آني إرنو... تغيير الواقع المعيش بالكلمات وبالنص

الفرنسية الفائزة بـ {نوبل» تناولت في أعمالها أهم انشغالات العقود الأخيرة

آني إرنو
آني إرنو
TT

آني إرنو... تغيير الواقع المعيش بالكلمات وبالنص

آني إرنو
آني إرنو

كثير من النقاد وعلماء الاجتماع والكُتاب وصفوها بـ«الأيقونة»، والمثال الأعلى، و«العرّابة الأدبية» التي فتحت الطريق للأجيال الجديدة نحو تيار «التخيل الذاتي»... لكن آني إرنو صاحبة جائزة «نوبل» للآداب على مجموع أعمالها، ترفض كل هذه الألقاب، وتفضل وصف نفسها بـ«المرأة التي تكتب». والكتابة عندها ليست متعة فردية، وليست أعمال تقرأ ثم توضع في الخزانة لتقع في غياهب النسيان؛ بل هي أعمق من ذلك؛ لأنها «تغيير للواقع المعيش بالكلمات وبالنص».
منذ عقود تكتب آني إرنو عن حميمية المرأة، عن وضعها وعن طموحها الذي تطور وفقاً لاضطرابات المجتمع الفرنسي منذ فترة ما بعد الحرب، وعن العائلة والمشاعر. ولكي تكتب اختارت حياتها الشخصية ومحيطها الاجتماعي كمواد خام تسخِّرها بموهبة فذّة لصياغة أعمال روائية متميزة. بعض النقاد عابوا عليها هذه الميزة، بحجّة أن قراءة رواية واحدة لإرنو تغني عن قراءة كل رواياتها. فهي تروي في «الخزائن الفارغة» تجربة إجهاضها، وفي «المكان» علاقتها الصعبة مع والدها، وفي «المرأة» شخصية والدتها، وفي «المرأة المجمَّدة» تجربتها الفاشلة مع الزواج، وفي «الشاب» علاقتها الغرامية مع شاب يصغرها بثلاثين سنة. ولكن فضلاً على أن السيرة الذاتية مسخَّرة في أعمال الكاتبة الفرنسية لسرد قصَّة ومشاعر وعواطف مشتركة، فإن الدراسات التي تناولت بالنقد أعمال هذه الأديبة الفرنسية لاحظت التميز الذي يحيط بكل عمل.


{الشاب»... روايتها الاخيرة التي صدرت بداية هذه السنة - غلاف رواية {المكان»

يكتب الباحث والناقد دومينيك فيارت في مؤلفه «آني إرنو: الوقت والذاكرة» (دار نشر «ستوك»): «تقع أعمال آني إرنو في قلب انشغالات العقود الأخيرة، فهي لا تكتفي بالاهتمام بالقضايا الاجتماعية الرئيسية كالاختلاف الطبقي، والتمييز الاجتماعي والثقافي والمطالب النسوية، وإنما أيضاً بالإشكالات التي ظهرت مؤخراً على الساحة الفكرية والفنية، كقضية الذاكرة والواقع والموروث».
بدأت آني إرنو الكتابة عام 1974، وأول أعمالها «الخزائن الفارغة» (دار نشر «غاليمار»)، كان مستوحى من أحداث واقعية روت فيها الكاتبة تجربة الإجهاض التي تعرضت لها وهي طالبة جامعية في ستينات القرن الماضي. الرواية تبدأ في الغرفة الجامعية التي تتعرض فيها بطلة القصة «دونيس لوسيور» لعملية إجهاض غير شرعية، وبينما تنقل لنا آني إرنو بالتفاصيل قساوة التجربة ومشاعر الإذلال والفشل التي اجتاحت هذه الفتاة التي اجتازت هذه الأزمة بمفردها، فهي ترسم لنا أيضاً صورة عن الهوة الاجتماعية لفتاة عالقة بين عالمين: عالم والديها وعمال الطبقة الكادحة الذين يكسبون بالكاد قوت يومهم، وعالم البرجوازيين المتعلمين الذين يسكنون الأحياء الراقية ويرتدون أفخم اللباس. الرواية التي نقلت صورة عن المجتمع الفرنسي الذي كان محافظاً في الحقبة التي سبقت انتفاضة مايو (أيار) 1968، تزامنت مع صدور «قانون سيمون فاي» بخصوص الإجهاض، وهو ما جعل إرنو ترقى إلى مرتبة «أيقونة نسوية»، إضافة إلى نشاطها إلى جانب تيار اليسار المتطرف للمطالبة بتحرير المرأة، وهي المهمة التي لم تكن سهلة آنذاك باعتراف الكاتبة شخصياً: «قد تثير كتاباتي الانزعاج أو النفور، وقد تُتهم بالذوق السيئ، ولكنك حين تعيش تجربة ما فهذا يعطيك حقاً غير قابل للتقادم في كتابتها، ليست هناك حقيقة دنيا... إن لم أستمر إلى النهاية في سرد تجاربي فهذا يعني أني أخفي واقع المرأة، وأؤيد هيمنة الرجل».
الشجاعة هي أيضاً ما ميزت كتابات آني إرنو التي تناولت مواضيع نادراً ما تُتناول في الأدب الكلاسيكي، بما في ذلك: الجنس، والمرض، وكبر السن، والجسد، والخرف، وإدمان الكحول، ودائماً بطريقة مباشرة للغاية. وهي لا تهتم بالذكريات إلا كدليل على أن الأحداث وقعت فعلاً. فالإقدام على الكتابة هو ما سيجعل التجربة المعيشة مرئية ومحسوسة؛ حسب الكاتبة.
هذه الرغبة نفسها في تدوين «الواقع المعيش» هي ما دفعت آني إرنو لنشر روايتها الأخيرة «الشاب» (دار نشر «غاليمار» 2022) التي روت فيها بشجاعة ودون خوف من الأحكام المسبقة قصَّة علاقتها العاطفية مع شاب يصغرها بثلاثة عقود، كما ذكرنا. في أقل من خمسين صفحة تصف لنا الكاتبة كيف أن هذه العلاقة منحتها الفرصة لإعادة تمثيل مشاهد من شبابها، وذكَّرتها من جديد بأصولها الاجتماعية، قبل أن تنهيها بعد أربع سنوات؛ لأنه كما تكتب: «كان يقتلعني من جيلي؛ لكني لم أكن في جيله...».
أهم أعمال آني إرنو التي وصلت بها إلى العالمية بعد ترجمتها، كانت رواية «المكان» (دار نشر «فلاماريون» 1984) وهي الرواية الحاصلة على جائزة «رونودو»، كما أنها رُشحت للقائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العالمية. العمل تناول وضعها كـ«مُنشقَّة»، فهي الفتاة البسيطة التي ترعرعت في ضاحية نورماندي، في كنف عائلة فقيرة تتحول بعد زواجها من شاب ثري وحصولها على منصب أستاذة لسيدة من المجتمع الراقي. الاختلاف في مراكز الاهتمام والانشغالات الحياتية خلقا فجوة كبيرة بين الأب وابنته، وتسببت في ابتعادهما بعضهما عن بعض. الرواية حملت كثيراً من المشاعر الرقيقة في مواجهة الندم، لعدم تمكن الابنة من التقرب من والدها، ولكن أيضاً المشاعر الغاضبة من الاختلافات الطبقية والظلم الذي يلاحق الضعفاء كاللَّعنة، على غرار والدها الذي وُلد فقيراً ومات فقيراً على الرغم من عقود من العمل الشَّاق.
الحضور القوي لهذه الإشكاليات في قلب أعمال آني إرنو يفسر رغبتها القوية في إعطاء صوت لمن لا صوت لهم. وقد أكدت ذلك مراراً وتكراراً في مواقفها الشخصية. ومن المعروف عنها مساندتها لحركة «أنا أيضاً» النسائية، وكذلك انتفاضة «ذوي السترات الصفراء» التي اعتبرتها انتفاضة ضد الظلم الاجتماعي العميق، وازدراء الطبقة العاملة والعاطلين من العمل. كما أنها كانت من المثقفين القلائل الذين دافعوا عن حق المسلِمات الفرنسيات في ارتداء الحجاب، وعن القضية الفلسطينية، كما انضمت إلى حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، ومؤخراً أعلنت مساندتها لانتفاضة المرأة في إيران، والحركات الاحتجاجية ضد غلاء الأسعار.
وما يلفت النظر في أعمال آني إرنو هو أسلوبها الذي يصفه النقاد بـ«السهل الممتنع»، فعلى الرغم من جمال التعبير وسلامة الصياغة فهي لا تتحرى الصنعة في كتاباتها؛ بل إنها تستعمل أحياناً كثيرة تعبيرات من اللُّغة العامية. الكاتبة نفسها تصف أسلوب كتابتها بـ«المسطح»، معتبرة أن العمق هو الأهم.
لقد تأخر الاعتراف بأهمية كتابات آني إرنو، ولم تصل إلى العالم إلا مؤخراً، بسبب غياب الترجمة؛ إلا أنها تلاقي الاعتراف الذي تستحقه اليوم؛ لا سيما في المشهد الثقافي الأنجلوسكسوني، بعد ترجمة رواية «السنوات» و«الحدث» وخصوصاً «المكان» التي لاقت ترحيباً كبيراً. كما أن كثيراً من نصوصها تُدرَّس في المدارس والجامعات بسبب بعدها السوسيولوجي الذي يعالج الفروق والانقسامات الاجتماعية، وانعكاساتها على حياة الأفراد.


مقالات ذات صلة

«بي بي سي» تعتزم تسريح 500 موظف

أوروبا صورة لشعار «بي بي سي» (فليكر)

«بي بي سي» تعتزم تسريح 500 موظف

تعتزم هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» تسريح 500 موظف بحلول نهاية مارس 2026 بعدما خفّضت عدد موظفيها بنسبة 10 % خلال السنوات الخمس الماضية

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث في المؤتمر الوطني رقم 115 لـ NAACP في لاس فيغاس بنيفادا (رويترز)

بايدن: أميركا تعمل بلا كلل للإفراج عن غيرشكوفيتش

أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة تعمل «بلا كلل» لضمان الإفراج عن الصحافي الأميركي إيفان غيرشكوفيتش.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مراسل صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية إيفان غيرشكوفيتش في صورة غير مؤرخة (رويترز)

الحكم على الصحافي الأميركي غيرشكوفيتش بالسجن 16 عاماً في روسيا

أدانت محكمة يكاترينبورغ الروسية في الأورال الصحافي الأميركي إيفان غيرشكوفيتش، اليوم (الجمعة)، بتهمة «التجسس» وحكمت عليه بالسجن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
إعلام التوجه الاستراتيجي يجسّد إرادة جماعية واضحة لحماية المصالح الرقمية العربية (واس)

اجتماع عربي في الرياض يبحث التعامل مع الإعلام العالمي

ناقش فريق التفاوض العربي الخطة التنفيذية للتفاوض مع شركات الإعلام الدولية وفق إطار زمني، وصياغة التوجه الاستراتيجي للتعامل معها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
أوروبا عناصر من الشرطة البريطانية أمام بوابة في «دوانينغ ستريت» (إ.ب.أ)

السجن مدى الحياة لرجل خطط لخطف مذيعة بريطانية لاغتصابها

قضت محكمة بريطانية بالسجن مدى الحياة على رجل أدين بمحاولة اختطاف مذيعة تلفزيونية بريطانية شهيرة واغتصابها وقتلها.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم
TT

«في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسط رموز أدبية وفكرية

توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

* كان يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم ويشبه أسلوب طه حسين بـ«غزل البنات» أو يتنبأ بمستقبل باهر لموظف صغير يُدعى نجيب محفوظ

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «في بيت أحمد أمين» للكاتب حسين أحمد أمين (1932 - 2014)، الذي يستعيد ذكريات الطفولة والصبا خلال سنوات نشأته الأولى، كونه الابن الأكبر للمفكر والمؤرخ المصري أحمد أمين (1886 - 1954) صاحب مؤلفات «موسوعة الحضارة الإسلامية» التي تتكون من «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، فضلاً عن سلسلة أجزاء «فيض الخاطر»، ومذكراته الشخصية «حياتي».

يتوقف المؤلف عند مفارقة أن أصدقاء وضيوف والده الذين يردُّ عليهم في التليفون أو يستقبلهم بالمنزل، كانوا من عمالقة الأدب والفكر وجيل المؤسسين في الثقافة العربية. ويروي كيف كان يُهرَع حين يدق جرس التليفون، ويرد بصوته الرفيع المتحمس، والسماعة الكبيرة يضعها بصعوبة فوق أذنه: «آلو... من حضرتك؟»، فيجيب المتكلم بأنه عباس العقاد أو توفيق الحكيم، أو محمود تيمور، ثم يسأل: «أحمد بك موجود؟»، فيجيب الطفل: «دقيقة واحدة»، ثم يجري إلى المكتبة صائحاً: «بابا، بابا، محمود تيمور»، فيتوجه والده إلى التليفون، ويسمعه يسأل محمود تيمور عن سبب تخلُّفه عن حضور جلسة المجمع اللغوي، ثم يسرد عليه ما دار خلالها، وكيف اقترح فيها إقرار المجمع الكلمة العامية «محندق» لخلو معاجم اللغة من كلمة تعبر عن المعنى نفسه بدقة. ويقص عليه ما كان من موقف طه حسين واعتراض لطفي السيد، ثم يقرأ عليه رسالة وصلت إليه لتوه من المستشرق الألماني برجشتراسر يُعلّق على ما ذكره في كتابه «فجر الإسلام» من طبيعة العقلية العربية.

طه حسين

ويتناهى إلى سمع الطفل حسين أسماء ابن خلدون والجاحظ والغزالي وابن رشد، تُنطق في أُلفة غريبة وتتكرر على لسان أبيه، فكأنما هم أقارب للعائلة أو جيران أو مستأجرو أرض. وكثيراً ما تهتف والدة حسين إذ يفرغ زوجها من المحادثة التليفونية طالبةً إما أن يشرح لها من هو «ابن عبد ربه»، مؤلف «العقد الفريد»، أو ألا يأتي بسيرته لأن تكرار نطقه بهذا الاسم قد بدأ يغيظها حقاً. وهو أحياناً يعود من الخارج يسأل عمن اتصل به تلفونياً فتجيب زوجته: «اتصل بك ابن خلدون مرتين». ويسأل أحمد أمين مبتسماً: «هل ترك رسالة؟»، فتجيبه: «نعم، يقول إنه قد بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك سيرته بالحديث».

ويشير حسين أحمد أمين إلى أن أسماء: محمود تيمور، مؤسس فن القصة القصيرة في طبعته العربية، ومحمد حسين هيكل، مؤلف أول رواية عربية، وعبد القادر المازني، الشاعر والكاتب الساخر، وغيرهم، كانت مألوفة لديه مذ كان في الخامسة أو السادسة، وقبل أن يقرأ لأصحابها حرفاً. وكانت والدته تُقلّد له أصواتهم وطريقتهم في الكلام فيضحك لصدق محاكاتها لصوت العقاد الضخم، وبطء طه حسين الشديد، وثرثرة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الفقيه القانوني البارز ووزير المعارف، وصياح الشاعر علي الجارم باسمه فكأنما يعلنه للتاريخ: «أنا الجارم»، وتَبسُّط عبد العزيز فهمي باشا، أول من وضع مُسوّدة الدستور المصري في صيغته الحديثة، في الأخذ والرد.

وكان أحمد أمين يقص على زوجته وعلى مسمع من أبنائه أصل العداء المرير بين السنهوري وطه حسين وحيرته بينهما؛ فكلاهما صديقه الحميم، كما يسرد على الأسرة طرائف عن بخل توفيق الحكيم، ويُثني على أريحية تيمور وسماحته وطيب خلقه، ويشبه لهم أسلوب طه حسين بحلوى «غزل البنات»، كما يقص عليهم ذكرياته عن الشيخ محمد عبده ونبأ مقابلاته لحافظ إبراهيم، أو يتنبأ بمستقبل باهر في الأدب لموظف صغير بوزارة الأوقاف يدعى نجيب محفوظ. وإن ولدت قطتهم، أسمعهم قصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القطة التي ولدت بحجرة مكتبه، وإذا حلّ الباذنجان على طاولة الغداء أنشدهم قصيدة شوقي الساخرة «نديم الباذنجان» التي يقول في مطلعها:

كان لِسلطانٍ نَديمٌ وافِ

يُعيد ما قال بلا اختلافِ

على ضوء هذا وغيره من مئات القصص والتفاصيل عن الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين ولأنماط شخصياتهم، بدأ حسين أحمد أمين يقرأ كتبهم، فهم ليسوا غرباء عليه وباستطاعته حين يقود محمود تيمور إلى حجرة الاستقبال أن يعبّر له عن إعجابه بروايته «سلوى في مهب الريح»، أو حين يرد على العقاد في التليفون أن يخبره أنه قرأ له كتابه الشهير «عبقرية عمر»، فيداعبه العقاد بقوله: «كم سنك يا جحش؟»، وحين يعرف أن نجل صديقه أحمد أمين في العاشرة من العمر، يقول: «لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم»، فيتحداه الطفل الصغير الذكي متحمساً: «بل فهمته، واسألني فيه إن أحببت»، فيتهرب العقاد من استمرار النقاش بقوله: «ليس لديّ وقت لسؤالك فيه. نادِ لي أباك».

وكان الصبي حسين يجد أحياناً صعوبة في إقناع والده بحاجته إلى حُلة أو حذاء جديد؛ خشيةَ أن يغضبه، أما فيما يتعلق بالكتب فالباب مفتوح على مِصراعَيه يشتري منها ما يحب؛ فهو يأذن له أن يأخذ من «مكتبة النهضة المصرية»، التي تتولى نشر مؤلفاته، أي عدد من الكتب دون قيد، ثم تحاسبه المكتبة في آخر العام. وكان حسين أكثر أبنائه استغلالاً لهذه الرخصة، ولم يحدث أن اعترض والده على إسرافه في هذا الاستغلال إلا مرة واحدة؛ حين قرأ في كشف الحساب السنوي اسم كتاب في تاريخ العالم من خمسة عشر مجلداً بلغ ثمنه أربعين جنيهاً، وهو ثمن باهظ يفوق راتب موظف كبير في شهر بمعايير ذلك الزمان.

ويشير حسين أحمد أمين إلى ملاحظة مهمة تتعلق بتكوين والده الثقافي: «فقد كان لا يكاد أحد يجاريه في معارفه الإسلامية، وفي إلمامه بتاريخ حضارة الإسلام وعلومها لا سيما في الفلسفة والأدب. أما فيما عدا ذلك فثمة خلل كبير، تداركه بعض كتّاب عصره كالعقاد وطه حسين. فهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الغربية ولا يستسيغها، والأسماء الرنّانة في ميدانها هي عنده مجرد أسماء. وهو لا يكاد يقرأ قصصاً أو مسرحيات غير بعض ما يهديه إليه من مؤلفاتهم أدباء عصره كتوفيق الحكيم ومحمود تيمور والروائي الشاب نجيب محفوظ تجنباً للحرج حين يقابلهم بعدها». ولا يعتقد حسين أن والده قد قرأ في حياته رواية لتولستوي أو دوستويفسكي أو مسرحية لموليير، وهو لا يعرف شيئاً عن الأوبرا والباليه ولا عن فنَّي التصوير والنحت، ولا يظنه زار متحفاً للفنون في مدينة أوروبية إلا من قبيل الواجب.

غير أنه مع كل هذا القصور لم يكن يتظاهر بعكسه ولا كان الأمر يؤرقه. كل ما هنالك هو أنه حين ضعف بصره ضعفاً شديداً وصار مهدداً بفقده، وأحسّ بحسرة شديدة إذ لم يُعْنَ في شبابه بتنمية اهتمامات وهوايات مختلفة ولم يهوَ غير القراءة والكتابة اللتين أصبح الآن مهدداً بأن يُحرَم منهما فكان يردِّد قوله: «لو أني نمّيت في نفسي هواية الاستماع إلى الموسيقى مثلاً، لكان في لجوئي الآن إليها العزاء عن فقد البصر».

وقد كان على حد علم حسين على علاقة طيبة بجميع أدباء عصره، ولم تكن هناك بينه وبين أحدهم ما يشبه الخصومة غير زكي مبارك، بسبب سلسلة طويلة من المقالات نشرها الأخير في مجلة «الرسالة» بعنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي»، يرد فيها على سلسلة طويلة من المقالات نشرها أحمد أمين في مجلة «الثقافة» بعنوان «جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي». أما الأديب الأثير عنده الذي يشبهه خلقاً وطباعاً فهو محمود تيمور، وكثيراً ما كان يجتمع بتوفيق الحكيم سواء في مقهاهما المفضل على البحر بالإسكندرية في أشهر الصيف، أو في اجتماع كل خميس بمقر «لجنة الـتأليف والترجمة والنشر»؛ حيث كانت تلتقي نخبة من مفكري مصر وأدبائها وعلمائها ورجال التربية فيها. كان أحمد أمين يأذن لابنه وهو بعدُ صبيٌّ في المرحلة الابتدائية بحضور تلك الندوات. ويذكر حسين أنه كلما استفسر من توفيق الحكيم عن كتب يقرأها أو آداب ينصح بأن يغترف منها، كان ينصحه بأن يركز على الآداب الغربية، ولا بأس من النظر بين الفَينة والأخرى في «العقد الفريد» أو «الأغاني»، طالباً منه وهو يضحك أن يكتم هذه النصيحة عن والده حتى لا يغضب منه.