في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)

القرن السابع عشر، قرن حاسم في تاريخ البشرية، ففيه حدثت ثورة معرفية غير مسبوقة. في القرن السابع عشر نشر إسحاق نيوتن نظريات وقوانين المادة والحركة التي فتحت مساراً جديداً تماماً لمعرفتنا بالكون. غير أن وصف هذه الثورة المعرفية بـ«العلم» لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر، عندما ميز الفرنسي أوغيست كومت لأول مرة بين الفلسفة الطبيعية (natural philosophy) والعلم، فحتى ذلك الوقت كان إنتاج المعرفة العلمية امتداداً لتقاليد الفلسفة الطبيعية المعروفة منذ زمن أرسطو. المفارقة هي أن كومت لم يكن من منتجي المعارف الفيزيائية، ولكنه كان الداعية الأول، أو على الأقل الأشهر والأهم، لتأسيس «علم الاجتماع (sociology)».
كان كومت مفتوناً بالتطور الحادث في العلوم الطبيعية، فدعا إلى تأسيس علم يدرس المجتمع، مسترشداً بالمنهج المتبع في العلوم للطبيعة، حتى إنه سمى العلم الاجتماعي الذي دعا إليه بـ«الفيزياء الاجتماعية».
وضع كومت أسس الفلسفة/ الوضعية وروج لها باعتبارها المنهج العلمي لدراسة المجتمع، فنشر في ثلاثينات القرن التاسع عشر كتابه «منهج الفلسفة الوضعية» في خمسة أجزاء، خصص الأجزاء الثلاثة الأولى منها لاستعراض التقدم الحادث في علوم الطبيعة ومناهجها المتبعة، فيما خصص الجزأين الأخيرين لشرح تصوراته عن علم الاجتماع الذي تبنى الدعوة إليه.
لتعزيز دعوته لتأسيس علم الاجتماع، قال كومت إن العلم الجديد سيعالج المشكلات التي يعاني منها المجتمع.
كان هذا في أعقاب الثورة الفرنسية، بكل ما جلبته من تحديات لبلده فرنسا. ربما كان هذا أحد الفروق المبكرة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، فبينما لعب الفضول والرغبة في الاكتشاف والمعرفة الدور الرئيس في تطوير العلوم الطبيعية، فإن المنفعة الاجتماعية كانت وراء الدعوات المبكرة لتأسيس العلم الاجتماعي، في مفارقة كبرى مع المآل التاريخي لنوعي المعرفة بعد قرنين من الزمان، حيث تضاعفت القيمة النفعية للعلوم الطبيعية آلاف المرات، فيما تحوم شكوك حول المنفعة التي تجلبها العلوم الاجتماعية. صحيح، إن بعض مؤسسي العلم الطبيعي الحديث - فرنسيس بيكون نموذجاً - دعوا العلماء لتركيز جهودهم على المعرفة المفيدة، إلا أن هذا لم يكن سوى رأي الأقلية الذي لم يتوقف عنده أحد، حتى إن العلم الحديث لم يسهم مباشرة في تطوير المخترعات وزيادة الثروة إلا بعد فرنسيس بيكون بأربعة قرون.
فالمخترعات الحديثة، التي غيرت شكل العالم خلال الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم تتم على يد علماء، إنما تمت على يد فئة جديدة من المبادرين المبتكرين، الذين امتلكوا معارف تقنية، وقدراً مناسباً من الثروة، واتبعوا أساليب التجربة والخطأ لتطوير مخترعات عظيمة مثل النول الميكانيكي والقاطرة البخارية والمصباح الكهربائي ومحرك الاحتراق والسيارة.
لقد تم تطوير كل هذه المخترعات بعيداً عن الأكاديميات العلمية، وعلى يد مستثمرين طموحين. «المستثمر المخترع» هو الفئة التي قادت الثورة الصناعية، وكان على العالم أن ينتظر حتى القرن العشرين لتتكون الرابطة الأقوى بين العلم والتكنولوجيا والصناعة في عصر اقتصاد المعرفة الراهن.
العلوم الطبيعية تدرس الثبات والاستمرارية، بينما العلوم الاجتماعية تدرس التغير والانقطاع، وهذا فارق شديد الأهمية بين نوعي المعرفة.
المادة بأشكالها وأحوالها هي موضوع دراسة العلوم الطبيعية، بكل ما تتسم به المادة والقوانين الحاكمة لها من ثبات منذ الانفجار الكبير. على العكس من ذلك فقد ولد العلم الاجتماعي في القرنين الثامن عشر والتاسع، عندما أخذ المجتمع في التغير بسرعة بسبب المطبعة، وانتشار التعليم، والصناعة، وسهولة السفر، وتراكم الثروات، وظهور طبقات اجتماعية جديدة، ونشوب ثورات كاسحة قلبت النظام الاجتماعي رأساً على عقب.
هذه التغيرات السريعة هي ما لفت نظر علماء الاجتماع، وهي السبب الذي من أجل دراسته تأسس العلم الاجتماعي، فهل درس الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع، ماركس ودوركايم وفيبر، شيئاً سوى التغير الاجتماعي؟
العلم الطبيعي يدرس الظاهرة الطبيعة الثابتة فيشرحها (explain)، فيما العلم الاجتماعي يدرس الظاهرة الاجتماعية المتغيرة، فيزيد معدلات تغيرها سرعة.
عندما يقول الماركسيون إن الرأسمالية نظام محكوم عليه بالسقوط بفعل تناقضاته، وإن الثورة هي طريق خلاص البروليتاريا المعذبة، فهم يحرضون العمال لتنظيم أنفسهم، بينما تأخذ الحكومات والرأسماليون حذرهم، فيقدمون تنازلات للعمال، ويجتهدون لاختراق تنظيماتهم النقابية والحزبية، فتكف الطبقة العاملة عن أن تكون معذبة، ولا تحدث الثورة، ويستمر النظام الرأسمالي باقياً.
الماركسية، ومثلها كل النماذج المعرفية راديكالية الطابع، تخلط بين تفسير الظاهرة الاجتماعية والعمل بنشاط لتغيير الواقع الاجتماعي.
الحركية الأكاديمية (academic activism) المنتشرة في جامعات غربية كثيرة ترفع الحواجز بين قاعات الدرس والميدان، فيجري تسييس العلم الاجتماعي، وتختلط وظائف الشرح والتفسير والتعبئة والتحريض والتغيير.
علوم الطبيعة تراكمية، تتراكم فيها المعرفة طبقة فوق أخرى بشكل تدريجي، فيبحث العلماء كل في مجال اهتمامه، انطلاقاً من الافتراضات نفسها المستمدة من النموذج المعرفي paradigm، الذي يتوافق العلماء على صلاحيته كنموذج تفسيري للكون وظواهر الطبيعة، والذي يعد العمل في إطاره شرطاً للتمتع بالشرعية والاعتراف من الجماعة العلمية.
غير أن المشكلات تتراكم، ويتزايد عدد الأسئلة التي يعجز النموذج المعرفي السائد عن الإجابة عنها بشكل مقنع، فيظهر نموذج جديد يقدم إجابة عن الأسئلة التي وقف النموذج السابق أمامها عاجزاً.
هذه هي لحظة حدوث الثورة العلمية، التي يحدث فيها ما أسماه توماس كون «استبدال النموذج (paradigm shift)»، فيحل النموذج الجديد محل النموذج القديم، وتنتقل الممارسة العلمية كلياً إلى الإطار والنموذج الجديد.
لقد مثل النموذج المعرفي الذي طوره إسحاق نيوتن في نهايات القرن السابع عشر، النموذج المتوافق عليه بين كل العلماء لأكثر من قرنين من الزمان، حتى جاء ألبرت أينشتاين في مطلع القرن العشرين ليضع نظرية النسبية، لتصبح هي النموذج والإطار الجديد الذي تتم الممارسة العلمية في داخله، وفقط في داخله.
تتطور العلوم الاجتماعية وفقاً لمنطق مختلف، فهناك قدر أقل من التراكم وقدر أكبر من التوازي والتجاور. دارس العلوم الاجتماعية لا يمكنه التقدم إلى الأمام دون أن يقرأ الأصول الكلاسيكية بنفسه، والعلماء الاجتماعيون ما زلوا يقرأون ماركس وفيبر وميكيافيللي وأرسطو.
على العالم الاجتماعي الجيد أن يبدأ القصة من بدايتها في كل مرة؛ لأن التراكم محدود، ولأن كل قراءة طازجة للكلاسيكيات تخلق فرصة لتأسيس جديد تماماً. أمر كهذا لا يعد ضرورياً بالمرة لدى علماء الطبيعة، فالمرء بإمكانه أن يصبح عالم فيزياء متميزاً دون أن يقرأ النصوص التي كتبها كوبرنيكس وجاليلي ولا حتى نيوتن، فهو يصدق ما نقله له عنهم من سبقه من العلماء؛ لأنهم جميعاً يعملون ضمن النموذج المعرفي نفسه، ويفهمون النصوص العلمية بالشكل نفسه.
النماذج المعرفية في العلوم الاجتماعية لا تزيح بعضها، أو تحل محل بعضها البعض. النماذج الجديدة تظهر، فتزاحم النماذج القديمة، لكن لا تحل محلها. الماركسية والحركات الاجتماعية والبنائية الوظيفية والنسوية وما بعد الكولونيالية، هي قائمة جزئية بنماذج معرفية شائعة في العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. تعدد النماذج المعرفية، وما يأتي معها من تعدد البرامج والتقاليد البحثية يصيب العلم الاجتماعي بالتفتت، ويجعله فاقداً لبؤرة التركيز، له هويات متعددة، فنبدو أحياناً كما لو كنا نتحدث عن علم اجتماعي متعدد، وليس علم اجتماعي واحد.
لكن ماذا يبقى من العلوم الاجتماعية لو فقدت التعددية الراهنة؟ هل ستصبح العلوم الاجتماعية أفضل حالاً لو انضبط العلماء جميعاً في إطار نموذج معرفي واحد، الماركسي أو الوظيفي أو النسوي؟
الإجابة هي بوضوح لا.
يبدو أن تشتت الهوية هو الثمن المتعين على العلم الاجتماعي دفعه للحفاظ على التعدد الضروري لفهم ظاهرة اجتماعية معقدة تستعصي على التبسيط والاختزال.
ربما كانت المشكلة ليست في تعدد النماذج المعرفية، وإنما في حروب القبائل التي تنشب بين جماعات العلماء والباحثين من المدارس العلمية المختلفة، والتي تمنع تعظيم الاستفادة من تعدد النماذج والمدارس، فتدفع المعرفة لتعدديتها ثمناً أعلى بكثير مما يمكن أن تدفعه لو أن هناك درجة أعلى من التعايش والتعاون العابر للنماذج المعرفية.
* باحث مصري



جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.