سقراط معاصرُنا

إنّ حياة لا نُخْضِعُها للمساءلة ليست بالحياة التي تستحق عبء عيشها

روزفلت مونتاس
روزفلت مونتاس
TT

سقراط معاصرُنا

روزفلت مونتاس
روزفلت مونتاس

أظنُّ أن أغلب القرّاء الشغوفين، وبخاصة من محبّي أعمال الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يتذكّرون ذلك العمل الذي ترجمه جبرا في سبعينيات القرن الماضي ونشره بعنوان (شكسبير معاصرُنا Shakespeare Our Contemporary). لايُقرَأ الكتاب من عنوانه دوماً؛ بل من الخطأ الجسيم الحدسُ بمضمون أي كتاب من خلال عنوانه فحسب. لم يكن الأمر هكذا مع ترجمة جبرا لكتاب المؤلف البولندي يان كوت؛ إذ جاء العنوان ليمثل شاهدة مباشرة لما سيقرأه المرء في متن الكتاب: ليس شكسبير ذاك الذي مثّل شاهداً لعصره فحسب، بل يمكن أن يكون ضوءاً كاشفاً لعصرنا متى ما عرفنا الكيفية المناسبة لاستنطاقه في إطار فعالية دؤوبة نستطيع بمقتضاها جعل شكسبير عيناً إضافية لنا تعيننا في فهم عالمنا بطريقة تبدو معاصرة إلى حدّ يكاد معه المرء يظنُّ أن شكسبير هو أحد عظام المفكّرين في المعضلات الوجودية لعصرنا. يمثلُ شكسبير بموجب هذه الرؤية نمطاً من «الوعي الكوني»Cosmic Consciousness العابر لحدود الزمان والمكان والبيئات المحلية. كلّ العقول العظيمة تتماهى مع هذه الخصيصة الشكسبيرية.

ليس بوسع المرء سوى الشعور بالأسف وهو يشهدُ نكوصاً متعاظماً في أقسام الإنسانيات في الجامعات العالمية لأسباب عديدة منها نقص التمويل وضغوطات سوق العمل والفكرة الموغلة في البراغماتية تجاه التعليم الجامعي، والتي ترى فيه معبراً لحياة مسترخية من الناحية المالية. ربما يرى المدافعون عن أولوية التعليم المهني والعلمي المحض (الذي تختصره مفردة STEM التي تعني حقول العلم والتقنية والهندسة والرياضيات) في أنّ الإنسانيات لا تخلق الثروة ولا تسهم في تعزيز القدرة الاستراتيجية للدول. تلك رؤية قاصرة ولا تدعمها شواهد مختبرة من واقع الحياة؛ فقد أبانت دراسات بحثية عديدة خطل هذه الرؤية وتهافتها. إنّ من يمتلك ذائقة فلسفية وحساً أدبياً وقراءة تاريخية وسوسيولوجية سيتوفرُ على مهارات من شأنها أن تجعله أكثر قدرة في عمله العلمي والتقني. لم تغفل كبريات الجامعات العالمية هذه الحقيقة فراحت تطعّمُ التعليم العلمي والهندسي ببرامج دراسية في الإنسانيات والفلسفة عبر الدراسات المزدوجة Dual Majors، أذكرُ منها على سبيل المثال: برنامج الرياضيات والفلسفة أو الفيزياء والفلسفة أو علم الحاسوب والفلسفة في جامعتي أكسفورد وكامبردج.
يتناولُ هذه الموضوعة روزفلت مونتاس Roosevelt Montás، الأستاذ المحاضر في قسم الدراسات الأميركية والإنجليزية بجامعة كولومبيا الأميركية العريقة، ومدير برنامج الحرية والمواطنة التابع لقسم الدراسات الأميركية بالجامعة ذاتها. ألّف مونتاس بهذا الشأن كتاباً اختار له عنوان «إنقاذ سقراط: كيف غيّرت الكتب العظيمة حياتي»، ولماذا هي مهمّة لجيل جديد Rescuing Socrates: How the Great Books Changed My Life and Why They Matter for a New Generation. نُشِرَ الكتاب عام 2021 عن دار نشر جامعة برينستون.
يبدأ مونتاس كتابه بمقدّمة عنوانها (الحالة The Case) في تذكير لنا بالأدبيات الطبية الإكلينيكية التي تركّزُ على دراسة حالات مرضية منتخبة لفرادتها أو ندرتها. يجعل مونتاس من ذاته ميداناً لدراسة الحالة المقصودة؛ فيسردُ لنا كيف ساهمت دراسة الإنسانيات في إحداث انعطافة كبرى في حياته، وهو يرى أنّ هذه الانعطافة يمكن أن تحدث لكثيرين سواه. يتناول مونتاس في الفصل الأول تاريخ اكتشافه للقديس أوغسطين، وفي الفصل الثاني الذي عنونه (الحياة الممتَحَنة The Examined Life) يتناول الفلاسفة العظماء: سقراط وأفلاطون (والقليل من أرسطو!!). ينقلبُ مونتاس في الفصل الثالث عن السياق الذي بدأ به الكتاب؛ إذ يقفز عبر القرون نحو فرويد وكيفية تحقيق السلام مع اللاوعي، ثم يتناول في الفصل الرابع موضوع الحقيقة من وجهة نظر غاندي. يختتم مونتاس كتابه بحصيلة استنتاجية يقدّمُ فيها خلاصات لكيفية تعزيز أهمية الكتب العظيمة والمفكّرين العظام في حياة الأفراد كما في الأقسام الأكاديمية الجامعية على اختلاف تخصصاتها.
يكتب مونتاس، وبطريقة مؤثرة، عن معرفته الأولى بسقراط:
«في تلك المجموعة من حوارات أفلاطون التي أنقذتها في ليلة شتائية من تلّ القمامة القائم قريباً من منزلنا في ضاحية كوينز في نيويورك، قابلتُ - عبر القراءة وحدها - رجلاً عجوزاً يعيشُ أيامه الأخيرة، يدعى سقراط، كان يجتهدُ في الدفاع عن نفسه تجاه اتهامات بإفساد الشباب. اعترض سقراط (كما قرأت في تلك المحاورات) على تلك الاتهامات الباطلة، وراح يخاطب مواطنيه الأثينيين:
يا رجال أثينا... أشعرُ بالامتنان، وأنا صديق لكم؛ لكن برغم ذلك، وطالما كانت في قدرة على تنسّم الهواء فلن أنكفئ عن الاشتغال في الفلسفة وحضّكم على التفكّر والمساءلة... (وهنا يسألهم): ألا تشعرون بالخجل من أنفسكم وجشعكم في تملّك كلّ ما تستطيعون بلوغه من غنى وصيت وأوسمة نصر ونياشين فخار في الوقت الذي لم تكلّفوا فيه أنفسكم عناء التفكّر - ولو بفكرة عابرة - في الحكمة أو الحقيقة، أو في الحالة الفضلى الممكنة التي يمكن أن تكون عليها أرواحكم؟
في نهاية تلك المجموعة الحوارية نجد سقراط نزيل السجن في اليوم الموعود لإعدامه، ثم نشهده يتناول السم «بهدوء ويُسر»، ويضطجعُ محتضراً حتى يغادر الحياة. «هكذا كانت نهاية حياة رفيقنا»: هذا ما يقوله السارد في تلك الحوارات، ثم يضيف: «الرجل الذي سنقول عنه إنه كان الرجل الأكثر علماً بين كلّ من عرفنا، والأكثر حكمة واستقامة». يعلّق مونتاس هنا:
«لم تكن لي حاجة حينها، وأنا أقرأ تلك الكلمات، لأن أكون غنياً أو ذا حظوة كبيرة وميزات ثقافية رفيعة لكي أجد في تلك الكلمات شيئاً كأنه كان يخاطبُ أعمق إحساساتي الشخصية. لم أكن في حاجة كذلك لأن أكون أبيض اللون أو أوروبياً لكي تصيبني الدهشة وأنا أقرأ كلمات سقراط الحكيمة (إنّ حياة لا نُخْضِعُها للمساءلة ليست بالحياة التي تستحق عبء عيشها)».
ليس المرء في حاجة لأن يفترض ماهية ميتافيزيقية للطبيعة البشرية لأجل إدراك أنّ كلّ البشر يتشاركون خصائص أساسية متماثلة: ابتداءً من التنظيم البيولوجي المتخصص حتى المعمارية الجينية المتخصصة، ومن أشكال محدّدة من الإدراك حتى حالة العيش الوجودية التي ندرك فيها جميعاً حقيقة الموت الذي يمثل الخاتمة الطبيعية لوجودنا البشري. من المثير للملاحظة والدراسة أننا يمكن أن نستمرئ متعة إلى أقصى الحدود المتصورة من الحقيقة الخارقة للطبيعة والتي مفادها أنّ الأعمال العظيمة في الأدب والفن يمكن أن تمسك بالخواص المشتركة في تجربتنا الإنسانية عبر وسائط وأساليب أبعد ما تكون عن الخصيصة التشاركية؛ أي بمعنى أنّ قراءتنا لهذه الأعمال العظيمة المندرجة في المعتمد الأدبي ستتلوّنُ بحسب رؤيتنا الفردية ومديات تجاربنا الشخصية، وهي أبعد ما تكون عن التجربة النمطية الجمعية.
يكتب مونتاس حول تجربته الجامعية في تدريس الإنسانيات:
«عندما شرعتُ بتدريس مادة (كتب عظيمة The Great Books) لطلبة الدراسات الإنسانية الأولية بجامعة كولومبيا فإنني في الغالب أسألُ الطلبة المسجّلين على المنهج الدراسي لهذه المادة السؤال التالي: عندما تبدأ الشيخوخة والموت بالزحف إليك، ما الذي يجب فعله؟ أعلَمَني هؤلاء الطلبة أنّ هذا السؤال ظلّ يرنّ في عقولهم لسنوات طويلة بعد تخرجهم وانغماسهم في مشاغل مهنية متنوعة المشارب. صحيحٌ أنّ هؤلاء الشباب يأتون للجامعة مدفوعين بدافع تحسين فرص توظيفهم وحيازة مهارات يمكن لهم معها الحصولُ على ميزات تنافسية في سوق محكومة باعتبارات تجارية ومالية محتدمة؛ لكنهم يدخلون الجامعة في غمرة معضلات وجودية تجتاحهم بطريقة عنيفة، وهم يتطلعون لا إلى الحصول على وظائف مرموقة مالياً فحسب، بل إلى إعادة تكييف حيواتهم أيضاً وجعلها أكثر تناغماً مع الحقائق الصارخة للوجود البشري بكلّ تعقيداته وتناقضاته وإشكالياته».
التعليم الحر Liberal Education، وبخاصة تعليم الإنسانيات، مقاربة في التعليم تكشفُ أساس حالتنا الوجودية، وهي تتناول - بكلّ جدية ممكنة - فكرة المساءلة العقلانية للمعضلات الأساسية في وجودنا البشري، وأنّ هذه المساءلة مسعى يستحقّ كل الأعباء المترتبة عليه لكلّ فرد في المجموع البشري. ربما ليس من وسيلة أقوى لتحقيق هذه المساءلة من المناقشات المفتوحة في جماعات صغيرة من القرّاء أو طلبة الجامعات المكرّسين، هؤلاء الذين يجدون لذة لا تقاومُ في قراءة الأعمال الأدبية والفلسفية العظيمة التي لم تزل لها مفاعيلها المؤثرة في تشكيل حياتنا وثقافتنا المعاصرتين.


مقالات ذات صلة

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

ثقافة وفنون «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

«لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة»... صراع الأمل والموت وما بينهما

تطرح قصص «لُعْبَة القَفْزِ مِنَ النَّافِذَة» للكاتبة المغربية هدى الشماشي تساؤلات وجودية في محاولة للتوفيق بين حيوات أبطالها ومآسيهم الخاصة المتواترة عبر العصور

«الشرق الأوسط» (عمان)
ثقافة وفنون «في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

«في مرايا السرد»... قراءات في الرواية والقصة القصيرة

ثمة خصوصية للنقد الأدبي التطبيقي حين يصدر عن مبدع عموماً وشاعر بشكل خاص، إذ تتحول الممارسة النقدية في تلك الحالة إلى غوص رهيف في أعماق النص بعين خبيرة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب الكاتبة والناشرة رنا الصيفي

مؤثرو وسائل التواصل... خسارتهم قد تقتل كتابك

رغم كل ما يقال عن فاعلية «تيك توك»، دون غيره من وسائل التواصل الاجتماعي، في الترويج للكتب،فإن المؤثرين الذين ينشرون مساهماتهم، ولهم باع على هذه المنصة...

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب أندريه سبونفيل

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية.

هاشم صالح
ثقافة وفنون سعيد حمدان الطنيجي

قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى القرن الـ19

يصدر قريباً عن مركز أبوظبي للغة العربية، كتاب «مائة قصيدة وقصيدة مغناة» من الشعر العربي، والذي يحتوي على قصائد مغناة منذ ما قبل الإسلام حتى نهايات القرن التاسع

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

أندريه سبونفيل
أندريه سبونفيل
TT

لماذا ترعب الأصولية الظلامية الفيلسوف الفرنسي سبونفيل؟

أندريه سبونفيل
أندريه سبونفيل

يُعتبر الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل أحد فلاسفة فرنسا الكبار حالياً. وقد كان أستاذاً في السوربون ومحاضراً لامعاً في أهم الجامعات الأوروبية والعالمية. وبعض كتبه حظيت بنجاح شعبي كبير في المكتبات الفرنسية. وهذا شيء مدهش لأن كتب الفلسفة عويصة عادة ولا تباع إلا للنخبة. وهو يرى أن الحضارات والثقافات لا تتساوى فيما بينها، وأن حضارة ما قد تكون متفوقة في فترة ما ثم تصبح مسبوقة ومتأخرة في فترة لاحقة أو العكس. الحضارات دوارة لا تدوم لأحد. من سره زمن ساءته أزمان... وأكبر دليل على ذلك الحضارة العربية الإسلامية. فقد كانت متفوقة على جميع الحضارات البشرية بين القرنين الثامن والثاني عشر للميلاد. كان ذلك إبان العصر الذهبي المجيد. كانت بغداد آنذاك العاصمة الثقافية للعالم. كانت تشع بأنوارها على الكرة الأرضية بأسرها. وكانت غرناطة وقرطبة عاصمتي الأنوار والتسامح والإبداع وسط أوروبا الظلامية المتعصبة. كان ذلك أيام الخليفة الأموي الكبير عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني. كانت مكتبة قرطبة آنذاك تضم ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب. هكذا كانت قرطبة الحضارية الأنوارية. أين منها باريس أو لندن أو أكسفورد الغارقات في ظلام عميق؟

عندما يقول أندريه كونت سبونفيل هذا الكلام هل يعني ذلك أنه يكره المسيحية دين آبائه وأجداده؟ هل يريد أن يبخسها حقها أو يزدريها؟ أبداً لا. فهي أحد الأديان الكبرى للبشرية بالإضافة إلى الإسلام. إنه فقط يعترف بالحقيقة التاريخية، الحقيقة الموضوعية. العالم الإسلامي آنذاك كان متفوقاً على العالم المسيحي. ولكن الآن دارت الدوائر علينا نحن العرب والمسلمين وما عدنا مركز الحضارة العالمية. هيهات! لقد حلت محلنا تلميذتنا السابقة: أوروبا. لقد أصبحت مركز الفلسفة والعلم والإشعاع الحضاري منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم. وهكذا أصبح المتخلف متقدماً والمتقدم متخلفاً. ثم يضيف الفيلسوف الفرنسي قائلاً:

«الآن أصبح العالم العربي والإسلامي كله مرتعاً لحركات التطرف والظلام والتعصب الديني الأعمى. لقد ابتلي بها ابتلاءً شديداً مثلما ابتلينا بها نحن سابقاً أيام محاكم التفتيش وفتاوى التكفير اللاهوتية الكهنوتية التي تذبح الناس بالملايين. كما وابتلينا بالحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية المدمرة. أما هم فيكتوون بحر نارها حالياً في عز القرن الحادي والعشرين! وهذه هي مسافة التفاوت التاريخي بيننا وبين المسلمين: أربعة قرون فيما يخص الطائفية وحل المشكلة الدينية. ولا يتوقع أن يخرج العالم العربي من هذا المغطس الرهيب في المدى المنظور. هذه مشكلة خطيرة، مشكلة عويصة، مشكلة أجيال». ثم يتساءل الفيلسوف الفرنسي قائلاً: هل إسلام العصر الذهبي البغدادي - الأندلسي هو ذاته إسلام بن لادن والملا عمر والزرقاوي والخليفة المشؤوم الخنفشاري البغدادي و(داعش) و(القاعدة) و(جبهة النصرة) و(الطالبان) وعشرات التنظيمات الأخرى التي فرختها عصور الظلام؟ والجواب: أبداً لا. ولا ننسى أحفادهم الحاليين الذين يبثون أشرطة نارية مصورة يهددون فيها حكوماتهم وشعوبهم العربية ويريدون إعادتها قروناً إلى الوراء باسم ثورات رجعية، قروسطية، متخلفة. ولذا نقول ما يلي: ينبغي الاعتراف بأن العصور الوسطى لا تزال متغلبة على العصور الحديثة عندنا على عكس أوروبا التي خرجت كلياً من العصور الوسطى. ولكن شعوبنا الطيبة الفقيرة الجائعة لا تزال غارقة فيها. أنا شخصياً نتاج العصور الوسطى. والدي كان شيخاً ظلامياً مكفهراً يرعب العالم كله (بين قوسين: ما عدا امرأته التي كانت ترعبه!).

يقول لنا الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل في آخر مقابلة له مع مجلة «الإكسبريس» الباريسية ما فحواه:

«أعترف بأني خائف من الأصولية الإسلامية حالياً. خائف من رعبها وتكفيراتها وتفجيراتها. هذا لا يعني نسيان المتطرفين الإنجيليين في أميركا أو المتطرفين الهندوسيين في الهند. أنا ضد كل الأصوليات والأصوليين دفعة واحدة. ولكن ينبغي الاعتراف بأن الأصوليين الإسلاميين هم الأكثر عنفاً وترويعاً في هذه اللحظة بالذات. وهم الذين يفجرون العالم منذ 11 سبتمبر بل وحتى قبلها. من المعلوم أن فولتير حارب بكل قوة محاكم التفتيش الكاثوليكية التي كانت سائدة في عصره على الرغم من أنه كان كاثوليكياً أباً عن جد. وهذا من أعجب العجب. فلم يكن يعاني شخصياً من أي تمييز طائفي لأنه ينتمي إلى مذهب الأغلبية الراسخة. ومع ذلك فقد تحداها ووقف في وجه هيمنتها الساحقة وتكفيرها للآخرين وقمعهم واضطهادهم. لنتفق على الأمور هنا: من السهل جداً أن تهاجم طوائف الآخرين، وبخاصة إذا كانوا أقليات ولكن من أصعب الصعب أن تدخل في صدام مباشر مع طائفتك الخاصة بالذات، بخاصة إذا كانت هي طائفة الأكثرية المهيمنة تاريخياً والواثقة من شرعيتها أو مشروعيتها. هنا تكمن عظمة فولتير».

ثم يردف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:

«أنا مع الأنوار، مع التقدم، مع المفهوم العقلاني الحديث للدين والتدين. وهو مفهوم يؤمن لك الحرية الدينية بشكل كامل: أي أن تتدين أو لا تتدين على الإطلاق، ومع ذلك تبقى مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كافة الواجبات. أنا لا أراقب جاري فيما إذا كان يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد أم لا ولا أحاسبه على ذلك. هذا ليس شأني. ولكني أحاسبه إذا ما غش أو سرق أو اعتدى على حقوق الناس. أحاسبه إذا ما أخل بعمله كطبيب أو كمعلم أو كمهندس أو حتى كرئيس جمهورية!». ثم يضيف: «أنا ضد الطائفية وضد العنصرية وضد التعصب الديني الأعمى الذي يجتاح بعض مناطق العالم الإسلامي حالياً. وبالتالي فلا أستطيع أن أقول بأن كل الحضارات تتساوى. الحضارة التي تضمن احترام حقوق الإنسان وكرامته وعدم التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عنصري هي الحضارة الحقيقية ذات النزعة الإنسانية. وهي الآن الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام. والحضارة التي لا تؤمنها ليست حضارة. لماذا نقول ذلك؟ لأننا في أوروبا انتقلنا من عصر الظلامية الدينية إلى عصر الأنوار الدينية والعلمية والفلسفية. ما عدنا نفهم الدين بطريقة تكفيرية طائفية كما كان يفعل أجدادنا في العصور الوسطى. في الماضي كنا نذبح بعضنا بعضاً على الهوية: هذا كاثوليكي وهذا بروتستانتي لا يطيقان بعضهما بعضاً. بل ولا يستطيعان أن يعيشا في ذات الحي أو حتى في ذات الشارع. كانت أحياء الكاثوليكيين منفصلة كلياً عن أحياء البروتستانتيين. والآن انحسر كل هذا التعصب الأعمى ولم يعد له أي وجود في فرنسا أو إنجلترا أو ألمانيا أو هولندا أو بقية أوروبا المتحضرة التي تعامل كل مواطنيها على قدم المساواة أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. الدين لله والوطن للجميع. لهذا السبب تفوقت أوروبا على العالم العربي الإسلامي الذي لا يزال يتخبط في صراعاته الطائفية والمذهبية والذي لا يزال يشتمل على شرائح واسعة من المتعصبين الدمويين».

ثم يضيف أندريه كونت سبونفيل قائلاً:

«لقد انتقلنا في أوروبا من عصر محاكم التفتيش والحروب الصليبية والمجازر الطائفية إلى عصر حقوق الإنسان والمواطن ودحر الطائفية التي كانت تمزقنا... لقد انتقلنا من مجازر سانت بارتيلمي ضد الأقلية البروتستانتية التي كان قادة الأصولية الكاثولكية يكفرونها ويزندقونها ويبيحون دمها إلى عصر الأنوار والتسامح والمواطنة الحقة التي تشمل الجميع على قدم المساواة ودون أي تمييز على أساس طائفي أو مذهبي. هل هذا قليل؟»، ونحن نجيبه: هذا كثير بل وأكثر من كثير. هنيئاً لكم. نحن نحسدكم على كل هذا التقدم والتطور والاستنارة. ولكن هنا نحب أن نطرح على الفيلسوف الفرنسي هذا السؤال:

هل استطعتم تحقيق ذلك بسهولة ويسر يا ترى؟ هل استطعتم القضاء على الطائفية والمذهبية بين عشية وضحاها؟ هل استطعتم تحقيق الوحدة الوطنية برمشة عين؟ أم أن ذلك استغرق منكم ثلاثة قرون أو حتى أربعة: منذ القرن السادس عشر وحتى العشرين؟ فلماذا تطالبون العالم العربي أو الإسلامي كله بأن يحقق ذلك في ظرف سنوات معدودات؟ مستحيل. إنه لا يستطيع يا سيدي. إنه لا يستطيع. هذا فوق طاقته وإمكاناته في الوقت الحاضر. بالطبع لن ننتظر ثلاثة أو أربعة قرون لكي نحل المشكلة الطائفية والمذهبية ونحقق الوحدة الوطنية الحقيقية التي تشمل جميع المكونات على قدم المساواة. ولكننا لن نستطيع تحقيق هذا الهدف الغالي المنشود بالسرعة المرجوة. أعطيكم موعداً بعد عشرين أو ثلاثين سنة قادمة!

ثم يقول لنا أندريه كونت سبونفيل هذه الفكرة الجوهرية التي فاجأتنا وأسعدتنا:

«أشعر بالتقارب مع المسلم الحداثي المستنير أكثر من التقارب مع الفرنسي العنصري المنتمي إلى تيار اليمين المتطرف على الرغم من أني فرنسي مثله. ولكن لا أطيق آيديولوجيا التمييز العنصري التي يعتنقها. وهناك مثقفون عرب كثيرون من أمثالي لا يطيقون الآيديولوجيا الأصولية الدموية لأتباع الدواعش والقواعد».

ثم يختتم أخيراً بهذه الفكرة:

كما أن فولتير هزم الأصولية المسيحية في نسختها الكاثوليكية التي كانت ترعب عصره، فإننا سوف نهزم الأصولية الداعشية التي ترعب عصرنا. هذه حقيقة مؤكدة. ولكن متى سيحصل ذلك؟ الله أعلم. سوف يستغرق بعض الوقت. في النهاية لا يصح إلا الصحيح. وبالتالي فمعركة الأنوار التي دشنها فولتير في القرن الثامن عشر لا تزال مستمرة حتى الآن. ولهذا السبب هرع الناس إلى المكتبات لشراء مؤلفاته بعد أن ضرب «داعش» في قلب باريس!