هل العمل الإبداعي الأول «مراهقة أدبية» تتطلّب «رأفة» الناقد؟

أدبار كبار حرقوا أعمالهم الأولى وآخرون كتبوا أعمالاً ناضجة

د. عادل الأسطة  -  الروائي يحيى يخلف
د. عادل الأسطة - الروائي يحيى يخلف
TT

هل العمل الإبداعي الأول «مراهقة أدبية» تتطلّب «رأفة» الناقد؟

د. عادل الأسطة  -  الروائي يحيى يخلف
د. عادل الأسطة - الروائي يحيى يخلف

هناك أدباء كثيرون تخلوا عن أعمالهم الأولى واعتبروها ضربا من المراهقة. وهنا أشير إلى محمود درويش وديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة». وأعتقد أنها حالة كثير من الأدباء، ومنهم مشاهير. منهم مثلاً عبد الرحمن منيف الذي لم ينشر روايته الأولى «أم النذور» في حياته، ونشرت بعد وفاته. وحين يمعن المرء فيها فإنه لا يرى أنها تنبئ بموهبة واعدة. لكن نشرها لاحقا، وكذلك الالتفات إلى ديوان محمود درويش الأول مهم للكتاب الشباب، لأن ذلك يطمئنهم بأن من بلغوا مكانة عالية في عالم الإبداع لم يولدوا مكتملين. ولو تعامل النقد مع الأعمال الأولى بقسوة فقد يحطم مواهب كثيرة، لهذا يفضل التعامل مع العمل الأول، تحديدًا، بقدر من الرأفة.
بهذه المداخلة الموجزة، بدأ الناقد الفلسطيني د. عادل الأسطة، أستاذ اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، حديثه حول العمل الإبداعي الأول وهل يجب التعامل معه بشيء من الخصوصية من قبل القراء والنقاد على حد سواء.
قال الأسطة: «هناك أعمال أولى لكتاب معينين بدت ناضجة حقا. كلنا يذكر (سداسية الأيام الستة)، و(المتشائل) لإميل حبيبي. وهو ليس حالة استثنائية في الأدب الفلسطيني، فهناك كتاب شباب قدموا أعمالا أولى لقيت الاستحسان، كرواية (كافر سبت) لعارف الحسيني على سبيل المثال لا الحصر، وهناك غيرها».

* تأنّ وتخلّ
ورأى الأسطة في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن كثيرًا من الكتاب يكونون فرحين، ويرغبون في أن يكون عملهم الأول منشورا، وقليلون هم من يتأنون. والذين لا يتأنون، وإن كتبوا أعمالا لاحقة ناضجة، يتخلون عن عملهم الأول. وقال: «لم يكن محمود درويش استثناء، فالشاعر الفلسطيني المتوكل طه أعدم ديوانه الأول. وحين أعد طالب ماجستير دراسة عن المتوكل شاعرا، طلب الديوان الأول منه، فرفض المتوكل أن يعطيه النسخة. تصور لو تعامل النقد بقسوة مع العمل الأول للمتوكل طه، فإنه قد يحطمه، وحينها سيكون الأدب الفلسطيني خسر شاعرًا وكاتبًا أرى أنه جيد».

* هجرة الأدب
وأضاف الأسطة: «أنا مثلا ملوم لأنني لا ألتفت إلى أعمال الشباب، وأركز على أسماء محددة. تعلمت من التجارب ألا أجازف وأنفق وقتي على تناول أعمال أولى بالنقد. والسبب أن أكثر أصحابها سرعان ما يتركون عالم الأدب بعد العمل الأول، وينصرفون إلى شؤون حياتية أخرى. فالأدب ليس جوهريا في حياتهم. غالبية النقاد يكرسون أقلامهم لأسماء ترسخت في عالم الأدب ولا يجازفون في تناول أسماء جديدة».
وتابع الأسطة: «تصور كم من كاتب أصدر عمله الأول ثم توقف ولم يعد يلتفت إلى الأدب. وهناك من كان ينبئ عن موهبة حقا، لكنه لم يواصل. وبهذا الخصوص، أتذكر تساؤل فاروق وادي في كتابه (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية): هل يكرس الكاتب أديبا من خلال عمل واحد؟ والجواب طبعا هو: قلة من الكتاب من يكرسون أدباء بكتاب واحد».
وختم الأسطة حديثه قائلا: «بالإضافة إلى ما ذكر، هناك ملاحظة مهمة جدا بخصوص العمل الأول للكاتب أو الأعمال الأولى. وهي أن كثيرا من الكتاب يكونون صادقين في أعمالهم الأولى، تكون لافتة. لكنهم هم أنفسهم يبدأون بكتابة مختلفة تفتقد الصدق والحرارة. وقد يكون السبب أنهم أخذوا يعملون في مؤسسات سلطة ما، ويريدون أن يحافظوا على مراكزهم. وهكذا ينتجون نصوصا مختلفة لكنها ليست فاعلة. تستغرب أنني معجب بأعمال مبكرة لكتاب لم أعد اقرأ نصوصهم الأخيرة، وأعتقد أنها باتت غير ذات جدوى».

* ما بين جيلين
وحول الأعمال الإبداعية الأولى، شدد الروائي والكاتب الفلسطيني يحيى يخلف، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، على أن ثمة حالة من الاستسهال لدى البعض في الكتابة والنشر هذه الأيام. وقال: «بالنسبة لنا كنا نرى أن الكتابة مسؤولية، فكان الكاتب مثابرًا وقارئًا ومتابعًا، ولم يكن ينشر كتابه الأول، إلا بعد أن يكرّس ككاتب من خلال المجلات الأدبية المرموقة. وكانت هناك مجلة (الآداب) في بيروت أيامنا، ومجلة (الأديب)، ومجلات مصرية متخصصة عدة. وفي ذلك الوقت، كانت معايير دور النشر صارمة، وليس كما هي الحال الآن، إذ بات بإمكان أي كاتب نشر ما يريد بمجرد أن يدفع مبالغ نقدية متفقا عليها مع ناشر ما. الكتاب من أبناء جيلي كانوا قارئين للتراث والأدب الحديث على المستوى العربي والعالمي. وبالتالي كان الكتاب في الأساس قراء حقيقيون. ومن لا يقرأ التراث، على المستويين الشعري والنثري، برأيي، لن يكون كاتبًا وازنًا».
وأضاف يخلف: «أقرأ لكثير من الشباب ممن يكتبون قصيدة النثر، وأشعر مع غالبية ما أقرأ، وليس جامعه، بأنه يفتقد الثقافة واللغة الرشيقة والعميقة في آن. وكثير منهم يكرر بعضهم بعضا، بل إن بعضهم يعيد توليف مفردات محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف، لكن هذا لا يعني أن لا مبدعين هناك. هذا الأمر لم يكن حتى مع من تعاطوا مع الحداثة في الأجيال السابقة من الفلسطينيين، كدرويش وسميح القاسم، وحتى من سبقهم كإبراهيم طوقان، وأبو سلمى، وغيرهم».
وحول تجربته الشخصية، أشار يخلف إلى أن روايته الأولى «نجران تحت الصفر» حققت حضورًا لافتًا عند نشرها، وقدمته للمشهد العربي، لكنها لم تأتِ مصادفة، بل بعد مراكمة كثير من الكتابات الإبداعية، عبر مجلة الأفق الجديد في القدس وغيرها من المجلات العربية آنفة الذكر. وقال: ««لو جمعت تجاربي في (الأفق الجديد)، وقمت بطباعتها لما حققت ما حققته الرواية أو حتى المجموعة القصصية الأولى لي (المهرة). ولذلك أرى أن على الكتاب الجدد التأني قبل الخروج بالأعمال الأولى لهم، وأن يعمدوا إلى نشر نصوص لهم في صحف ومجلات، لينتشروا، وليتم تقييم إبداعاتهم، قبل الدخول في معمعة نشر العمل الأول، سواء أكان مجموعة شعرية أو رواية، أو مجموعة قصصية، أو غيرها».

* ضد التحطيم
وأكد يخلف أنه ليس مع تحطيم أي عمل أول طموح، وأنه يرى أن «على الناقد التركيز على ما هو إيجابي، من دون إغفال السلبيات. وهذا ما كان يقوم به الدكتور إحسان عباس، إذ يزيد لمعان النقاط المضيئة في النص على علاته. قد يكون في الكتاب الأول كثير من الثغرات، ولكن قد يكون كتابه الثاني مختلفًا. ولدينا من الكتاب الشباب من كرسوا أنفسهم كزياد خداش، وأكرم مسلم، وعاطف أبو سيف. وهؤلاء يكتبون الرواية والقصة القصيرة، وليس الشعر الذي بات نثريًا في فلسطين، وفي غالبيته ليس جيدًا. أفضل أن يكرس الكاتب نفسه قبل العمل الأول، وتبقى الموهبة والثقافة هي الأساس».
وشدد يخلف بشيء من غضب الحريص على مسيرة الإبداع في فلسطين، على القول بأنه «لا يجب اعتبار الأدب جحشا ضالا يحق لأي كان القفز على ظهره».



الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية
TT

الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية

حكاية الإنسان على الأرض ومسيرته في الحياةِ تتعددُ باختلافِ الألسنِ وتباينِ الثقافاتِ، وتتحدُ بالمقابلِ في لغةٍ كونيةٍ جامعةٍ عندَ تعبيرها عنْ مفهومِ الأوطانِ. فالوطنُ حقيقةٌ فطريةٌ، ونزعةُ ذاتية اليقينِ، تتماهى فيها الأنا بموضوعها بما يشكلُ هويتها ويرسمُ مسارها، فيصبحُ الوطنُ هوَ جسد الإنسانِ الكبيرِ الممتدِ باتساعِ حدودهِ. وللسردِ تقنيتهُ الخاصة وطرقه المختلفة في التعبير عن مشاعر القاص الحميمية وقيمه النبيلة التي يرفعها عالياً ويحتفي بها كما هو نهجه اتجاه وطنه. فتارة، تُبرق العواطف على شكل غنائية تنتشي بها حروفه وتتضوع بها جمله وتتشرب بها حكاياته. وأخرى، تنكشف العواطف مسرودة بكثير من التفاصيل في نسيج من الحكايات التي هيضها الحنين إلى زمن ماضٍ في بقعة كانت مسرحاً لتلك العواطف وحاضنة لها.

من جانب آخر، نلحظ أن السرد، خصوصاً في جنس القصة القصيرة، وعند تناوله لموضوع الوطن، يفضل أن يختار - في الغالب - بين ثلاث طرق عند استعراضه لعواطفه: الوطن مختزلاً في مكان، أو الوطن من خلال أحد رموزه وشعاراته، والثالث عندما يوظف القاص تقنية «التجريد» ليتناوله من زاوية الوجدان. وفي جميع طرق التناول، نجد أن السرد بتعدد أساليبه، يستعير من الشعر بعض أدواته مثل الكناية والمجاز وأحياناً الاستعارة، ليخلق من ذلك صوراً شعريةً يتقارب فيها مع جنس القصيدة بصيغتها النثرية.

قبضة من تراب، نثار الذهب:

في النموذج الأول «الوطن برمزية المكان» يطالعنا تركي الرويثي في قصته «طمية»، بإحدى تقنيات السرد بتدوير الزوايا لخلق منظور مختلف لرؤية الموضوع. ففي قصته، يتأنسن المكان، ويكتسب صفة الأنثى، ويصبح الجبل كائناً أسطورياً، واعياً متكلماً: «أنا جبل، أنثى جبل، هل قلت لكم هذا من قبل، ذاكرتي أكلتها الأيام والليالي، هل قرأتم قصتي؟». بل يمتلك الجبل المقدرة على الحركة والترحال في مساحة شاسعة من الجغرافيا: «حدث أن جبلاً يقال لها (طمية)، تمردت وسارت في ليلة ظلماء... فرأت جبلاً أبيض يقال له (قطن) يختلف عن جبال منطقتها السوداء». يبوح الجبل بعواطفه متحدثاً عن نفسه وعن مشاعر من سكن بجواره بصيغة سردية مبتكرة: «إني أنتظركم، فتعالوا بسرعة، عن أي سرعة أتحدث، من مضى على مكوثها قرون، بأي قياس تقاس السرعة عندها؟ هذه الأمور نسبية، السرعة والحقيقة وكل المحسوسات والمعارف، اسألوني فأنا التي أعرف، لا يهم، المهم أن تأتوا وتحيوني، لا تنسوا».

ما يحاول القاص إثارته من خلال أسطرة المكان، أن يعبر عما يجيش في وجدان الجماعة ومخيالها إزاء نظرتها وحفاوتها بعظمة الطبيعة الحاضنة للإنسان والمترفقة به، وباعتبار أن ذلك اللاوعي الجماعي، بمثابة المستودع الذي تتوارثه الأجيال، ويشتمل على صور مترابطة وزخارف رمزية كثيرة تكمن لا شعورياً في أنفسهم، كما يراه عالم النفس يونغ.

سليل النخلة، حفيد الوطن:

أما ناصر الحسن في قصته «تباريح الصرام» - كنموذج لتوظيف الرمز الوطني - فهو يتناول مفهوم عشق الوطن من خلال أحد رموزه التي شكلت جزءاً من علامته وشعاره، أي النخلة، باعتبارها رمزاً وطنياً بامتياز، وذلك من خلال توظيفه لها في حكاية. لون من التذكير بالماضي الذي هو إحدى مهمات الكاتب «للتذكير بمجد الماضي من أجل الإبحار نحو المستقبل»، كما يقول ويليام فوكنر.

ناصر الحسن يصف العلاقة بالنخلة بصيغة سردية - شاعرية في نصه: «جذبه حفيف السعف وهو يختلط مع أصوات البلابل كمقطوعة كونية، شنفت أسماعه وهو يلف (كرّ) النخل حول خصره النحيل، استعداداً لصعوده، رفع رأسه مبتسماً ينظر إلى هام النخلة كمن يستأذن سيدة نبيلة للرقص، يتأكد من ربط الحبل جيداً، يقبض عليه بسواعد قروية جافة كتربة قبر منسي، ثم يضع رجله على جذعها المموج الدافئ بحكايا الأجداد، أخذ في الصعود وهو يستذكر موطئ قدم أبيه وجده، وفي كل مرة يباعد (الكر) عن جذع النخلة، يلتحم معها كمن يريد ضم معشوقته لأول مرة، يتنشق عبق تمرها يخطو في مدارجها وصوته يبح عن همهمة خفيضة، يبتعد عن الأرض فيصغر الحقل في عينيه كطائر مسافر، يقترب من نصفها فتهرب العصافير من سعفاتها، يتردد صدى الذكريات في رأسه: النخلة أمنا يا ولدي، تغذينا وتطعمنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت باراً بها، فاحرص على رعايتها كحرصك على عينيك».

الهوية... المجرد والحسي:

قد لا يكون الإيحاء بالمعنى ميزة سردية بشكل مطلق، لكن عندما يستعير السرد هذه الأداة من الشعر، فهو في حقيقة منزعه محاولةً لاستطالة أفق انتظار القارئ للمعنى المراد إيصاله. ففي القصة القصيرة بشكل خاص، تقوم هذه التقنية أو الأداة بمناورة المتلقي ولا تمنحه المعنى بسهولة؛ كحبل طويل في نفق مظلم يمسك به القارئ حتى نهايته للوصول إلى المحطة التي استدرج فيها القاص قارئه. بينما تقنية الإيحاء بالمعنى في القصيدة الكلاسيكية لا تتعدى نطاق البيتين حتى تتضح قصدية الشاعر.

فمحمد الراشدي في قصته «بطاقة هوية» - كنموذج ثالث - يوظف هذه التقنية بمهارة شديدة، وينوع على مفهوم «الهوية الوطنية» باصطناع مفارقات لفظية وحبكات درامية مختلفة. يستعرض فيها مدلولات المعنى وفق أحداث يمتزج فيها الخيالي بالواقعي، مشكلاً مشاهد فانتازية. فالقاص، يستعرض في سرده عمق وتجذر الهوية الوطنية في الوجدان، وينزلها من مفهومها «التجريدي» إلى الحسي الملموس.

الحكاية تبتدأ بهذا المشهد: «اكتشفت ذلك أول مرة مصادفة؛ حين ناولني موظف الأحوال المدنية بطاقة الهوية الجديدة. كانت أنيقة وصقيله وبياناتها مخطوطة بحروف وأرقام واضحة. راجعت البيانات على عجل وحين تأكدت من صحة المكتوب فيها، قمت أحاول إدخالها في الجيب المخصص لها من المحفظة. كان مقاسها أكبر قليلاً من مقاس جيب المحفظة، وعندما حاولت أن أضغط طرفها قليلاً لأسلكها عنوة في الجيب؛ انغرس الطرف المرهف في إبهامي حتى نضحت قطرة دم صغيرة على حافة البطاقة. عرفت لحظتها أن بطاقة الهوية الجديدة تلك لا تشبه بقية البطاقات في محفظتي؛ فهي إلى جانب أنها لامعة جداً، وأنيقة جداً؛ هي كذلك مرهفة الحواف جداً إلى الحد الذي يمكن معه أن تجرح وتنهر الدم...».

إذن، هذا هو مشهد التهيئة والمدخل إلى المفهوم العميق للهوية باعتبارها عاطفة فطرية سامية غالباً، ولها جانبها الآيديولوجي الذي يجب التعاطي معه بحذر. ولعل ذلك المعنى يتضح بتقدمنا في قراءة النص: «كان استخدامي لتلك (الْهَوَيَةْ) كما ينطق الناس اسمها مختصراً هنا - في مواضع القطع والبتر والجرح أكثر بكثير من استخدامها فيما أعدت لأجله، وفي المرات القليلة التي كان فيها شرطة نقاط التفتيش يطلبون فيها أوراقي الرسمية؛ كنت أضحك في نفسي حين أتخيل أنهم سيعتقلونني بتهمة حيازة سلاح أبيض وإشهاره أمام رجال الأمن».

وفي الجزء الأخير من الحكاية، يعود الخطاب السردي إلى التجريد في المفهوم مجدداً؛ ويكون فضاؤه هذه المرة هو الحلم، حيث المساحة التي تمهر فيها المخيلة وتنشط للبوح: «وفي المساء كنت أراني في المنامات دائماً في حشود من البشر تحتدم بينهم طبول مجنونة الإيقاع. وهويتي في المنام تستحيل خنجراً طويلاً معقوفاً وفاخراً... كنت أشق الجموع... أرقص بينهم العرضة وخنجري يبرق كالشهاب فوق هامتي. وفي المنام أيضاً كنت أنازل بخنجري غرباء أراهم في الحلم أشراراً تتمزق أوصالهم بحد هويتي».

رؤية قيد الاختبار

بهذه النماذج الثلاث، يمكننا الوصول إلى استنتاج واضح فيما يخص الأسلوب السردي في القصص القصيرة عند تناوله لموضوع الوطن؛ فهو يصبح عاطفياً، شاعرياً، تجمح فيه العواطف بمحرضات الحنين إلى زمان «طوباوي»، وتتقاطع مع أمكنة أثيرة مكونة حدثاً ورؤية متخيلة؛ لوصف مشاعر الذات إزاء موضوع تُعلي من شأنه ويسكن عميقاً في حناياها؛ فتترجمه في جنس أدبي يمتزج فيه السردي بالشعري. فالتناول بوحي الحنين «نوستالجيا» كان مدلوله في السابق «مرضاً منغمساً في الماضي»، بينما ينظر إليه اليوم «باعتباره عاطفة مبهجة تعيد صياغة المستقبل»، كما ترى ذلك المؤرخة في تاريخ الطب أغنس أرنولد فوستر.

وفيما عدا النماذج السابقة، يتم تناول الموضوع الوطني في القصص القصيرة السعودية بطريقة غير مباشرة، وعلى شكل إشارات تبرز التحولات الجذرية في حياة الفرد السعودي، وحقبة دخوله في العصرنة والحداثة بفعل خطط التنمية والإنجازات الكبرى المتحققة، وهو تعبير عن الامتنان والشعور بالعرفان، وتطلعات لاستشراف المستقبل. وبهذا، يكون القاص، كما هو الشاعر في نظمه، قد عبر عن مجتمعه بأسره؛ لأن القصة لا تكتفي بسرد مغامرات أفراد فحسب، إنما سرد «المجموع الذي ندعوه (مجتمعاً)، وهو لا يتألف من أناس، بل من كل ما هو مادي وثقافي»، كما يقول ميشيل بوتور.

كاتب سعودي