«الليالي البيضاء» و«الأشرعة الحمراء» في سان بطرسبرغ

مدينة عشقها الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين

سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
TT

«الليالي البيضاء» و«الأشرعة الحمراء» في سان بطرسبرغ

سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك التناغم المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية

ليالي البهجة في سان بطرسبرغ... الليالي البيضاء.. «جميلة.. جميلة. جمالا لا نراه إلا حين نكون في ريعان الشباب أيها القراء الأحبة! السماء تتلألأ فيها النجوم، وتبلغ من الصفاء أن المرء يتساءل على الرغم منه حين ينظر إليها.. هل يمكن تحت مثل هذه السماء أن يعيش أناس يملأ قلوبهم البغض، وتعبث بنفوسهم النزوات». هذا ما كتبه الأديب الروسي ذائع الصيت فيدور دوستويفسكي في رائعته «الليالي البيضاء» عن ظاهرة تتفرد بها هذه المدينة وإن نازعتها فيها كثير من بلدان الشمال.
وكما استعرض دوستويفسكي أحداث قصته «الليالي البيضاء» في ليالٍ أربع سرد خلالها ما سمي «الفانتازيا الرومانسية»، قد يكون من الممكن أن نستعرض ما قُيض لنا أن نعيشه من ليال بلغت وبمحض الصدفة أيضا أربعا، بين أحضان مدينة كانت ولا تزال تثير في النفس لوعة وفي القلب شجونا.
على ضفاف نهر «نيفا»، وحيث تتعانق روافده مع الخليج الفنلندي شمال شرقي بحر البلطيق شمال غربي روسيا، تحملنا الذكريات لنسترجع معها خلود اللحظة والموقع، يوم توقف بطرس الأول قيصر روسيا الجموح مع بزوغ فجر القرن الثامن عشر، ليمسح بناظريه ذلك المكان بحثا عن موقع يصلح خطا للدفاع الأول في مواجهة ملوك السويد وفرسان الفايكنغ الذين طالما استباحوا حرمة الأراضي الروسية.
على ضفاف نهر «نيفا» نتوقف.. نرمق بناظرينا بطرس الأول في تحفته التذكارية من إهداء يكاتيرينا الثانية، تخليدا لمأثرة كانت ولا تزال مفخرة روسيا على مر التاريخ. شَخَصَ مؤسس روسيا الحديثة وقد امتطى صهوة فرس جموح، باسطا يده صوب النهر عاليا، في حزم وقوة وكأنه إعلان عن قراره التاريخي حول إنشاء عاصمته الجديدة سان بطرسبرغ في هذا المكان، في لحظة تاريخية خلدها شاعر روسيا العظيم الكسندر بوشكين ذو الأصول الأفريقية في رائعته الشعرية «الفارس النحاسي».
إنها لينينغراد أو بيتر.. أو بيتروغراد.. أو سان بطرسبرغ. ليس مهما أي الأسماء أقرب إلى القلب والعقل. المهم أن كلا من هذه الأسماء والتسميات عنوان للوحة فنية شديدة التميز. لينينغراد بشوارعها ومبانيها، بقنواتها التي يبلغ عددها 93 قناة، وجزرها التي تجاوزت المائة، بجسورها التي يعدونها 342، وضواحيها المفرطة في الأناقة، كانت ولا تزال مفردات موسوعة أدبية ضمت بين دفتيها إبداعات أبرز رموز الأدب والثقافة والفنون على مر العصور. ولكم سجلنا غير مرة وعلى صفحات «الشرق الأوسط»، في ذكرياتنا مع هذه المدينة التي طالما أثارت المشاعر وهزت النفس من الأعماق، أنها «أنيقة في غير تكلف، جميلة في غير تبرج، معالمها تبدو منسجمة في وفاق مع الكثير مما يجيش في نفوس المحبين والعشاق. نسماتها مفعمة بأطياب تاريخ تتسلل إلى النفس لتشيع أجواء البهجة المفعمة بقليل من الأسى، حزنا ولوعة على ما كان وهو كثيرة صفحاته على مر تاريخ الأمس القريب».
سان بطرسبرغ.. أو لينينغراد أيهما أحب إلى القلب والنفس، تدعوك إلى أن تنضو القناع، فتأتيها ملبيا نداء يكتنفه غموض كثير، تنزلق في خطوات وجلة بحثا عما قد يعينك على مواجهة تبعات جنون غرام اللحظة.. فالمدن مثلها مثل البشر. قد تسلبك الفؤاد لتقع في غرامها من النظرة الأولى. إنها سيدة المدائن التي تأسر القلوب بلياليها البيضاء، وسمائها المرصعة بنجوم الفن والشعر والأدب والموسيقى. إنها المدينة التي يحترق معها الكيان تحت وطأة كبريائها الجميل.
التاريخ يقول إن بطرس الأعظم باني روسيا الحديثة، كان أسير رغبة جارفة راودته بعد أول انتصار بحري باهر أحرزه على ملك السويد كارل الثاني وحمله إلى مشارف بحر البلطيق، في أن يجد ضالته في هذا المكان. آنذاك اختار بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة وأحد أهم رموز نهضتها في ذلك الزمان إحدى الجزر المتناثرة في دلتا نهر النيفا لتكون قلعة الصمود، وأطلق عليها اسم اثنين من حواريي السيد المسيح «بطرس وبافيل»، وكانت النقطة التي انطلقت منها أكبر عملية بناء في تاريخ الدولة الروسية الحديثة. في مايو (أيار) 1703، أي مع مطلع القرن الثامن عشر، ظهرت المدينة التي أطلق عليها بطرس الأكبر اسم «القديس بطرس - سان بيتر»، وأضاف إليه «برغ» أي «المدينة» بالألمانية ليكتمل الاسم.. «سان بطرسبرغ» أو «سان بيترسبورغ». وسرعان ما ترامت أطرافها لتتحول تدريجيا إلى العاصمة الجديدة للدولة الروسية والتي طالما كانت ولا تزال «العاصمة الشمالية» أو «العاصمة الثقافية».
إذن يستمد التاريخ أصوله من بداية قرن يصفونه بالجنون والحكمة. هكذا قال أديب عصره الذائع الصيت ألكسندر راديشيف، الذي سجل بعضا من ملامح تلك الحقبة التاريخية في كتابه «رحلة من بيتربرغ إلى موسكو» الذي صادرته السلطات القيصرية في حينه وكان مبررا لنفي مؤلفه إلى سيبيريا.
وإذا كان تاريخ المدينة يستمد أصوله من بداية قرن وصفه راديشيف بأنه خليط بين الحكمة والجنون، فإن ما تلا ذلك من أحداث كان أقرب إلى الجنون منه إلى الحكمة، وإن رأى البعض ما هو على النقيض من ذلك. ولعل ما شهدته هذه المدينة الجميلة الرقيقة التي تحمل عن جدارة واستحقاق اسم العاصمة الثقافية للدولة الروسية على امتداد تاريخها من «كرنفال» يكشف عن مدى مأساوية وقوع حكامها في شرك تغييرات الأسماء التاريخية، ومنها الاسم القديم للمدينة والذي كان اختاره لها مؤسسها بطرس الأعظم. فمع أولى سنوات الحرب العالمية الأولى أعلن قيصر روسيا عن رغبة في إطلاق اسم قيصر روسيا الأعظم «بطرس الأكبر» على المدينة والتخلص من «برغ» الألمانية في «سان بطرسبرغ» واختيار «غراد» السلافية - الروسية، وكلتاهما تعني «مدينة»، مؤكدا ذلك في اختيار «بيتروغراد» اسما جديدا للعاصمة نسبة إلى مؤسسها بيتر أو بطرس الأعظم. وإذا كان القيصر قد انزلق إلى مخاطر التلاعب بالتاريخ، فلم يكن البلاشفة أحسن حالا، حيث سرعان ما أعلنوا فرمانهم حول إطلاق اسم زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) «لينين» على المدينة تخليدا لذكراه عقب وفاته في عام 1924، ولم يكن قد مضى على إقرار الاسم القديم أكثر من عشرة أعوام.
ومع الذكريات نمضي لنشير إلى أن قسوة اللحظة ووحشة المكان وما تكبدته المدينة من مشاق وآلام الصمود، لم تكن لتحول دون تحقيق أفضل الفنون والإبداعات ومنها «سيمفونية لينينغراد» التي خلدها ابن المدينة الموسيقار ديمتري شوستاكوفيتش فيما عرفه العالم تحت اسم «السيمفونية السابعة».
أصاخ الموسيقار الشاب السمع ليسجل نبض الوطن في أغنية «الانتصار». شحذت لحظات الحصار مشاعره التي انسابت رقيقة حالمة لتسجل ما يحلو للبعض تسميته «سيمفونية لينينغراد»، ولذا لم يكن غريبا أن تكون هذه النغمات الحالمة مقدمة لما سجلته ريشة الأديب الروسي ألكسي تولستوي: «إنها تدفعك إلى طريق رائع تحفه الأفكار والعواطف وعالم حافل بالأضواء التي تمسك بتلابيبك لتطيح بك كالعاصفة، إلى أن تجد نفسك مسترخيا في هدوء على شاطئ الأحلام.. شاطئ المستقبل». على أن الأحداث التي تواترت دموية عاصفة، سرعان ما دفعت القائمين على أمور المدينة البطلة إلى التعجل بترحيل الصغار والعجزة ومعهم أبرز العلماء والفنانين إلى أعماق البلاد حفاظا على حياتهم، وتحسبا لمستقبل هم كنوزه وذخيرته. ولذا لم يكن غريبا أن يكون شوستاكوفيتش في صدارة هؤلاء الذين تقرر ترحيلهم في فبراير (شباط) 1942 إلى كويبيشيف على ضفاف نهر الفولجا. ولم يكن غريبا أيضا أن يستكمل شوستاكوفيتش سيمفونيته ليعزفها في الخامس من مارس (آذار) من العام نفسه مع أوركسترا مسرح البولشوي الذي سبقه إلى هناك.
سان بطرسبرغ كانت ولا تزال نموذجا وتجسيدا للوحدة الأوروبية التي يعكسها ذلك الانسامبل المعماري الفريد النمط من نتاج جهود وعقول ممثلي المدارس الفرنسية مع الإيطالية والألمانية. وتحت وقع هذا وذاك يجد المرء نفسه وقد أسرع الخطى صوب واحد من أهم وأجمل معالم المدينة.. صوب متحف الأرميتاج، أو الهيرميتاج» أكبر متاحف الدولة الروسية وأكثرها شهرة وأقدمها تاريخا. هنا يجد المرء نفسه بين أحضان عالم الأحلام ونفائس التاريخ.
فالمكان مجموعة من القصور تناغمت فيما بينها لتشكل سيمفونية معمارية لم ينل منها التباعد الزمني. إنه الأرميتاج الذي يستمد بدايته من نزوة جميلة لقيصرة روسيا الأشهر يكاتيرينا الثانية التي أهدت المدينة «فارسها النحاسي» - «تمثال بطرس الأكبر» على ضفاف النهر، على مبعدة خطوات من هذا المكان. قصر صغير شيده المعماري الذائع الصيت آنذاك فالين ديلاموت أرادته ملحقا للقصر الكبير بحثا عن عزلة مع النفس والذات مما استحق معه تسمية «الهيرميتاج – أو الأرميتاج»، هذا القصر سرعان ما بدا في اتساق وانسجام مع القصور الأربعة التي تجاورت على ضفاف نهرها الخالد «نيفا»: قصر الشتاء مقر حكم القياصرة من تصميم المعماري المعروف راستريللى، وقصر الأرميتاج الكبير أو القديم للمعماري فيلتين، ثم مسرح القصر لكفارينغي، وأخيرا الأرميتاج الجديد للمعماري كليفيتس. هذا الانسامبل المعماري سرعان ما تحول إلى واحد من أهم معالم الدولة الروسية. تقول الأدبيات التاريخية إن بطرس الأول مؤسس روسيا الحديثة خَلّده من خلال هواية جمع التحف واللوحات الفنية الثمينة. قالوا إن لوحة لفنان مجهول حملت اسم «محاكمة المسيح» أطلقت العنان لرغبة دفينة في اقتناء كل ما يمكن أن يعني لاحقا الخلود للزمان والمكان. البداية تمثلت في فرمان قيصري يقضي بجمع كل الأعمال الفنية العالية القيمة والتماثيل والمشغولات الذهبية والفضية والتي يمكن أن تشكل لاحقا مجموعة فنية متكاملة. أما الخطوة الثانية فتمثلت في 255 لوحة فنية اقتنتها يكاتيرينا الثانية في مدينة برلين تخليصا لدين لم يستطع أحد كبار التجار الألمان سداده. وكانت غالبية هذه اللوحات من أعمال مشاهير الفنانين الهولنديين والألمان ومنها «بورتريه الشاب الذي يمسك بالقفاز» من روائع الفنان فرانس هالس من المدرسة الألمانية. وقد ساهمت علاقات يكاتيرينا مع الأصدقاء الفرنسيين في تنمية ذوقها الفني إلى جانب ما بذله سفيرها في باريس الأمير جوليتسين من جهود لجمع كل ما تقع عليه عيناه من ذخائر فنية في الخارج. ويذكر التاريخ أن جوليتسين جمع عددا هائلا من الأعمال الفنية التي سارع بإرسالها على متن باخرة شاء حظه العاثر أن تلقى حتفها في أعماق بحر البلطيق على مقربة من الشواطئ الفنلندية، وإن قالت المصادر التاريخية إن الحظ كان قد أسعده بتخلف إحدى أثمن اللوحات عن اللحاق بزميلاتها وهي لوحة «عودة الابن الضال» للفنان ريمبرانت التي تزين مع زميلتها «دانايا» جناحه الممهور باسمه في الطابق الثاني بمتحف الأرميتاج وسط إجراءات أمن مشددة لها ما يبررها. ففي عام 1985 وفي حادث مأساوي عجيب تعرضت «دانايا» التي تمثل صورة لابنة القيصر الأسطوري أركيس وقد استلقت عارية على إحدى الأرائك، لمحاولة خرقاء من جانب معتوه فاجأ زوار المتحف آنذاك بقذفها بمحلول حارق سرعان ما أتبعه بطعنتين غادرتين، تضافرت جهود كل الأوساط الفنية العالمية لتلافي ما لحق باللوحة من آثار مميتة وإعادتها إلى الأضواء التي تتمتع بها اليوم داخل إطار زجاجي واق من الرصاص مع عدد آخر من مثيلاتها في الأرميتاج اليوم. وليس ثمة شك في أن هذا المكان الذي يضم بين جنباته ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف مليون قطعة فنية يظل متفرد المكانة بوصفه أسطورة فنية وملحمة رائعة مفرداتها أروقة وديكورات مفرطة في الأناقة بغير تكلف، مما يجعله يبدو أشبه بدعوة رقيقة إلى تناسي ترهات الماضي، والتسامي فوق أحزان التاريخ.
على أن صورة سان بطرسبرغ لا يمكن أن تكتمل إذا خلت من ضواحيها بما تضمه بين جنباتها من قصور وتراث ثقافي تاريخي يحار المرء أمام مواهب وعبقرية مبدعيه. فمن ضاحية «بيترغوف» بنوافيرها الرائعة المبهرة وقصورها التاريخية، إلى مدن بوشكين، وتسارسكويه سيلو (قرية القيصر)، تتقافز الخطى لتحملنا إلى ستريلنا. في هذه الضاحية تصافح الأنظار قصر قسطنطين الذي أراده بطرس الأكبر «فرساي روسيا الحديثة»، وهو القصر الذي أعاده إلى الحياة فلاديمير بوتين ابن لينينغراد وقيصر روسيا الحديثة، في الذكرى الثلاثمائة لتأسيس المدينة في عام 2003 ليكون رمزا جديدا للمدينة جنوب الخليج الفنلندي لبحر البلطيق. وكان بوتين استطاع من خلال هذا القصر إبهار ضيوفه من زعماء أوروبا والعالم ممن شاركوه الاحتفالات الأسطورية بهذه المناسبة، وعاد ليدخل عليه الكثير من التجديدات في إطار استعداد روسيا لاستضافة قمة الثمانية الكبار في سان بطرسبرغ في عام 2006.
ولا يسعنا في ختام حكاياتنا من سان بطرسبرغ عن سان بطرسبرغ، إلا أن نردد مع عشاقها في الشرق والغرب ما سبق وقاله شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين في رائعته «الفارس النحاسي».. «يا رائعة بطرس.. إني أعشقك».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».