صورة مسرحية تخاطب وعي القارئ مباشرة

توثق لحقبة مهمة من تاريخ بعقوبة العراقية

ثامر الزيدي
ثامر الزيدي
TT

صورة مسرحية تخاطب وعي القارئ مباشرة

ثامر الزيدي
ثامر الزيدي

يقدم لنا المسرحي والسينمائي التلفزيوني ثامر الزيدي، في مذكراته حول المسرح في بعقوبة، في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، صورة مسرحية تخاطب وعي القارئ (المشاهد) مباشرة. شباب في أوائل العقد الثاني من عمرهم، معلّمون وحِرفيون ورياضيون، وبعضهم أبعدُ ما يكون عن الفن، يسعون لتأسيس أول فرقة مسرحية في بعقوبة، في محيط اجتماعي محافظ ومحيط سياسي متجهّم. هدفهم أن يرسموا الابتسامة على وجوه المشاهدين وأن ينتزعوا تصفيقاً من جمهور من ربّات البيوت والنجّارين والقصابين والبنّائين، وأن يخاطبوا أذهان الناس.
يتحمل المسرحيون الأوائل في بعقوبة كلفة النقل وكلفة إعداد الديكور وتنفيذه، وكلفة تأجير القاعات، من رواتبهم الصغيرة، وينشرون الدعايات عن مسرحياتهم حاملة «لوغو» سينالكو، بفكرة تمويل جزء من طباعة الإعلانات. (شاهد «بهلوان آخر زمان» وتمتع بسينالكو مسرحية).
ابتكر الزيدي وزملاؤه مسرح المناضد كي يعرضوا في المدارس والقاعات غير المخصصة للمسرح في عراق منتصف القرن العشرين. والطريف أن نجاراً بينهم تخصص آنذاك في إقامة المسارح من طاولات ورحلات المدارس. إنه مثل الرقص على الطاولات في أرخص بارات وحانات ساحة الطيران، لكنه رقص بين حمم البركان التي تنثرها السلطة السياسية المعادية لهم أينما حلُّوا.

يوثِّق لنا ثامر الزيدي حقبة مهمة من تاريخ المسرح العراقي في مدينة بعقوبة. يومها لم يكن يهتم بالمسرح سوى معلمي الرسم في المدارس وتلامذتهم الصغار، ولم يشقَّ المسرح المحترف طريقه بعد. في مجتمع ينظر سلباً لمشاركة النساء في العمل الفني، ومديرين فنيون يحملون النجمات العسكرية على أكتافهم، وطغمة ترى النشاط الرياضي أهمَّ وأعلى مكانة من النشاط الفني وأرقى شأناً منه. بل إن أصحاب العقارات يرفضون تأجير مبانيهم للمسارح خشية أن تتحول إلى مواخير.
يفسر لنا المسرحي الإيطالي الراحل، الحائز على نوبل «داريو فو»، العلاقة بين التاريخ والمسرح، في مسرحيته الأشهر «فوضوي يموت عرضاً»، على أن كلمة «هستريون» اللاتينية، التي تعني التاريخ، تعني أيضًا «يؤدي دورًا» في اللغة نفسها. وعلى هذا الأساس فإن محترفي المسرح، بالنسبة لداريو فو، ليسوا أكثر من أفراد يعانون من «الهيسترومانيا»؛ أي الهوس المسرحي.
من هنا تأتي أهمية ما يوثّقه لنا الزيدي، في كتابه عن المسرح في بعقوبة، إذ لم يكن المسرح يوماً بعيداً عن التاريخ، بل إنه يشاغب التاريخ المزيّف، الذي يكتبه الطغاة، ويقدم لنا الماضي على الدوام بصيغة الحاضر التنويري. هذا ما تفعله آلاف المسرحيات التي كتبها عظماء المؤلفين المسرحيين، بدءاً بسوفوكليس، مروراً بوليم شيكسبير، وهاينريش هاينه، وانتهاءً بداريو فو. يعود هاينه إلى الأندلس في مسرحية «المنصور» كي يمنح معاصريه (القرن الثامن عشر) صورة المجتمع الأندلسي المتعدد الديانات والثقافات.
ويعود الروسي غريغوري غورين في مسرحية «انسوا هيروسترات» إلى عدة قرون سبقت الميلاد كي يكشف لنا جذور الإرهاب في عالم اليوم. ويستخدم سعد الله ونوس رأس المملوك جابر لنقل الرسالة القديمة إلى عصرنا الحالي، وكذلك المفتش العام لغوغول.
يؤرخ ثامر الزيدي لنا بدايات المسرح في بعقوبة، ويمنحنا بذلك الفرصة لمقارنة الماضي بالماضي الأسبق منه، ويتيح لنا مقارنة الماضي بحاضر اليوم. ويقدم ذلك بشكل رمزي أحياناً، وبشكل مباشر يكتفي بسرد المفارقات التاريخية التي يعيشها المسرح، والمفارقات المسرحية التي يشهدها التاريخ كل يوم.
هي مناسبة صريحة لتجديد الدعوة إلى مسرح جديد ينفض عنه غبار السلطات السياسية المعادية للثقافة، بأرديتها المختلفة، الشوفينية والمتعصبة، والنهوض بمسرح ينتشل الخشبة العراقية من رثاثة استمدّتها طوال عقود من رثاثة الدولة ومؤسساتها واقتصادها.
يستعرض الزيدي سيرته الذاتية أيضاً من خلال عرضه للولادة الصعبة للمسرح في بعقوبة، ودوره وتضحياته، وتضحيات عائلته وأصدقائه، من أجل تحويل مسرح المدارس، ومسرح الفرق الرياضية: «اضطر المسرحيون آنذاك للحصول على إجازة لتقديم عروضهم بأسماء النوادي الرياضية بسبب تعذر الحصول على إجازة مسرح من السلطات، ولكونها مؤسسات رسمية»، إلى مسرح محترف.
يتناول الكاتب، في الفصول الأخيرة من كتابه، تجربته في التلفزيون المجري وإنجازاته في «قسم الفانتازيا» الذي كان يتخصص بعروض الخيال العلمي من خلال الخُدَع البصرية. يستعرض أفلام الكارتون المتميزة التي أخرجها ونالت جوائز وتقدير مهرجانات عربية وعالمية لها وزنها، مثل «حي بن يقظان»، و«أصيلة»، وغيرهما. ويعرف الجميع أن فيلم «حي بن يقظان» كان أول فيلم كارتون عربي طويل مُخرجه عربي.
يلاحظ القارئ وهو يتصفح كتاب الزيدي، أن الحظ حالفه كثيراً، خصوصاً في المنعطفات الرئيسية في سيرته في المسرح والتلفزيون في مدن الباءات (بعقوبة وبغداد وبنغازي وبودابست) التي عمل فيها. ويكرر الزيدي، في مذكراته، عبارات من قبيل: «حالفني الحظ»، و«لحسن الصدفة»، و«لعبت الصدفة دورها»، و«شاءت الصدف»، وغيرها. ونحن نعلم أن الصدفة تتحول إلى قانون حينما تتكرر. والقانون - عدا قوانين الطبيعة - من صناعة الإنسان، ولا يمكن تحويل مسلسل الصدف التاريخية إلى نجاح مسرحي وإلى قانون إلا بالعمل الدؤوب والموهبة والإصرار على المواصلة، وحب التنوُّر والتنوير، وبذل كل ما هو ممكن من أجل النجاح والتقدم.
بدأ ثامر الزيدي حياته المسرحية على خشبة مناضد في ساحة القيصرية عند احتفالات الناس في بعقوبة عام 1959 بمناسبة ثورة تموز. وغادر العراق وهو عضو في مسرح «الستين كرسي» ببغداد في سبعينيات القرن العشرين. قاعة صغيرة فُتحت على قاعة صغيرة أخرى كي تتحول إلى مسرح صغير لا تحتمل كراسيه أكثر من 60 مشاهداً.
كسب هذ المسرح سمعة طيبة، واجتذب فنانين مسرحيين معروفين في العراق، وقدم مسرحيات هادفة تتمسك بقضايا الناس. آنذاك، كسب مسرح الستين كرسي أيضاً «صبغة يسارية» أهّلته لنيل لقب «الصوفة الحمرة» الشائع في تسمية «المشبوهين بالشيوعية» في العراق. لهذا كسب في الوقت نفسه حقد قامعي الثقافة؛ من عسكريين وجهلة يتربعون على قمة سلطة الحكم.
مسرح «الستين كرسي» ومسارح المنضدة مثال على المسارح الشعبية غير الحكومية، التي تكسر مقص الرقيب وتبني مسرحاً مشاغباً يشق طريقه بصعوبة بالغة، وبتضحيات جسام، كي يرفع راية المسرح الجاد، رغم الاعتقالات والاختطاف، وشبح سحب الإجازة الذي يحوم يومياً مع كل عمل جديد يقدَّم تعتقد السلطة السياسية أنه موجَّه ضد ثقافة القمع التي تنتهجها.
صدر الكتاب عن دار الرواد المزدهرة ببغداد، ويحتوي على كثير من الصور التي تؤرشف حياة الزيدي في المسرح والسينما بين بعقوبة وبودابست. لوحة وتصميم الغلاف للفنان جودت حسيب.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!