الحرب في ليبيا.. و«الصراع» في تونس

بعد قضيتي الرهائن وغلق قنصلية طرابلس.. حكومة الصيد في خطر

موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في  طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري  في تونس (أ.ف.ب)
موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري في تونس (أ.ف.ب)
TT

الحرب في ليبيا.. و«الصراع» في تونس

موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في  طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري  في تونس (أ.ف.ب)
موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري في تونس (أ.ف.ب)

استفحلت الخلافات بين السياسيين وكبار رجال الأعمال التونسيين والليبيين بشكل غير مسبوق حول منهج التعامل مع الحرب المدمرة التي تشهدها ليبيا وانعكاساتها على البلدين، خاصة بعد إعلان تونس عن غلق كل ممثلياتها الدبلوماسية والقنصلية في طرابلس ردا على احتجاز 10 من موظفيها الدبلوماسيين بعد أسابيع قليلة من حادثة اختطاف نحو 200 عامل تونسي في العاصمة الليبية وضواحيها.
ولئن سبق للساسة والنخب في تونس وبقية العواصم العربية أن اختلفوا حول طريقة التعامل مع الأطراف المتصارعة سياسيا وعسكريا في ليبيا، فإن جديد الأزمة الجديدة بالنسبة لتونس، أن الشركاء في الائتلاف الحاكم نفسه وداخل قصري الرئاسة والحكومة والبرلمان دخلوا في صراعات علنية بسبب «الملف الليبي».

فإلى أين تسير هذه الأزمة التي توشك أن تهدد استقرار الحكومة التونسية الفتية بزعامة الحبيب الصيد ووحدتها فضلا عن مستقبل الحزبين الكبيرين في البلاد: حزب النداء بزعامة الباجي قائد السبسي، الأقرب إلى حكومة طبرق شرقا، وحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي الأقرب إلى «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس غربا؟
وما دلالات انخراط رموز «المال السياسي» في المعارك السياسية التي اندلعت في تونس مع اشتداد العمليات العسكرية في ليبيا؟
وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش قال لـ«الشرق الأوسط» على هامش مؤتمر صحافي تعقيبا على قرار غلق القنصلية التونسية في طرابلس، إن قرار الغلق جاء بعد أن تأكد أن المسلحين الذين احتجزوا الدبلوماسيين التونسيين العشرة وقبل ذلك نحو 200 عامل، ينتمون إلى «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا. وأعلن الطيب البكوش عن تراجع الخارجية التونسية عن قرارها السابق التعامل مع حكومة طرابلس التي تهمين على كامل غرب ليبيا حيث يوجد نحو 150 ألف عامل تونسي، والذي تربطه بتونس نحو 600 كلم من الحدود المشتركة. وتعهد وزير الخارجية التونسي بإحداث قنصلية جديدة على الحدود التونسية - الليبية «بالتنسيق مع مجموعة من الدول الشقيقة والصديقة التي لديها مصالح وجاليات في ليبيا».

* احتجاجات على القطيعة
* لكن المفاجأة كانت في إعلان اعتراضات تونسية بالجملة على قرار غلق القنصلية التونسية في طرابلس والقطيعة مع حكومتها. وصدرت بعض تلك التصريحات عن زعماء سياسيين بارزين من بين «الأحزاب المشاركة في الحكومة» ومن المعارضة؛ بينهم نور الدين البحيري الوزير السابق ورئيس كتلة حزب النهضة في البرلمان التونسي. ونشرت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية انتقادات بالجملة لقرار القطيعة مع «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس، كما انتقدت اتهامهما بالضلوع في الإرهاب وفي ممارسة ضغوطات «غير مقبولة» على السلطات التونسية تمثلت في احتجاز 10 دبلوماسيين واشتراط الإفراج عن موقوف ليبي من التنظيم نفسه في تونس مقابل إطلاق سراحهم، وهو ما تم فعلا على الرغم من أن الموقوف الليبي (وليد القليب) مفتش عنه من قبل الإنتربول (وكالة الشرطة الدولية) بعد اتهامه من قبل خصومه في حكومة طبرق بـ«الضلوع في الإرهاب وفي جريمة معركة طرابلس في صائفة 2014.

* خلافات داخل الحزب الحاكم
* ولم تبرز حملة مساندة قوية لوزير الخارجية التونسي الطيب البكوش ونائب رئيس حزب نداء تونس من داخل حزبه ولا الفريق الحاكم في قصري قرطاج والقصبة. بل برز العكس؛ إذ تواصلت حملة تهميشه من خلال تكليف الوزير المستشار السياسي للرئيس والأمين العام الجديد للحزب محسن مرزوق - وهو من بين خصوم البكوش - بمزيد من المهام الدبلوماسية الرسمية كانت آخرها زيارة موسكو لإبلاغ الرئيس بوتين رسالة من الرئيس الباجي قائد السبسي وعقد لقاء مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
وجاءت هذه العملية بعد أن وقع تغييب وزير الخارجية الطيب البكوش عن زيارات رئيس الدولة التونسي إلى كل من أميركا وألمانيا وإيطاليا.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد؛ إذ انخرط عدد من رموز «المال السياسي» في تونس وليبيا على الخط، مثل شفيق جراية المقرب من الباجي قائد السبسي وحزبه وصديق زعيم حزب الوطن الليبي ورجل الأعمال عبد الحكيم بالحاج، وأعلنوا معارضتهم قرار الخارجية التونسية «إعلان القطيعة» مع حكومة طرابلس ومع «فجر ليبيا» والأطراف السياسية القريبة منهما.

* «المال السياسي» على الخط
* ولم تنته «المزايدات» بين أنصار القطيعة مع «فجر ليبيا» وخصومها هنا، بل إن مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين والإعلاميين المقربين من شفيق جراية وحلفائه في «فجر ليبيا» تنقلوا إلى طرابلس بعد قرار «القطيعة». في المقابل، فإن الطيب البكوش وزير الخارجية عقد مؤتمرا صحافيا اتهم فيه «أطرافا تونسية» - لم يسمها - بعرقلة عملية الإفراج عن الدبلوماسيين المختطفين وبإجراء اتصالات مع قيادات في «فجر ليبيا» ودعوتها إلى عدم تسليم الرهائن قبل تسلم «الزعيم وليد القليب» الموقوف بناء على أمر من القضاء التونسي. وقد اضطرت تونس لتسليمه لحكومة طرابلس فعلا. وفسر وزير الخارجية التونسي الخطوة بأنها جاءت «لأن وليد القليب سيحاكم في ليبيا أيضا بتهم أخرى موجهة إليه».

* محاولة لتسريع النسق
* وفي الوقت الذي تشــــــهد فيه محافظات الجنوب والوسط التونسي منذ مــــــدة اضطرابات اجتماعية في علاقـــــــــــــة بانقطاع موارد الرزق لمئــــــات آلاف التونسيين الذين يعتمدون منذ عقود على المبادلات والشــــــــراكة مع ليبيــــــــــــا، تسعى قيادات الأوساط الليبية المواليـــــــة لحكومة طبرق وللعقيـــــــد الليبي الراحل معمر القذافي وتكتــــــل «القبـــــائل الليبية» وجيش خليفة حفتر، من تونس إلى تســــــــــريع نسق «الحسم» من الجانب التونسي ضد مقاتلي «فجر ليبيــــــــا» الذين يتهمونهم بالإرهاب والتطرف وخدمة أجندة الجماعات المســــــــلحة القريبة من «داعش» و«القاعدة».
في هذا السياق، كثف مبعوثو وسائل الإعلام القريبة من حكومة طبرق من تونس دعايتهم ضد «الإرهابيين من (فجر ليبيا)».
وفي السياق نفسه أيضا، انخرط عدد من الساسة التونسيين في حملة مساندة لقرار وزير الخارجية التونسية «القطيعة» مع حكومة «فجر ليبيا».
ووصفت بدرة قعلول رئيسة مركز الدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية، حكومة طرابلس وتنظيم «فجر ليبي» بالميليشيات «الإرهابية»، واتهمتها بـ«دعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في تونس وفي كامل المنطقة العربية وفي بلدان الساحل والصحراء الأفريقية بدءا من مالي ونيجيريا وتشاد والنيجر».
تغيير في موازين القوى
ويراهن كثير من خصوم التيارات الإسلامية في تونس وليبيا على أن تؤدي «خطوة سحب كل الدبلوماسيين التونسيين من طرابلس» مع مطالبة العمال التونسيين في ليبيا بالعودة، إلى التعجيل بـ«الحسم عسكريا» من قبل قيادات الجيش الليبي الموالي لخليفة حفتر والميليشيات القريبة منه مع «مجرمي عصابات (فجر ليبيا)» وحلفائها.
كما يعد بعض الخبراء الأمنيين مثل نصر بن سلطانة وبدرة قعلول، أن «محاصرة حكومة طرابلس رهينة موقف تونس باعتبار تونس باتت موطن نحو ثلث الشعب الليبي وهي المتنفس الرئيسي للليبيين». كما يعتبرون أن انتصار «الليبراليين والعلمانيين» في ليبيا ضد الجماعات المسلحة «القريبة من الإخوان المسلمين» سيزيد من إضعاف الإسلاميين التونسيين وقد يتسبب في إخراجهم من الحكم ومن البرلمان في تونس أيضا أو على الأقل في تغيير موازين القوى لصالح خصومهم.

* تطورات ميدانية
* في المقابل، يعد بعض الخبراء - مثل الجامعي زهير بن علي - أن قرار الخارجية التونسية «اتخذ منذ مدة على خلفية التقارير التي تشير إلى تقدم الجيش الليبي الموالي لخليفة حفتر وحلفائه في المناطق الغربية لليبيا بعد أكثر من عام من هيمنة (فجر ليبيا) عليها».
لكن وزير الدفاع التونسي فرحات الحرشاني الذي أدى بعد قرار غلق القنصلية والسفارة زيارات تفقد للحدود التونسية الليبية، أكد على حياد تونس وعلى «جاهزية الجيش التونسي لحماية الأراضي التونسية».
وقد تأكد تعزيز الحدود البرية التونسية - الليبية بقوات من الجيش التونسي في الجنوب وإغلاق بعض المنافذ البرية، وهو ما عدّه البعض مؤشرا على وجود نيات في تونس «لمحاصرة عناصر (فجر ليبيا) بالتزامن مع بدء تغير الواقع السياسي والعسكري في طرابلس والمحافظات الغربية لليبيا».

* حملات ضد البكوش ومرزوق
* وعلى الرغم من الصبغة الدولية للحرب الليبية، فإن «المعارك» تنفجر بين السياسيين التونسيين في أعقاب كل توتر مع أحد الأطراف السياسية والأمنية والاقتصادية الفاعلة في ليبيا.
ولعل من أغرب وأخطر هذه المعارك السياسية استفحال الخلاف داخل الفريق الحاكم في قصري قرطاج والقصبة من جهة، وداخل حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس الباجي قائد السبسي مع نخبة من المقربين منه من بينهم وزير الخارجية الطيب البكوش - نائب رئيس الحزب حاليا - ومحسن مرزوق الأمين العام الجديد للحزب والمدير السابق للحملة الانتخابية لقائد السبسي.
وإذا كان لهذه الأزمة جوانب حزبية داخلية، فإن بعض السياسيين والنشطاء، مثل إسكندر الرقيق الأمين العام السابق لحزب السلام والتنمية، تهجموا بقوة بالمناسبة على البكوش ومحسن مرزوق وعلى رموز الدولة. وانتقد إسكندر الرقيق ظاهرة تهميش وزير الخارجية الطيب البكوش خلال الزيارات الدولية لرئيس الجمهورية مقابل تكليف مرزوق بـ«مهام مكوكية بين واشنطن وموسكو وبرلين».. بما يوحي بأن مرزوق ليس أمينا عاما لحزب سياسي، بل وزير الخارجية الحقيقي لتونس، بينما أصبح الطيب البكوش يعامل كأنه «وزير خارجية موزمبيق».

* صمت «القصور»
* ولئن أخذت هذه الزوبعة السياسية الإعلامية مجددا أبعادا خطيرة في تونس وليبيا، فإنها ليست الأولى، وقد سبق أن أثارت تصريحات حول علاقة تونس بحكومتي طرابلس وطبرق انتقادات بالجملة في تونس وخارجها خاصة لما انخرط فيها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي دعم موقف وزيره الطيب البكوش في ما يتعلق بـ«التزام الحياد» بين الأطراف الليبية المتصارعة داخل ليبيا وبـ«التعامل مع الأمر الواقع كما هو، إي إحداث قنصليتين؛ واحدة في طرابلس، والثانية في طبرق المقر المؤقت للحكومة المعترف بها دوليا».
وقد تسببت مواقف الرئيس التونسي ووزيره للخارجية وقتها في انتقادات عنيفة وجهها له الناطق الرسمي باسم حكومة طبرق ولوح فيها بالاعتراف بحكومتين في تونس «إحداها في قصر قرطاج، والثانية في جبل الشعانبي» على الحدود الجزائرية حيث تتركب العصابات الإرهابية من حين لآخر هجمات إرهابية على قوات الجيش والأمن التونسيين.
وقد دعم الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وقتها وزيره للخارجية بعد أن قوبلت بعض تصريحات البكوش بــ«تحفظات» بعض السفراء العرب؛ بينهم السفير المصري لدى تونس أيمن مشرفة الذي أعلن في لقاء عقده وزير الخارجية مع الدبلوماسيين بحضور الصحافيين، تحفظاته على «قرار حكومة تونس التعامل مع حكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا خلافا للقرار الدولي الذي نص على الاعتراف بشرعية برلمان طبرق (1700 كلم شرقي طرابلس) وحكومته وسحب الاعتراف من سلطات طرابلس».
وتساءل الجامعي عبد اللطيف الحناشي قائلا: «في الوقت الذي قدرت فيه غالبية صناع القرار في العالم (هدوء الانتقال السياسي) في تونس رغم الاضطرابات الأمنية الخطيرة في بقية دول الربيع العربي، فإن التساؤلات كثرت عن (خفايا) استفحال (التناقضات) في المواقف السياسية للرسميين التونسيين بما في ذلك في المجال الدبلوماسي».

* الأزمة ستدوم 20 عاما
* في الأثناء حذر عسكريون وأمنيون تونسيون من مخاطر «الغرق في الوحل الليبي» ومن التورط في مزيد من المعارك الجانبية في تونس بسبب حرب تجري خارج الأراضي التونسية ولا ينبغي أن يجر التونسيون إليها.
وحذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا محمد سعيد الكاتب من مضاعفات الملف الأمني السياسي الليبي على تونس. وأضاف قائلا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «بصفة عامة ودون الخوض في تفاصيل المسائل التقنية واللوجستية، فإني أعتقد أن هشاشة الوضع الأمني في تونس مرتبطة بعوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية، وهي مرتبطة عضويا بتطوّرات الأزمة الليبية التي قد تستمر إلى ما بين العشرين والثلاثين سنة المقبلة. وبالنظر لطبيعة هذه الأزمة جغرافيا، فإنها ستتسبب في تهديدات خطيرة عسكريا وأمنيا بالنسبة لتونس وإقليميا».

* فشل الثورات العربية
* إلا أن المدير العام السابق للأمن العسكري وللقمارق التونسية أمير اللواء محمد المؤدب، يربط بين الأزمات الأمنية المستفحلة في ليبيا وتونس و«فشل جلّ ما كان يعتقد أنها (ثورات) عربيّة». فقد كانت نتيجة «الثورات» أن اكتسحت الدول المعنيّة موجات عنف ونزاعات داخليّة غذّتها، خاصة، التدخّلات الأجنبيّة المباشرة والإرهاب، ممّا عصف بكلّ أنظمة الحكم فيها، و«أصبحت تلك الدول مهدّدة بصفة مباشرة لا في حدودها الخارجيّة فحسب؛ بل في كيانها وفي وجودها؛ ليبيا، واليمن، وسوريا، والعراق.. و قد لا تكون تلك القائمة نهائيّة».
وحذر المدير العام السابق للأمن العسكري والديوانة محمد المؤدب من اتّساع رقعة انتشار «الفكر التكفيري» في تونس وليبيا وفي المنطقة العربيّة ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية.
واعتبر محمد المؤدب في حواره مع «الشرق الأوسط» أنّ الأمر بالنسبة لتونس لا يقف عند ذلك الحدّ من التهديدات الخارجيّة، «بل تفاقم وسيتفاقم جرّاء تردّي الوضع العام بليبيا المجاورة التي تشهد منذ 2011 أزمة سياسيّة خانقة، وانهيارا كلّيا لمؤسّسات الدولة، ونزاعات داخليّة مسلّحة بين جهات لا تحصى ذات مرجعيّات متنافرة، وتمركز نواة مواليّة لـ(داعش) في سرت ودرنة، وسيطرة ميليشيات ما يسمّى (فجر ليبيا) على العاصمة طرابلس وعلى جلّ المناطق الليبيّة الغربيّة، أي المجاورة لبلادنا، وتدخّلات عسكريّة أجنبيّة مباشرة على الأراضي الليبيّة وفي مجالها البحري، واستعدادات لعمليّات عسكريّة أجنبيّة قادمة تتأكد يوما بعد يوم.. (فجر ليبيا)، الجار الحالي لتونس، هو أحد أهمّ الأطراف المتنازعة بجدّية على السلطة في ليبيا، خلفيّاته وتوجّهاته الفكريّة قد لا تجعل منه الجار الأمين والسّند القوي لتونس ومتعاونا للمصلحة المشتركة للشعبين. من الصعب اعتبار اقتحام المقرّ الرسمي للقنصلية التونسيّة في طرابلس من طرف مسلّحين واختطاف دبلوماسيّين تونسيين لتبادلهم بموقوف ليبي لدى القضاء التونسي، إشارة أو مبادرة تبشّر بعلاقــات تتجاوز احترام الأعراف الدوليّة لترقى لعلاقات بين إخوة وأشقّاء وأصهار».
تستفحل الأزمة في ليبيا وتتعقد مضاعفاتها داخليا وخارجيا، وتبقى تونس التي تحتضن مليوني مواطن ليبي، حسب الرئيس الباجي قائد السبسي، الأكثر عرضة لمزيد من المعارك السياسية الهامشية بسبب حروب ليبيــــــــــــا.



عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
TT

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا
يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» عن مواصلة العمل لتحقيق حلمه. إذ تفتحت عينا «عرّو» في مدينة هرجيسا، عاصمة إقليم «أرض الصومال» وكبرى مدنه، يوم 29 أبريل (نيسان) 1955، على نداءات للاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وتحقّق ذلك وعمره نحو 5 سنوات... وهو الآن يأمل باعتراف دولي للإقليم - الذي كان يُعرف سابقاً بـ«الصومال البريطاني» - وهو يترأسه بعمر الـ69 كسادس رئيس منذ انفصاله عن الجمهورية الصومالية عام 1991.

عاش عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» حياته بين دهاليز الدبلوماسية وسنوات غربة وتقلبات السياسة، وسجل أرقاماً قياسية، أبرزها أنه كان أطول رؤساء مجلس نواب إقليم «أرض الصومال» (صوماليلاند) عهداً مسجّلاً 12 سنة.

وجاء إعلان انتخابه رئيساً للإقليم في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المودّع، في ظرف تاريخي وتوقيت مصيري يواجهان بلاده وسط توترات حادة، أبرزها مع الحكومة الصومالية الفيدرالية - التي لا تعترف بانفصاله - وترفض اتفاقاً مبدئياً أقرّه سلفه موسى بيحي عبدي مطلع 2024 مع إثيوبيا اعتبرت أنه يهدّد سيادة البلاد.

المولد والنشأة

وُلد عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو» وفق مصادر «الشرق الأوسط»، في عائلة مكوّنة من 7 فتيات و3 أولاد، وهو حالياً متزوج ولديه 5 أبناء.

بدأ تعليمه الابتدائي في مدينة بربرة، ثاني كبرى مدن الإقليم وميناؤه الرئيس. وتابع تعليمه الثانوي في هرجيسا، منتقلاً إلى المدرسة الثانوية عام 1977. وبعد ذلك، انتقل إلى العاصمة الصومالية الفيدرالية مقديشو، حيث التحق بكلية سيدام ومنها حصل على درجة البكالوريوس في المحاسبة، وتضم شهاداته أيضاً درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودبلوماً في حل النزاعات.

بين عامي 1978 و1981، عمل «عرّو» في منظمة معنية بالتنمية الاجتماعية في مقديشو. وبين عامي 1981 و1988 شغل منصباً دبلوماسياً في وزارة الخارجية الصومالية بإدارة التعاون الاقتصادي. ومن مايو (أيار) 1988 إلى عام 1996، قبل أن يعمل مستشاراً للسفارة الصومالية في موسكو ثم نائب السفير والقائم بالأعمال.

العيش في الخارج

بعد انهيار الحكومة الصومالية، انتقل «عرّو» عام 1996 إلى فنلندا، التي كانت عائلته تقيم فيها منذ سنوات عدة وحصل على جنسيتها وظل مقيماً فيها حتى عام 1999.

للعلم، خلال عامي 1997 و1998 كان مساعد المنظمة الدولية للهجرة في فنلندا. بيد أنه عاد إلى إقليم أرض الصومال عام 1999، وبعد أقل من سنتين، أصبح «عرّو» أحد مؤسسي «حزب العدالة والتنمية» UCID - حزب المعارضة البارز - مع فيصل علي وارابي منافسه في الانتخابات الرئاسية هذا العام، وحينذاك شغل منصب نائب الأمين العام للحزب.

إقليم أرض الصومال شهد انتخابات لمجلس النواب، المكوّن من 82 نائباً، يوم 29 سبتمبر (أيلول) 2005. وكانت تلك أول انتخابات برلمانية متعددة الأحزاب تنظَّم في الإقليم منذ انفصاله عن جمهورية الصومال (الصومال الإيطالي سابقاً) عام 1991. ولقد انتخب «عرو» نائباً عن منطقة ساحل بربرة، وانتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان (مجلس النواب)، وإبّان فترة ولايته سُنّت معظم قوانين الإقليم وتشريعاته.

لكن، بعد نحو 6 سنوات، وإثر خلاف تفجّر مع وارابي، أسّس «عرّو» الذي يتكلم اللغات الإنجليزية والعربية والروسية، «الحزب الوطني» - أو حزب «وداني» (الوطني) - المعارض الذي يميل إلى اليسار المعتدل ويحمل رؤية تقدمية في قضايا الأقليات والحريات كما يدعم المزيد من اللامركزية.

يوم 2 أغسطس (آب) 2017، استقال «عرّو» من رئاسة البرلمان بعدما شغل المنصب لمدة 12 سنة، وهي أطول فترة لرئيس برلمان بتاريخ الإقليم، معلناً أنه يتهيأ لدور أكثر أهمية كرئيس لأرض الصومال. غير أن آماله تحطمت على صخرة موسى بيحي عبدي، مرشح «حزب السلام والوحدة والتنمية» في المرة الأولى.

لكنه حقق مراده بعدما أعاد الكرَّة وترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجريت يوم 13 نوفمبر 2024، وحصل فيها على 63.92 في المائة من الأصوات متغلباً على عبدي الذي حل ثانياً بـ34.81 في المائة، لجنة الانتخابات الوطنية الرسمية بالإقليم.

الرئيس السادسانتخابات عام 2024 هي الانتخابات المباشرة الرابعة منذ عام 2003، ومع فوز «عرّو» غدا الرئيس الرابع حسب الانتخابات الرئاسية المباشرة لفترة تمتد إلى 5 سنوات، وكذلك أصبح الرئيس السادس في المجمل منذ انفصال الإقليم 18 مايو 1991. ويذكر أنه عقب إعلان انفصال إقليم أرض الصومال، انتخب السفير عبد الرحمن أحمد علي، رئيس الحركة الوطنية بالبلاد حينها، ليكون أول رئيس للإقليم عبر انتخابات غير مباشرة. وفي 1993 انتخب السياسي محمد إبراهيم عقال رئيساً، وفي عام 1997 وجدّد له لفترة ثانية.

وبعد وفاة عقال عام 2002 أثناء رحلة علاج في جنوب أفريقيا، انتًخب نائبه طاهر ريالي كاهن؛ رئيساً للبلاد لتكملة الفترة الانتقالية. ثم في عام 2003، أجريت أول انتخابات رئاسية مباشرة في الإقليم، أسفرت عن فوز حزب «اتحاد الأمة» بقيادة الرئيس طاهر ريالي كاهن على السياسي أحمد محمد سيلانيو.

وفي يونيو (حزيران) 2010، أُجريت ثاني انتخابات رئاسية مباشرة، وتمكن سيلانيو من الفوز بالرئاسة لفترة خمس سنوات. وانتهت الانتخابات الثالثة التي أجريت في 13 نوفمبر 2017، بفوز موسى بيحي عبدي، الذي حصل على 55 في المائة من الأصوات.

وكان من المقرر أن تُجرى انتخابات الرئاسة الرابعة في الإقليم عام 2022، لكن لجنة الانتخابات الوطنية أجّلتها إلى 2023 ثم إلى نوفمبر 2024 بعد تمديد نيابي لولاية الرئيس عبدي الذي يتولى الرئاسة منذ 2017. وأرجعت اللجنة التأجيلات إلى «قيود زمنية وتقنية ومالية»، وسط انتقادات من المعارضة، قبل أن يفوز «عرّو».

التزامات وتحديات

جاء انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال، لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا مطلع 2024، تسمح للأخيرة بمنفذ بحري على سواحل البحر الأحمر لأغراض تجارية وعسكرية، مقابل الاعتراف بالإقليم بصفته دولةً مستقلة، الأمر الذي عدّته الحكومة الصومالية «اعتداءً على سيادتها وأراضيها».

إذ بجانب تحدّي الميناء، يشكّل الملف الداخلي تحدّياً ثانياً - بالذات - في أبعاده الأمنية والاقتصادية والعشائرية. كذلك تعدّ العلاقات الخارجية، وبخاصة مع إثيوبيا، تحدياً ثالثاً. ويضاف إلى ما سبق تحديان آخران، الرابع يتصل بملف المفاوضات المعلّقة مع الحكومة الصومالية الفيدرالية، والخامس بملف «حركة الشباب» الإرهابية المتطرفة.

هذه التحديات الخمسة، تقابلها التزامات أكّدها الرئيس المنتخب أثناء حملاته الانتخابية، منها التزامه بإعادة فتح وتنفيذ الحوار بين الإقليم والحكومة الفيدرالية الصومالية، وفق ما ذكرته إذاعة «صوت أميركا» باللغة الصومالية عقب مقابلة معه. وخلال حملاته الانتخابية أيضاً، قال «عرّو» إن حزبه سيراجع «مذكرة التفاهم» مع إثيوبيا، من دون أن يرفضها. في حين نقلت «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) عن محمود آدم، الناطق باسم حزب «عرّو»، أن «الاتفاقية لم تُعرض على الحزب أثناء العملية، وأن الحزب لم يراجعها منذ ذلك الحين». وأردف: «بشكل عام، نرحب بأي تعاون عادل ومفيد مع جيراننا. ولقد كانت إثيوبيا على وجه الخصوص صديقاً عظيماً على مرّ السنين. وعندما نتولّى السلطة، سنقيّم ما فعلته الحكومة السابقة».

لكن سبق هذه التعهدات والتحديات برنامج سياسي لحزب «وداني» تضمن خطوطاً عريضة متعلقة بالسياسة الخارجية لانتخاب الرئيس «عرّو» في عام 2024، أبرزها أن تكون الإجراءات القانونية والدبلوماسية لأرض الصومال مبنية على المصالح الوطنية ولا تتورط في نزاعات سياسية واقتصادية مع دول أخرى.

وتتضمن النقاط نقطتي:

- العمل على انضمام أرض الصومال إلى المنظمات الدولية الرئيسة، كالاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، والكومنولث، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية، وغيرها.

- وإجراء مراجعة سنوية للسياسة الخارجية، لتعكس التطورات العالمية وتضمن التوافق مع المصالح الوطنية.

خبراء حاورتهم «الشرق الأوسط»، قالوا إنه من الصعب التكهن حالياً بتداعيات فوز مرشح المعارضة على مسار مذكرة التفاهم مع إثيوبيا، لكنهم اعتبروا أن الرئيس المنتخب سيسلك استراتيجية أخرى لنيل الاعتراف الدولي، تقوم على تهدئة الخطاب السياسي تجاه مقديشو، وإرسال رسائل تطمينية لها؛ بغية حثّها على الاعتراف بـ«أرض الصومال» دولةً مستقلة، مقابل الوصول لصيغة قانونية جديدة معترف بها دولياً تحكم العلاقة بين المنطقتين، كصيغة الاتحاد الفيدرالي مثلاً.