الصوم بلغتنا يعني الامتناع عن فعل أو عمل ما، وهناك فرق معنوي بين كلمة «المنع» والامتناع الذي هو ثمرة المنع وروحه، حيث يصدر تنفيذه عن قناعة وإيمان بحقية الأمر وصدقه.
وليس مجرد الأمر يحتوي على معاني الامتناع الصادرة في العقيدة والتمسك بها، لأن الأمر إذا لم يجد عند المأمور قناعة وتسليما، وجد من يريد المخالفة ذرائع شتى للتهرب عن تنفيذ محتوى الأمر، أو التحايل على عدم تطبيقه.
وإذا أُريدَ لأمرٍ أن يُطبّق كاملاً فليكن إيجاد المؤمنين به أولاً وأخيرًا، فلا تنفيذَ مقبولاً غير منقوص، بلا عقيدة أو إيمان، وهو عندي سر وأساس انتشار الدعوات الإصلاحية. وأعني بها التي تخدم البشرية من صنع البشر نفسه، والأخرى التي تنتسب إلى الغيبيات (الأديان) ويطلقون على كل عمل بلا تصديق وقناعة «النفاق» وعقوبته شديدة، و«الرياء» وهذا أخف بقليل من صنوه.
وللصوم مؤدون من الصنفين، فأهل الأديان السابقة والباقية بهذا الزمن وما بعده في أزمان وأشكال مختلفة حسب زمنها وأهلها، وعندنا معاشر المسلمين.. يؤدي شهرًا قمريًا إلزامًا.. وأداؤه تطوعًا مختوم بشروط ومناسبات معروفة عند من يعتاد الزيادة على عدد الإلزام، وهو محصى ومثاب عليه، أما فوائدهُ على صعيد المادة والتحليل فكثيرة، ومما يذكَرُ منها أن التشريعات التي تُنسب إلى الإله القدير كلها تصب في خدمة الإنسان الظاهرة منها والخفيّة التي تحتاج إلى غوص في بحار المعاني والمنافع، ويعبّرُ عنها حسب مقدار علم المعبر وقدرته التحليلية والتعبيرية والعقائدية، ولذلك تختلف المعاني المستخرجة والدروس والعِبَر والنتائج من شخص إلى آخر، شأن كل أمر يخرج عن العقول المختلفة ونتائجها، فنرى الصوم عند أمةٍ وسيلة لترويض الجسد، وإخراج طاقاته الروحية وما يتولد منها من أعمال غريبة ومدهشة.
ومنهم أُناس يعدون الامتناع عن الطعام والشراب وسيلة لإعداد طائفة متميزة من المقاتلين، وآخرون يمتنعون عن الطعام والشراب احتجاجا على ما يرونه ظلمًا أحاط بهم.
وعند النظر الفاحص لدى المسلمين فإنه (أي الصوم) طاعة لأمر إلهي يؤدى بحبٍ وشوق وحنين سنوي تتربعه الإرادة عند المسلم؛ إذ يتغلب على أهم ضروريات الإنسان ورغباته وشهواته.
ومعلوم لدى العارفين من ذوي العلم والتجارب والمطلعين على أنباء الأولين وحِكَمِهم (بكسر الحاء)، أن من يملك إرب نفسه بما يتعلق بالعديد من المآرب، قادرٌ على معالجة المصائب والتغلب عليها، لأن من يقدر على رد جماح نفسه فهو أقدر على سياسة الناس ومداراتهم وقيادتهم.
أما المردودات الصحية فهي معروفة عند الأحياء وغيرهم من المجربين، إلا ما شذ عن القاعدة من أعذار تبيح الإفطار بصورة دائمة أو مؤجلة، وتفاصيلها عند علماء الدين.
وآمل وأتمنى أن يترك هذا الشهر الفضيل لدى المسلمين أثرهُ بنفوسهم وممارساتهم، فيجعلهم كما ورد في مأثوراتهم في النظرة إلى الآخرين والتعامل معهم بموجب «الناس ثلاثة؛ أخ لك في النسب، وأخ لك في الدين، وأخ لك في الإنسانية».
والسلام والمحبة لكل إنسان.
* من كبار علماء بغداد
ذكريات: الصيام انتصار للطاقة الروحية
ذكريات: الصيام انتصار للطاقة الروحية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة