آدم فتحي: «الشعبوية» تسعى لمأسسة «الفراغ الثقافي» وإخلاء المكان من أسلحة التنوير

الشاعر والمترجم التونسي لـ «الشرق الأوسط» {: الثقافة تخوض حرب مواقع ولن تنتصر فيها إلا مُوحدة ومتضامنة

الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي
الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي
TT

آدم فتحي: «الشعبوية» تسعى لمأسسة «الفراغ الثقافي» وإخلاء المكان من أسلحة التنوير

الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي
الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي

يعبّر الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي، المولود في الجنوب التونسي عام 1957، عن التزامه بقضايا الانسان وهمومه، مسخّراً الشعر الغنائي لتمثيل صورة المعاناة والبحث عن الحرية. سجل حضوراً مميزاً في المشهد الثقافي العربي، وغنى الشيخ إمام من قصائده: «يا ولدي»، و«اصحى طال النوم» وغيرهما، وشكل ثنائياً فنيّاً مميزاً مع لطفي بوشناق إذ غنى له العديد من القصائد من بينها: «سراييفو» و«أحمال قلبي الكبير»، كما شكل معه ثنائياً متفرداً، وعرف بانحيازه للفرق الموسيقية الملتزمة في الثمانينات، مثل (فرقة البحث الموسيقي)، و(الحمائم البيض)، كما كتب أغاني لحنّها مبدعون مثل الزين الصافي ومحمد بحر وغيرهم.
في مجال الترجمة، نقل آدم فتحي من الفرنسية إلى العربية مذكرات شارل بودلير «اليوميات»، وسبعة أعمال من مؤلفات الكاتب الروماني - الفرنسي إميل سيوران فترجم له: «مثالب الولادة»، و«المياه كلها بلون الغرق»، و«تاريخ ويوتوبيا»، و«اعترافات ولعنات»، و«تمارين في الإعجاب»، و«رسالة في التحلل»، و«السقوط في الزمن». كما ترجم روايتين لجيلبرت سينويه، بينهما «ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان»، و«اللوح الأزرق» وروايتين لنعيم قطان بينهما «وداعا بابل». وفاز بجائزة «سركون بولص للشعر وترجمته» التي تقدمها دار الجمل في دورتها الثانية عام 2019.
وبمناسبة احتفاء معرض الرياض الدولي للكتاب بتونس (ضيف شرف)، أجرت (الشرق الأوسط) الحوار التالي مع الشاعر والمترجم التونسي آدم فتحي:

> لديك حضور مميز في المشهد الثقافي العربي من خلال أعمالك الشعرية والترجمة والقصائد الغنائية. أنت من الأصوات الإبداعية التي عبرت حاجز الجغرافيا لتتحول إلى أيقونات عالمية، كيف تصف علاقة المشهد الثقافي في تونس بالعالم العربي؟ وكيف يخلق تواصله وتفاعله؟
- يعيش المثقّفون في تونس جنباً إلى جنب مع شعبهم الصراع المحتدم نفسه، بين الأحلام العالية والطموحات الكبيرة من جهة، والنصال المتكسّرة على النصال من الجهات المقابلة. وعلى الرغم عن خصوصيّة هذه اللحظة فإننا نشترك في كثير مع المشهد الثقافي العربي بعناصره المغاربية والمتوسطية والأفريقية والآسيوية. نحن نعيش (كلٌ على طريقته) اللحظة الكاريكاتوريّة نفسها التي صوّرها فيلم (Don›t Look Up). حيث يغلب على المشهد الشعبوي العالمي الاستقطاب بين ثقافة الاستهلاك والغيبوبة من جهة، وثقافة الوعي التي يُهَمَّشُ مُمَثّلوها ويُتّهمون بالغياب بينما هم مُغيَّبون. كل ذلك من أجل مأسسة «الفراغ الثقافيّ» وإخلاء المكان لنوعٍ من «No man’s land» الخالي من الأسلحة الثقافية التنويرية المحررة. تلك هي المعاناة المشتركة للثقافة في العالم. لذلك فإن العلاقة التي تهمنا في المشهد الثقافي خارج الحدود، هي تلك التي تمدّ الجسور مع ممثلي هذه الثقافة في كل مكان. ثمّة حرب مواقع تخوضها هذه الثقافة ولا تنتصر فيها إلا موحدة ومتضامنة. ولعلنا نستعين على هذا الأمر بما يتيحه لنا لكوننا أبناء قرن جديد. لقد تغيرت من حولنا مفاهيم عديدة ليس أقلها مفهوم الحدود. وأصبح في وسع أي موقع إنترنت أن يضع حداً لاحتكار المعلومة. وأن يلعب دور «العاصمة الثقافية». وأن ينتقل من هامش إلى مركز. وأن يصنع الحدث داخل المشهد ككل.
الشعر والسياسة
> كتبت الأغنية العاطفية، لكنك حلقت مع الأغنية الوطنية، فغنى لك الشيخ إمام مثل أغنية «يا ولدي»، و«اصحى طال النوم»، وشكلت ثنائياً فنياً مميزاً مع لطفي بوشناق حين غنى العديد من قصائدك بينها «سراييفو» و«أحمال قلبي الكبير». هذا يظهر التزامك الراسخ بالقضايا الإنسانية والوطنية. ماهي الرسالة التي تحملها شاعراً مسكوناً بالهم الإنساني؟
- تقول إحدى الخرافات الطريفة إن الروح دخلت جسد الإنسان فأحسّت بضيق المكان وطلبت السماح لها بالخروج، فأُمِر الإنسان بالغناء وهكذا اتّسع الجسد أمام الروح فطاب لها المقام. هذا النوع من الأغنية هو الذي حاولتُ الكتابة فيه. إنّها أغنية تمرح وتلعب وتتوجّع وتسأل وتحلم، وعن طريقها يتحاور الإنسان مع جسده ومع العالم. من ثمّ لم أكتب الأغنية على أساس أنها عاطفية أو وطنية. الأغاني التي تفضلت بذكرها لا تعترف بالأغراض. وكذلك سائر الأغاني التي لحنها لي سائر الأصدقاء المبدعين مثل الزين الصافي، أو البحث الموسيقي بقابس، أو محمد بحر وغيرهم. أنا أطلب من الأغنية ما أطلبه من القصيدة. أن تقولني ذاتياً وحميمياً في لحظة كتابتها. فإذا عبّرت عن الموضوعي والعام فيما هي تعبّر عن ذاتي وخصوصياتي فأهلاً وسهلاً. ذاك ما تعلّمتُ من «الأغنية الشعبية» ككل وهي تصاحب الإنسان في أوجاعه ومسرّاته ولا تعترف بتقسيم أغراضي أو توظيفها. وذاك ما تعلّمت من تجارب الأغنية العالمية في مختلف اقتراحاتها، بداية من سيد درويش، والرحابنة، والشيخ إمام، وصالح الخميسي، ومارسيل خليفة، وزياد الرحباني، وصولاً إلى جورج براسينس، وبوب مارلي، وبوب ديلان، وغيرهم.
> ما رأيك بكتابة الشعر السياسي؟ كيف للشاعر أن يعبر عن تفاعله مع قضايا الإنسان والعالم من دون الوقوع في شرك المباشرة؟
- علينا أن نكف عن اعتبار السياسة فزّاعة. ليس من عمل في المدينة إلا وهو سياسة من جهة ما. بما في ذلك ممارسة الشعر والإبداع عامة. أما إذا كان المقصود وضع الشعر في خدمة هذه الفكرة أو هذا الحزب، فتلك مجرّد بروباغندا لا يمكن نسبتها إلى الإبداع. المرفوض هو تسييس الشعر وليس سياسة الشعر. لقد عرف كبار الشعراء كيف يكونون ساسةً كباراً بمعنى الحفر في العقول والوجدان وتخليص المخيال من كل قيد أو شرط. يستوي في ذلك هوميروس، وعنترة، وطرفة بن العبد، وبودلير، ورامبو، وصولاً إلى نيرودا، والسيّاب، وريتسوس ولوركا، وسعدي، ودرويش، وسركون بولص، ولا حدّ للقائمة. ولعلّ ذلك ما رمى إليه إيمي سيزار حين قال: «إذا أردتم أن تفهموا سياستي فاقرأوا شعري». عِلماً بألا علاقة لحضور السياسة في النص بإنتاج نصوص «مباشرة» أو ضعيفة. قد يتأتى ضعف بعض النصوص أحياناً من السمنة البلاغية والإفراط في العدول والاستعارة. وقد تكون المباشرة في كثير من الأحيان عنصراً جوهرياً من عناصر معمار النص.
الشعر والترجمة
> ترجمتَ من الفرنسية إلى العربية مذكرات شارل بودلير «اليوميات»، هذا الكاتب المسكون بالفرادة يقول: «هناك من لا يستطيع أن يلهو إلا وهو في قطيع.. البطل الحقيقي يلهو وحيدا »، وهذا الكاتب المتوثب دائماً يقول: «فاقد الروح، ميت بين موتى..» ماذا رأيت في هذا الكاتب؟ ما الذي يضيفه للقارئ العربي؟
- أشرت في مقدّمة الترجمة إلى أن في هذه اليوميات ما يتيح لنا رؤية وجه بودلير بلا ماكياج ولا رتوش. إلا أن فيها أيضاً ما يكشف لنا عن الشاعر نفسه كما عرفناه في قصائده وكتاباته النقدية. ذاك الشاعر المتمزق بين قاع الحياة وسطحها وبين أنفاقها الموحلة وآفاقها الروحية. مع فارق أنه في قصائده يمارس هذا التمزّق ويحوّله إلى شعر، بينما هو في اليوميات يسائله ويحاوره ومن ثم يكشف لنا عن أسراره بشكل غير معهود.
> قدمت للعربية أيضاً سبعة أعمال من مؤلفات إميل سيوران، كيف رأيت هذا الفيلسوف الروماني المتشائم كما في كتابه الذي ترجمته «المياه كلها بلون الغرق»، وهو القائل: «من يريد أن يكون أكثر مما هو فلن يلبث أن يكون أقل»، و«الواقع يصيبني بالربو».
- أعتقد أنّ سيوران أكثر مراوغة وانفلاتاً من أن يصنّف ضمن «الفلاسفة المتشائمين». بل إنه لا يرى نفسه فيلسوفاً أصلاً. من ثَمّ طرافته. إنه كاتب يستمتع باستفزاز قرائه ويحب أن يدفعهم إلى التشكيك فيما يتصورونه بديهيات، ويطيب له أن يغريهم بإعادة التفكير في كلّ ما يتوهمون أنه مسلّمات. تقرأ سيوران فتختلف معه، لكنه يمنعك من الدوران في حلقة مفرغة. تدخل كتاباته على الخطابات المتكلّسة فتخلخلها وترجّها وتساعدها على الانهيار. هكذا يكون لنصوصه أحياناً أثر شبيه بأثر المتفجرات في الجبال حين نريد أن نشقّ فيها طرقاً جديدة. لذلك رأيت ضرورة ترجمته إلى اللغة العربية. لقد كانت العربية واحدة من أكثر اللغات حيوية وجرأة في أيام الجاحظ، والتوحيدي، وابن رشد وغيرهم. وظلّت كذلك حتى وقت متقدّم. ولم تكن تخشى من المقارنة بأي لغة في العالم كلّما تعلّق الأمر بقول الجسد أو الدين أو السياسة أو بالتفكير في أيّ من التابوهات. إلا أن كتّاباً كثيرين من ممثلي العربية في هذا الزمن المتأخر، آثروا الحيطة وغلب عليهم الخوف والتكلّس. ولعل في وسع تنزيل مناخات سيوران في لغتنا أن يتيح نوعاً من «خلخلة الماموث».
> ترجمت كذلك روايتين لجيلبرت سينويه، بينهما «ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان»، وروايتين لنعيم قطان بينهما «وداعا بابل». ما تضيف الترجمة لإثراء التراث الإنساني؟
- لا وجود لأيّ تراث إنساني في غياب الترجمة المبدعة، القادرة على تنزيل النصوص في لغة الاستقبال فإذا كأنها «في بيتها». ذاك ما فعله بودلير في الفرنسيّة حين «استضاف» إدغار ألان بو. وذاك ما فعله في العربية سامي الدروبي بالنسبة للأدب الروسي، وصالح علماني بالنسبة لأدب أميركا اللاتينيّة وكثيرون غيرهما. وأعتقد أن هذا ما عناه ساراماغو حين قال «نحن مدينون للكتّاب بالأدب الوطني، ومدينون للمترجمين بالأدب الكوني».
> بين الترجمة وكتابة قصيدة. ماذا تختار؟
- لا أقرّر مسبقاً كتابة القصيدة ولا أختار مسبقاً العمل الذي سأترجمه. الكتابة هي التي تختارني وليس العكس. ثَمّة روح تخاطبك من داخل الأشياء وتقول لك أنا بحاجة إلى جسد في لغتك. يحدث ذلك في الترجمة كما في الشعر. ولك أن تستجيب أو لا، وفق ما ترى في نفسك من مقدرة. أما إذا كنت تقصد المقارنة بين ممارسة الشعر والترجمة، فأنا لست ممّن يرون أن الترجمة درجة ثانية من الإبداع. الترجمة لا تقل أهمية عن إبداع الشعر والرواية. وهي تتطلّب عندي ما تتطلّبه كتابة القصيدة. ومن حسن حظّي أن ناشري يتفهّم ذلك.
> برأيك هل تخون الترجمة النص أحياناً؟
- إذا كنت تقصد بالخيانة ما ينتجُ تقنيّاً عن عدم توفر الشروط الأساسية لدى الترجمان، فهذا جزء من عيوب الكاتب الذي يتصدّى للخربشة من دون أن تتوفّر لديه شروط الكتابة. أما إذا كنت تقصد الخيانة في مفهومها الإبداعي، فأعتقد أنّها تحتاج اليوم إلى طرح مختلف. الكتابة ترجمة أصلاً. أي أننا لا نكتب شيئاً إلا ونحن نترجم. وحين نترجم نصاً فإن كثيرا منه يتبخر في الطريق. ذاك ما يسميه البعض «نصيب الملائكة» الذي لا بدّ من أن يتبخر كي يصبح العطر عطراً أو النبيذ نبيذاً. لا أحد يعرف النصّ الأصل، بل إنه غير موجود أو على الأقل غير متحقّق بالشكل الذي يتيح الوفاء لأصلٍ ما. هكذا لا يمكننا خيانة طرفٍ أو شيء لم نعدهُ بشيء. الخيانة «الإبداعيّة» جزءٌ لا يتجزأ من الترجمة لأنها جزء لا يتجزأ من الكتابة.
«نافخ الزجاج الأعمى»
> ماذا يقول «نافخ الزجاج الأعمى» في أيامه وأعماله؟ هل هو سيرة ذاتية تتعدى كاتبها لتشمل جيلاً تكسرت أحلامه بفعل صراعات السياسة؟
- أصبح على ذمة قرائه. يقوّلونه ما يريدون وليس لي أن أقوّله ما أريد. لكنّي واحد من قرائه أيضاً. من هذه الزاوية لعلي أراه يقول أحلامه المنكسرة بقدر ما يقول المنبعثة أيضاً من بين تلك الكسور. ولعلي أراه يصطدم بصراعات السياسة على طريقة نيتشه عند اصطدامه بما لا يميت، ليخرج أقوى وأشد بأساً.
> هل يمكن للأعمى أن «يتلمس طريقه في العتمة»، تقول: «انفخْ روحك في قصبتك/ افرح بأنك الأعمى/ افرح بأنك تضع يدك على كتف الأشياء، دائما من الجهة الخطأ/ ليس مهمّاً أنك لا ثمن الرغيف المرّ تعرف، لا ثمن اللدغة، لا ثمن النجمة تخور في سمائهم/ المهم أن تعرف أنك مهما رخُصت عليهم، فلا تقدّر بثمن».
- نحن لا نتلمّس طريقنا إلا في العتمة. لذلك يعيد «نافخ الزجاج» الاعتبار للعتمة بوصفها منبع الأنوار ومصبّها في وقت واحد. الشاعر في هذا الكتاب أعمى لكنّ عماه لم يدفعه إلى اليأس من الرؤية والفعل والحبّ. اليأس بالنسبة إليه ثديٌ يرضع منه الأمل. وهو يتعلّم من الأمل أن يرى بواسطة كائنات الزجاج التي ينفخ فيها من روحه، ثمّ يطلقها كي تتحرّر فيتحرّر معها ويشقّ طريقه في الحياة.
> قرأت لك ذات مرّة تقول: «لا يكفي أن نثور كي نتغير، بل علينا أن نتغير كي نثور» أين يقع التغيير الثقافي في هذا السياق؟
- التغيير الحقيقي يقع في العقل والوجدان. لأن الثورة طريق وليست محطّة في الطريق. وكي تشق هذه الطريق عليك أن تكون جديراً بها وإلا افتضح أمرك وظهر عجزك وتمخضت ثورتك المزعومة عن ردة كارثية.
هذا ما قصدته حين قلت إنه لا يكفي أن نثور كي نتغير بل علينا أن نتغير كي نثور. التغيير المقصود هنا تغيير ثقافي بالدرجة الأولى، بما تعنيه الثقافة من قيم وذهنيات وبنى تتأسّس عليها «المواطنة الجديدة». أما إذا لم نفعل ذلك، فنحن لن نكون في أفضل الأحوال سوى تجسيد لما ذهب إليه توكفيل بعد عقود من الثورة الفرنسية حين قال (بشيء من التصرّف): «يبدو أننا دمرنا الواقع السابق كي نعيش إلى الأبد بين أنقاضه».


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».