ظاهرة أميركية جديدة: صحافة عمل الخير

رئيس تحرير «نيويورك تايمز» ينتقل إلى الأعمال الإنسانية

بيل كيلار، رئيس تحرير سابق في صحيفة «نيويورك تايمز»
بيل كيلار، رئيس تحرير سابق في صحيفة «نيويورك تايمز»
TT

ظاهرة أميركية جديدة: صحافة عمل الخير

بيل كيلار، رئيس تحرير سابق في صحيفة «نيويورك تايمز»
بيل كيلار، رئيس تحرير سابق في صحيفة «نيويورك تايمز»

أثار تعيين بيل كيلار، رئيس تحرير سابق في صحيفة «نيويورك تايمز»، رئيس تحرير لصحيفة خيرية، الحديث عن ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة: صحافة عمل الخير. ما عدا صحف مسيحية، أو شبه مسيحية (مثل «كريستيان ساينس مونيتور»، والتي، أخيرا، لم تقدر طبعتها الورقية على منافسة الإنترنت)، فهذه ظاهرة جديدة، لأكثر من سبب:
أولا: فتح الإنترنت آفاق صحف إلكترونية تنافس، بل تتفوق على، الصحف المكتوبة.
ثانيا: تظل صحف الخير ذات الميول الدينية (أو العرقية، أو الوطنية، أو الجنسية) أقل مصداقية ونزاهة وشفافية من الصحف المستقلة.
ثانيا: اهتم «الأثرياء الجدد»، من ثروات التكنولوجيا واستثمارات مغامراتية في «وول ستريت» (شارع المال في نيويورك)، بعمل الخير ربما أكثر من «الأثرياء المخضرمين» الجدد مثل: بيل غيتس، ملياردير «مايكروسوفت».. ووارين بافيت، ملياردير استثمارات «هاثاواي».
واحد من هؤلاء الجدد هو نيل بارسكي. في الحقيقة، كان صحافيا في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وكان يغطي استثمارات «وول ستريت»، ثم تعرف بمستثمرين. وقال لهم إنه يريد أن يكون ثريا. أولا، انضم إلى شركة «مورغان ستانلي» الاستثمارية. ثم أسس شركة خاصة به «ألسون كابيتال». وخلال سنوات قليلة، صار من المليارديرات، وصار يسهم في عمل الخير.
وفي هذا المجال، أسس مؤسسة خيرية لإنتاج أفلام «محايدة»، ثم أسس «مارشال بروجكت» (مشروع مارشال) لإصدار صحيفة إلكترونية، تتخصص في التحقيقات الصحافية، وفي هذا، تتخصص في مجال الجريمة والقانون.
واختار كيلار رئيسا لتحرير الصحيفة. كان كيلار تقاعد من رئاسة تحرير «نيويورك تايمز» قبل ثلاث سنوات، وتحول إلى كاتب عمود (عمره الآن: 65 عاما). وكان نال جائزتي «بوليتزر» لأحسن الأعمال الصحافية:
أولا: بسبب دوره في كشف فساد النظام الشيوعي في روسيا (عندما كان مراسلا للصحيفة هناك).
ثانيا: بسبب دوره في كشف فساد النظام العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا (عندما كان مراسلا للصحيفة هناك).
ما هو رأي رئيسه، آرثر سالسبيرغر، ناشر صحيفة «نيويورك تايمز»؟ قال «خلال ثلاثين سنة، قدم بيل إسهامات لا حدود لها للصحيفة. كان يتحدى الصحافيين للإبداع، مع المحافظة على تقاليدنا العريقة في التغطية الصحافية الكاملة والنزيهة. وبفضله، تغيرت الصحيفة نحو الأحسن».
ما هو رأيه هو، بيل كيلار؟
قال «قبلت هذه الوظيفة لأنني أنهيت مرحلة طويلة من حياتي، ورأيت أن أدخل مرحلة أخرى. بعد أن حلمت، واخترت، ونجحت، هذه فرصة لم أحلم بها. لسبب بسيط، وهو أنها مجال جديد في عصر الإنترنت». وأضاف «سأبدأ من الصفر. لم افعل ذلك في الماضي. لهذا، هذا تحد حقيقي».
عن هذا «المجال الجديد في عصر الإنترنت»، قال «تقدم التكنولوجيا الرقمية فرصة جديدة للصحافيين. ولا بأس من التركيز على مجال أهمل في الماضي، وتقدر التكنولوجيا الرقمية على المساعدة. هذا هو مجال إنفيستيغيتيف جورناليزم (صحافة التحقيقات)».
عن هذا، قال جون بيلغار، مؤلف كتاب «تيل مي نو لايز» (لا تكذب علي: التحقيقات الصحافية التي غيرت العالم) «تركز صحافة التحقيقات على موضوعين رئيسين: كشف الظلم الواقع على الناس، بهدف تطبيق العدالة عليهم. وكشف الفساد، خاصة الفساد السياسي، بهدف تحسين النظام السياسي».
غير أن هذا المجال لم يكن تطور كثيرا:
أولا: بسبب إمكانيات الصحف المالية التي ربما لا تقدر على - أو لا تريد - دفع رواتب صحافيين يقضون شهورا للتحقيق في موضوع واحد (ولا يكتبون في غيره).
ثانيا: بسبب انشغال الصحف بالأخبار اليومية. بالإضافة إلى نشر آراء وتعليقات يومية. لأن التحقيقات الصحافية تحتاج إلى وقفة، وتخطيط، وميزانية، لاختيار موضوع واحد لكشف أسراره.
ثالثا: مقاومة الحكام والسياسيين والمستثمرين ونجوم المجتمع للصحافيين الذين يريدون كشف أسرارهم. ورغم أن هذه مشكلة كبيرة جدا في دول العالم الثالث، توجد، أيضا، في دول متقدمة وديمقراطية، مثل الولايات المتحدة.
وهكذا، تحالف صحافي عريق وصحافي صار مستثمرا (كيلار وبارسكي) للتركيز على هذه المجال. وتحالفا عن طريق وسيلة جديدة، هي: صحافة عمل الخير.
وكتب جاستين إيليز، في مؤسسة «نيمان» الصحافية في جامعة هارفارد «تهدف صحافة عمل الخير غير الربحية للانتباه إلى مشاكل كبيرة، لكنها تهمل بسبب العمل الصحافي اليومي السريع. وبسبب قلة الإمكانيات المالية».
من بين هذه المؤسسات غير الربحية:
أولا: «بروبابليكا»: في عام 2007، تأسست في نيويورك. وفي عام 2010، صارت أول صحيفة تحقيقات صحافية في الإنترنت تنال جائزة «بوليتزر». يعمل فيها أكثر من عشرين صحافيا متفرغا. ومؤخرا، اتفقت مع صحيفة «نيويورك تايمز» على نشر تحقيقاتها. وتتعاون مع صحف أخرى، ومع قنوات تلفزيونية، مثل برنامج «60 دقيقة» في تلفزيون «سي بي إس» (أشهر، وأقدم، برنامج تحقيقات صحافية تلفزيونية). في عام 2007، قررت مؤسسة «ساندلر» الخيرية اعتماد ميزانية عشرة ملايين دولار لإصدار صحيفة «تكشف ما تخفي الصحف».
ومثلما انتزعت مؤسسة «مارشال» كيلار من صحيفة «نيويورك تايمز»، انتزعت مؤسسة «ساندلر» بول ستايغار من صحيفة «وول ستريت جورنال.» ولم يخيب أملها.
ثانيا: «بروجكت إكس»: تأسس مع نهاية العام الماضي. وأسسته شركة «فوكس ميديا» الخاصة التي بدأت في واشنطن في عام 2011. وتعمل في مجال أخبار وآراء وتحقيقات الإنترنت. ويزيد عدد متابعيها على عشرين مليون شخص. ولها أكثر من ثلاثمائة موقع. وتدفع لأكثر من أربعمائة كاتب. هذه المرة، لم تختر المؤسسة الخيرية صحافيا مخضرما، لكنها اختارت «صحافيا إلكترونيا» هو ازرا كلاين (عمره أقل من ثلاثين سنة). وكان من أوائل الشباب الذين رفضوا الانضمام إلى الصحف التقليدية، وأسس موقعا على الإنترنت لجمع ونشر الأخبار («التي لا يتابعها الصحافيون الكسالى»، كما كان قال). وبسبب نجاحه، اتفقت معه صحيفة «واشنطن بوست» على نشر أخباره. ثم اختارته صحافيا معها. وفي عام 2011، اختارته مجلة «جنتلمان كوارتارلي» (دورية الجنتلمان) واحدا من أهم خمسين شخصية في واشنطن.
ثالثا: «538 بروجكت»: صحيفة تحقيقات صحافية أخرى. تأسست عام 2008. ثم اشتراها تلفزيون «إي إس بي إن» الرياضي. وحولها إلى صحيفة خيرية، واختار لها الصحافي نات سيلفار.
يشير اسم الصحيفة إلى عدد أعضاء «الكترال كوليدج» (الكلية الانتخابية) التي، في كل انتخابات رئاسية، تمثل الولايات، حسب حجم كل ولاية وأصواتها، وتختار رئيس الجمهورية (في العصر الحديث، صارت النتائج تعرف قبل انعقاد الكلية الانتخابية). وواضح من اسم الصحيفة أنها تركز على التحقيقات الصحافية التي «تتابع ممثلي الشعب». هذه صحيفة أرقام (كان رئيس تحريرها صحافيا رياضيا يتابع أرقام وإحصائيات اللاعبين)، وتتابع سجل كل عضو في الكونغرس، والتبرعات التي قدمت له، والمواضيع التي صوت معها، أو ضدها.
وأخيرا، يبدو أن اختيار كيلار، صحافي «نيويورك تايمز» العريق، لرئاسة تحرير صحيفة إنترنت تتخصص في التحقيقات الصحافية، خاصة كشف حقائق الجرائم والقضاء، أثار الاهتمام بهذه الظاهرة الجديدة: صحف إنترنت خيرية لكشف ما لا تنشره عادة الصحف التجارية.
وأول الغيث قطرة هنا وقطرة هناك.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.