معاني وأفهاماً ومصطلحات وأدوات - شكلت واقعها لثلاثمائة سنة - لتبدأ سطوراً أولى في فصل جديد به مفردات اقتصاد جديد وسياسة جديدة، ووعي جديد ومجتمع جديد، بِسُنَّةِ الحياة، جديد أفضل من سابقه ليس على إطلاقه ولكن بنسبية حياتنا.

عالم ستحدد قسماته ثنائية سيكون لها القول الفصل في ولاية عقل أو في تسيد جهل... في عموم عدل أو في تفشي ظلم... في رشادة تعاون أو في شطط صراع... في تأجيج مخاطر أو في ترسيخ سلم وأمن... في انطلاق اقتصاد أو تعثره... في نجاعة سياسة أو إخفاقها... في بقاء سلطة أو زوالها... قلنا تلك هي ثنائية «الوباء والذكاء»!
وفصلنا في مقالنا السابق في شأن الوباء، وها نحن مع ثانية الثنائية، وهي عالم «الذكاء» الصناعي... وإرهاصاته الحالية، وأثره العميق الذي سيرمي بسهامه الأولى في قلب البشرية - التي عهدناها - في نهايات هذا العقد المفقود.
يتصاعد الآن صراع بين أميركا والصين، ليس مرده اتهام الصين بتصنيع فيروس الوباء، وليس مآله فقط الابتزاز الاقتصادي، ليس بالحرب التجارية التقليدية، وإن تطور عسكرياً فلن يكون حرباً عسكرية تقليدية.
ليس صراعاً على مواطئ استراتيجية، وإن كانت المواطئ الاستراتيجية هي الخلفية الجغرافية لنطاق الحرب، وليست حرباً على مصادر الطاقة، فذاك موضوع قد حُسِم على نحو كبير بتحالفات وولاءات تكاد تكون غير قابلة للمساومة.
هي ببساطة حرب على من يقود «العالم نحو المستقبل» ومِن ثَم من سيقود «عالم المستقبل»!
أما عن مسوغات قيادة العالم نحو مستقبله، فتتلخص في أمر واحد، هو «من يملك ناصية علم الذكاء الصناعي من حيث القاعدة البحثية والبنية التحتية؟».
أما قيادة «عالم المستقبل» فستكون للقادر على وضع فلسفات وأفكار هذا العالم الجديد، الذي يتماهى فيه الإنسان والآلة حتى يكادا يكونان صنوين لخلق جديد!
«الذكاء الصناعي»... أو اصطلاحاً (A.I) الذي تدور حوله رحى حرب اليوم والمستقبل... ليس ذلك المعنى البدائي المحدود لحواسب قادرة على تحليل البيانات - والمعروفة بالبيانات الكبرى (Big Data) - لتنتهي إلى نتائج إحصائية تعين البشر على اتخاذ القرار... وإن كانت تلك مزية كبيرة ما زالت بلاد كثيرة، ومنها بلادنا، تحبو خطواتها الأولى نحوها، إنما المقصود بالذكاء الصناعي متجاوز لذلك الأفق بآفاق أبعد... هو آلات قابلة للتعلم ولتطوير ذكائها بنفسها!
ليس في ذلك أي شبهة خيال علمي، بل هي الحقيقة التي يعمل على تطويرها ثمانون ألف عالم أميركي وينافسهم أربعون ألف عالم صيني على الضفة الأخرى.
استطاعت الصين - وبسبق ملحوظ عن بقية العالم - أن تطور «الجيل الخامس» من تكنولوجيا الإنترنت، وأن تتفرد بصدارة إنتاج بنيته التحتية، ولم يكد تطبيق قدرات الجيل الخامس يبدأ في نهايات عام 2019، حتى بزغ بالفعل سباق أبحاث تكنولوجيا «الجيل السادس» بين أميركا والصين واليابان وتكتلات غربية، مع وعد للإنسانية بأن تصبح تلك «التكنولوجيا الحلم» متاحة للبشر بين عامي 2027 و2030، أي على مقربة سبع سنوات منا فقط... أي بنهاية عقدنا المفقود!
وإن كانت تكنولوجيا الجيلين الخامس والسادس، هي البنية التحتية لعالم المستقبل... فإن نتاجهما هو شكل هذا العالم الجديد الذي ستأتي به على مستوى الفرد والمجتمع والدولة... على مفهوم الاقتصاد والسياسة... على حقيقة القوة والهيمنة والقيادة... على جوهر التعلم... والأهم على رقي القدرة العقلية للإنسان ذاته... وعلى تصنيفات جديدة ستقاس عليها البشرية، متجاوزة العِرق والدين والثقافة والجغرافيا... ليبقى تصنيف حاد - لن يجامل أو يحابي أحداً - وهو بشر أرقى ذكاءً وبشر أدنى ذكاءً... بل - ودون خوف أو فزع - بين بشر ذكي وآلات أذكى!
ولكي نعي ما نحن مقبلون عليه... فإن تكنولوجيا الجيل الخامس... والتي حولها كل التضييق والمنع بل والحرب... هي التي ستطلق آفاق عالم جديد يسمى «إنترنت الأشياء»... من السيارات ذاتية القيادة... إلى حماية الأمن العام والمنع الاحترازي للجريمة... إلى إجراء عمليات جراحية عن بُعد قد تكون بتركيب أعضاء بشرية مُخلقة جينياً ومنتجة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد في جسد إنساني مريض.
إن كان ذلك بعضاً مما ستتيحه تكنولوجيا الجيل الخامس التي ستفقد صلاحيتها في غضون سبع إلى عشر سنوات فقط... فالتالي لها هو ما ستبدأ به طبعة ثالثة من حياة الإنسان ليس على كوكبنا فقط، ولكن في الكون الفسيح كله.
تكنولوجيا «الجيل السادس» - التي تبعد عنا عشر سنوات على الأكثر- هي الفاتحة للآلة القادرة على تطوير ذكائها بنفسها... وهو فتح لو تعلمون عظيم ومخيف في آن واحد!
أما عن الأثر المجتمعي على البشر من كل هذه الفتوحات العلمية، فهو ما يشغل العالم العاقل حتى وهو يتصارع ويتحارب... ولتُنشأ مراكز بحثية معنية بذلك، مثل «معهد مستقبل الحياة» و«معهد الأسئلة الأساسية»... وهي مراكز فكر إنساني موجودة بيننا تقوم عليها عقول من أمثال ماكس تيجمارك عالم الكونيات والفيزيائي، وأندرو ماكافي أحد أبرز علماء وفلاسفة الإدارة... وجيفري ساكس الاقتصادي الأشهر والمعني بمحاربة الفقر ورئيس «معهد الأرض» في جامعة كولومبيا.
ما يشغل هؤلاء العقلاء - ومن مثلهم - ومن ورائهم الساسة وصناع القرار المتلهفين لمعرفة ما تنتهي إليه كلمة العلم والعلماء... هو سبب وجود المؤسسات ذاتها في المستقبل... أي لماذا الاقتصاد، لماذا السياسة، من أجل أي غاية نعلم، بل حكمة وجود العمل الإنساني أكثر من طبيعته... مدى الاحتياج لدور البشر في منظومة العمل في عالم تديره آلات ذكية ليست فقط دقيقة أو قادرة.
وهو بعض مما أسميته في مقالات سابقة بـ«أسئلة الحقيقة»!
أما السؤال الفلسفي الأهم، فهو كما أجمله ماكس تيجمارك... إلامَ نقود الذكاء الصناعي حتى لا يتمكن هو من قيادنا؟!
أعمق ما انتهى إليه هؤلاء العدول من البشر أن المسار الذي يلزم أن ينتهجه العالم في مواجهة بطالة عالمية كارثية إثر استبدال الآلات بالبشر... هو أن يتحرر البشر أكثر - فكراً وتعبيراً وممارسة - فبالحرية وحدها هم قادرون على ابتكار أنماط الأعمال التي ستقرر نوع الحياة الإنسانية وطبيعة استعمار الإنسان في الكون على نحو جديد.
وأن ما سيقاوم الكوارث الصحية والبيئية هو عالم أقل فقراً وأكثر رفاهة، أي ضرورة التوجه لتنمية اقتصادية عالمية أكثر عدلاً تعم عوائدها كل البشر... وإن بقي حق التفاوت محفوظاً فيمن يملك أدوات الذكاء الصناعي دون غيره... ليهنأ بعض البشر بآفة الإحساس بالعنصرية والعلو!
ما ينتهي إليه من «يؤرخون للمستقبل» المهمومون به... من يصنعونه أكثر منهم يتنبأون به... إنه لا بقاء لبشر في مواجهة فناء مادي إلا بمجتمعات أكثر حرية وأكثر عدلاً!

بعد زوال... وعند حلول
أخيراً... سيتعافى البشر من كل وباء؛ لأن توقهم للحياة والحرية أقوى من كل داء يمنعهم الحرية ويهدد حلم الحياة الأكرم والأسعد والأعدل... ولكن ستبقى مساراتنا لحماية الحرية والحياة، أولى من مجرد قدرتنا على انتزاعهما من براثن داء خبيث.
مسارات تعيد ترتيب أولويات الإنسانية وتلزم بالتعاون في كل المشترك - المتوجب التعاون فيه - من أجل بقائنا كلنا سالمين، أقوياء وضعفاء... أغنياء وفقراء... الوثابين منا في مضمار الحضارة والمتعثرة خطاهم... سواء بسواء!
مسارات علم واقتصاد وسياسة لن يوجد في غيرها ارتحال...
«مسار علم» يعيد لأهلية العلم والعلماء موقع القيادة والحل والعقد فوق هرم كل سلطة... في بشرية صارت فيها مواجهة المرض والوباء مكافئة لحفظ الأمن والسلام العالميين.
«مسار اقتصاد» تستحدث فيه كيانات جديدة وأدوات جديدة للتعامل مع تآكل الموارد وتراجع الإنتاج وانحسار الطلب وتضخم البطالة.
«مسار سياسة» يعني برشد الحكم وبخلق مؤسسات قادرة على استشراف احتياجات مجتمعاتها... والأهم مشروعات حكم قادرة على إلهام مجتمعاتها وتعبئة طاقاتها نحو المستقبل على قاعدة منطق، لا بعصا الحشد أو الخوف.
إنها قسمات الزمن المفقود، تلك التي أطللنا عليها... ومع ما يعتريها من توجس وريبة... فكأنها تبشر بإرهاصات بداية حقيقية يتبوأ فيها العلم والإبداع موقعهما الطبيعيين ويُمَكَّنا بتمكين الأهلية لا بتمكين السلطة.
قسمات وإن بدت شاحبة قلقة من عالم على شفا الصدام... فكأنها تبشر بإرهاصات نظام عالمي قد يحمل على فضائل العدل المشاع.
وكأنها تبشر بعالم جديد... قد يثاب رغم أنفه!
في أصداء سيرته الذاتية... سأل نجيب محفوظ الشيخ عبد ربه التائه: «كيف لتلك الحوادث أن تقع في عالم هو من صنع رحمن رحيم»... فأجابه الشيخ بهدوء: «لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت».
فَكِّرُوا تَصِّحُوا...
* كاتب ومفكر مصري



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.