الحرب في ليبيا.. و«الصراع» في تونس

بعد قضيتي الرهائن وغلق قنصلية طرابلس.. حكومة الصيد في خطر

موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في  طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري  في تونس (أ.ف.ب)
موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري في تونس (أ.ف.ب)
TT

الحرب في ليبيا.. و«الصراع» في تونس

موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في  طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري  في تونس (أ.ف.ب)
موظفة تونسية اختطف من قبل ميليشيا مسلحة من القنصلية التونسية في طرابلس خلال وصولها إلى مطار عسكري في تونس (أ.ف.ب)

استفحلت الخلافات بين السياسيين وكبار رجال الأعمال التونسيين والليبيين بشكل غير مسبوق حول منهج التعامل مع الحرب المدمرة التي تشهدها ليبيا وانعكاساتها على البلدين، خاصة بعد إعلان تونس عن غلق كل ممثلياتها الدبلوماسية والقنصلية في طرابلس ردا على احتجاز 10 من موظفيها الدبلوماسيين بعد أسابيع قليلة من حادثة اختطاف نحو 200 عامل تونسي في العاصمة الليبية وضواحيها.
ولئن سبق للساسة والنخب في تونس وبقية العواصم العربية أن اختلفوا حول طريقة التعامل مع الأطراف المتصارعة سياسيا وعسكريا في ليبيا، فإن جديد الأزمة الجديدة بالنسبة لتونس، أن الشركاء في الائتلاف الحاكم نفسه وداخل قصري الرئاسة والحكومة والبرلمان دخلوا في صراعات علنية بسبب «الملف الليبي».

فإلى أين تسير هذه الأزمة التي توشك أن تهدد استقرار الحكومة التونسية الفتية بزعامة الحبيب الصيد ووحدتها فضلا عن مستقبل الحزبين الكبيرين في البلاد: حزب النداء بزعامة الباجي قائد السبسي، الأقرب إلى حكومة طبرق شرقا، وحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي الأقرب إلى «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس غربا؟
وما دلالات انخراط رموز «المال السياسي» في المعارك السياسية التي اندلعت في تونس مع اشتداد العمليات العسكرية في ليبيا؟
وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش قال لـ«الشرق الأوسط» على هامش مؤتمر صحافي تعقيبا على قرار غلق القنصلية التونسية في طرابلس، إن قرار الغلق جاء بعد أن تأكد أن المسلحين الذين احتجزوا الدبلوماسيين التونسيين العشرة وقبل ذلك نحو 200 عامل، ينتمون إلى «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا. وأعلن الطيب البكوش عن تراجع الخارجية التونسية عن قرارها السابق التعامل مع حكومة طرابلس التي تهمين على كامل غرب ليبيا حيث يوجد نحو 150 ألف عامل تونسي، والذي تربطه بتونس نحو 600 كلم من الحدود المشتركة. وتعهد وزير الخارجية التونسي بإحداث قنصلية جديدة على الحدود التونسية - الليبية «بالتنسيق مع مجموعة من الدول الشقيقة والصديقة التي لديها مصالح وجاليات في ليبيا».

* احتجاجات على القطيعة
* لكن المفاجأة كانت في إعلان اعتراضات تونسية بالجملة على قرار غلق القنصلية التونسية في طرابلس والقطيعة مع حكومتها. وصدرت بعض تلك التصريحات عن زعماء سياسيين بارزين من بين «الأحزاب المشاركة في الحكومة» ومن المعارضة؛ بينهم نور الدين البحيري الوزير السابق ورئيس كتلة حزب النهضة في البرلمان التونسي. ونشرت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية انتقادات بالجملة لقرار القطيعة مع «فجر ليبيا» وحكومة طرابلس، كما انتقدت اتهامهما بالضلوع في الإرهاب وفي ممارسة ضغوطات «غير مقبولة» على السلطات التونسية تمثلت في احتجاز 10 دبلوماسيين واشتراط الإفراج عن موقوف ليبي من التنظيم نفسه في تونس مقابل إطلاق سراحهم، وهو ما تم فعلا على الرغم من أن الموقوف الليبي (وليد القليب) مفتش عنه من قبل الإنتربول (وكالة الشرطة الدولية) بعد اتهامه من قبل خصومه في حكومة طبرق بـ«الضلوع في الإرهاب وفي جريمة معركة طرابلس في صائفة 2014.

* خلافات داخل الحزب الحاكم
* ولم تبرز حملة مساندة قوية لوزير الخارجية التونسي الطيب البكوش ونائب رئيس حزب نداء تونس من داخل حزبه ولا الفريق الحاكم في قصري قرطاج والقصبة. بل برز العكس؛ إذ تواصلت حملة تهميشه من خلال تكليف الوزير المستشار السياسي للرئيس والأمين العام الجديد للحزب محسن مرزوق - وهو من بين خصوم البكوش - بمزيد من المهام الدبلوماسية الرسمية كانت آخرها زيارة موسكو لإبلاغ الرئيس بوتين رسالة من الرئيس الباجي قائد السبسي وعقد لقاء مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.
وجاءت هذه العملية بعد أن وقع تغييب وزير الخارجية الطيب البكوش عن زيارات رئيس الدولة التونسي إلى كل من أميركا وألمانيا وإيطاليا.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد؛ إذ انخرط عدد من رموز «المال السياسي» في تونس وليبيا على الخط، مثل شفيق جراية المقرب من الباجي قائد السبسي وحزبه وصديق زعيم حزب الوطن الليبي ورجل الأعمال عبد الحكيم بالحاج، وأعلنوا معارضتهم قرار الخارجية التونسية «إعلان القطيعة» مع حكومة طرابلس ومع «فجر ليبيا» والأطراف السياسية القريبة منهما.

* «المال السياسي» على الخط
* ولم تنته «المزايدات» بين أنصار القطيعة مع «فجر ليبيا» وخصومها هنا، بل إن مجموعة من رجال الأعمال والسياسيين والإعلاميين المقربين من شفيق جراية وحلفائه في «فجر ليبيا» تنقلوا إلى طرابلس بعد قرار «القطيعة». في المقابل، فإن الطيب البكوش وزير الخارجية عقد مؤتمرا صحافيا اتهم فيه «أطرافا تونسية» - لم يسمها - بعرقلة عملية الإفراج عن الدبلوماسيين المختطفين وبإجراء اتصالات مع قيادات في «فجر ليبيا» ودعوتها إلى عدم تسليم الرهائن قبل تسلم «الزعيم وليد القليب» الموقوف بناء على أمر من القضاء التونسي. وقد اضطرت تونس لتسليمه لحكومة طرابلس فعلا. وفسر وزير الخارجية التونسي الخطوة بأنها جاءت «لأن وليد القليب سيحاكم في ليبيا أيضا بتهم أخرى موجهة إليه».

* محاولة لتسريع النسق
* وفي الوقت الذي تشــــــهد فيه محافظات الجنوب والوسط التونسي منذ مــــــدة اضطرابات اجتماعية في علاقـــــــــــــة بانقطاع موارد الرزق لمئــــــات آلاف التونسيين الذين يعتمدون منذ عقود على المبادلات والشــــــــراكة مع ليبيــــــــــــا، تسعى قيادات الأوساط الليبية المواليـــــــة لحكومة طبرق وللعقيـــــــد الليبي الراحل معمر القذافي وتكتــــــل «القبـــــائل الليبية» وجيش خليفة حفتر، من تونس إلى تســــــــــريع نسق «الحسم» من الجانب التونسي ضد مقاتلي «فجر ليبيــــــــا» الذين يتهمونهم بالإرهاب والتطرف وخدمة أجندة الجماعات المســــــــلحة القريبة من «داعش» و«القاعدة».
في هذا السياق، كثف مبعوثو وسائل الإعلام القريبة من حكومة طبرق من تونس دعايتهم ضد «الإرهابيين من (فجر ليبيا)».
وفي السياق نفسه أيضا، انخرط عدد من الساسة التونسيين في حملة مساندة لقرار وزير الخارجية التونسية «القطيعة» مع حكومة «فجر ليبيا».
ووصفت بدرة قعلول رئيسة مركز الدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية، حكومة طرابلس وتنظيم «فجر ليبي» بالميليشيات «الإرهابية»، واتهمتها بـ«دعم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في تونس وفي كامل المنطقة العربية وفي بلدان الساحل والصحراء الأفريقية بدءا من مالي ونيجيريا وتشاد والنيجر».
تغيير في موازين القوى
ويراهن كثير من خصوم التيارات الإسلامية في تونس وليبيا على أن تؤدي «خطوة سحب كل الدبلوماسيين التونسيين من طرابلس» مع مطالبة العمال التونسيين في ليبيا بالعودة، إلى التعجيل بـ«الحسم عسكريا» من قبل قيادات الجيش الليبي الموالي لخليفة حفتر والميليشيات القريبة منه مع «مجرمي عصابات (فجر ليبيا)» وحلفائها.
كما يعد بعض الخبراء الأمنيين مثل نصر بن سلطانة وبدرة قعلول، أن «محاصرة حكومة طرابلس رهينة موقف تونس باعتبار تونس باتت موطن نحو ثلث الشعب الليبي وهي المتنفس الرئيسي للليبيين». كما يعتبرون أن انتصار «الليبراليين والعلمانيين» في ليبيا ضد الجماعات المسلحة «القريبة من الإخوان المسلمين» سيزيد من إضعاف الإسلاميين التونسيين وقد يتسبب في إخراجهم من الحكم ومن البرلمان في تونس أيضا أو على الأقل في تغيير موازين القوى لصالح خصومهم.

* تطورات ميدانية
* في المقابل، يعد بعض الخبراء - مثل الجامعي زهير بن علي - أن قرار الخارجية التونسية «اتخذ منذ مدة على خلفية التقارير التي تشير إلى تقدم الجيش الليبي الموالي لخليفة حفتر وحلفائه في المناطق الغربية لليبيا بعد أكثر من عام من هيمنة (فجر ليبيا) عليها».
لكن وزير الدفاع التونسي فرحات الحرشاني الذي أدى بعد قرار غلق القنصلية والسفارة زيارات تفقد للحدود التونسية الليبية، أكد على حياد تونس وعلى «جاهزية الجيش التونسي لحماية الأراضي التونسية».
وقد تأكد تعزيز الحدود البرية التونسية - الليبية بقوات من الجيش التونسي في الجنوب وإغلاق بعض المنافذ البرية، وهو ما عدّه البعض مؤشرا على وجود نيات في تونس «لمحاصرة عناصر (فجر ليبيا) بالتزامن مع بدء تغير الواقع السياسي والعسكري في طرابلس والمحافظات الغربية لليبيا».

* حملات ضد البكوش ومرزوق
* وعلى الرغم من الصبغة الدولية للحرب الليبية، فإن «المعارك» تنفجر بين السياسيين التونسيين في أعقاب كل توتر مع أحد الأطراف السياسية والأمنية والاقتصادية الفاعلة في ليبيا.
ولعل من أغرب وأخطر هذه المعارك السياسية استفحال الخلاف داخل الفريق الحاكم في قصري قرطاج والقصبة من جهة، وداخل حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس الباجي قائد السبسي مع نخبة من المقربين منه من بينهم وزير الخارجية الطيب البكوش - نائب رئيس الحزب حاليا - ومحسن مرزوق الأمين العام الجديد للحزب والمدير السابق للحملة الانتخابية لقائد السبسي.
وإذا كان لهذه الأزمة جوانب حزبية داخلية، فإن بعض السياسيين والنشطاء، مثل إسكندر الرقيق الأمين العام السابق لحزب السلام والتنمية، تهجموا بقوة بالمناسبة على البكوش ومحسن مرزوق وعلى رموز الدولة. وانتقد إسكندر الرقيق ظاهرة تهميش وزير الخارجية الطيب البكوش خلال الزيارات الدولية لرئيس الجمهورية مقابل تكليف مرزوق بـ«مهام مكوكية بين واشنطن وموسكو وبرلين».. بما يوحي بأن مرزوق ليس أمينا عاما لحزب سياسي، بل وزير الخارجية الحقيقي لتونس، بينما أصبح الطيب البكوش يعامل كأنه «وزير خارجية موزمبيق».

* صمت «القصور»
* ولئن أخذت هذه الزوبعة السياسية الإعلامية مجددا أبعادا خطيرة في تونس وليبيا، فإنها ليست الأولى، وقد سبق أن أثارت تصريحات حول علاقة تونس بحكومتي طرابلس وطبرق انتقادات بالجملة في تونس وخارجها خاصة لما انخرط فيها رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي دعم موقف وزيره الطيب البكوش في ما يتعلق بـ«التزام الحياد» بين الأطراف الليبية المتصارعة داخل ليبيا وبـ«التعامل مع الأمر الواقع كما هو، إي إحداث قنصليتين؛ واحدة في طرابلس، والثانية في طبرق المقر المؤقت للحكومة المعترف بها دوليا».
وقد تسببت مواقف الرئيس التونسي ووزيره للخارجية وقتها في انتقادات عنيفة وجهها له الناطق الرسمي باسم حكومة طبرق ولوح فيها بالاعتراف بحكومتين في تونس «إحداها في قصر قرطاج، والثانية في جبل الشعانبي» على الحدود الجزائرية حيث تتركب العصابات الإرهابية من حين لآخر هجمات إرهابية على قوات الجيش والأمن التونسيين.
وقد دعم الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وقتها وزيره للخارجية بعد أن قوبلت بعض تصريحات البكوش بــ«تحفظات» بعض السفراء العرب؛ بينهم السفير المصري لدى تونس أيمن مشرفة الذي أعلن في لقاء عقده وزير الخارجية مع الدبلوماسيين بحضور الصحافيين، تحفظاته على «قرار حكومة تونس التعامل مع حكومة طرابلس غير المعترف بها دوليا خلافا للقرار الدولي الذي نص على الاعتراف بشرعية برلمان طبرق (1700 كلم شرقي طرابلس) وحكومته وسحب الاعتراف من سلطات طرابلس».
وتساءل الجامعي عبد اللطيف الحناشي قائلا: «في الوقت الذي قدرت فيه غالبية صناع القرار في العالم (هدوء الانتقال السياسي) في تونس رغم الاضطرابات الأمنية الخطيرة في بقية دول الربيع العربي، فإن التساؤلات كثرت عن (خفايا) استفحال (التناقضات) في المواقف السياسية للرسميين التونسيين بما في ذلك في المجال الدبلوماسي».

* الأزمة ستدوم 20 عاما
* في الأثناء حذر عسكريون وأمنيون تونسيون من مخاطر «الغرق في الوحل الليبي» ومن التورط في مزيد من المعارك الجانبية في تونس بسبب حرب تجري خارج الأراضي التونسية ولا ينبغي أن يجر التونسيون إليها.
وحذر رئيس أركان الجيوش التونسية سابقا محمد سعيد الكاتب من مضاعفات الملف الأمني السياسي الليبي على تونس. وأضاف قائلا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «بصفة عامة ودون الخوض في تفاصيل المسائل التقنية واللوجستية، فإني أعتقد أن هشاشة الوضع الأمني في تونس مرتبطة بعوامل داخلية وأخرى إقليمية ودولية، وهي مرتبطة عضويا بتطوّرات الأزمة الليبية التي قد تستمر إلى ما بين العشرين والثلاثين سنة المقبلة. وبالنظر لطبيعة هذه الأزمة جغرافيا، فإنها ستتسبب في تهديدات خطيرة عسكريا وأمنيا بالنسبة لتونس وإقليميا».

* فشل الثورات العربية
* إلا أن المدير العام السابق للأمن العسكري وللقمارق التونسية أمير اللواء محمد المؤدب، يربط بين الأزمات الأمنية المستفحلة في ليبيا وتونس و«فشل جلّ ما كان يعتقد أنها (ثورات) عربيّة». فقد كانت نتيجة «الثورات» أن اكتسحت الدول المعنيّة موجات عنف ونزاعات داخليّة غذّتها، خاصة، التدخّلات الأجنبيّة المباشرة والإرهاب، ممّا عصف بكلّ أنظمة الحكم فيها، و«أصبحت تلك الدول مهدّدة بصفة مباشرة لا في حدودها الخارجيّة فحسب؛ بل في كيانها وفي وجودها؛ ليبيا، واليمن، وسوريا، والعراق.. و قد لا تكون تلك القائمة نهائيّة».
وحذر المدير العام السابق للأمن العسكري والديوانة محمد المؤدب من اتّساع رقعة انتشار «الفكر التكفيري» في تونس وليبيا وفي المنطقة العربيّة ومنطقة الساحل والصحراء الأفريقية.
واعتبر محمد المؤدب في حواره مع «الشرق الأوسط» أنّ الأمر بالنسبة لتونس لا يقف عند ذلك الحدّ من التهديدات الخارجيّة، «بل تفاقم وسيتفاقم جرّاء تردّي الوضع العام بليبيا المجاورة التي تشهد منذ 2011 أزمة سياسيّة خانقة، وانهيارا كلّيا لمؤسّسات الدولة، ونزاعات داخليّة مسلّحة بين جهات لا تحصى ذات مرجعيّات متنافرة، وتمركز نواة مواليّة لـ(داعش) في سرت ودرنة، وسيطرة ميليشيات ما يسمّى (فجر ليبيا) على العاصمة طرابلس وعلى جلّ المناطق الليبيّة الغربيّة، أي المجاورة لبلادنا، وتدخّلات عسكريّة أجنبيّة مباشرة على الأراضي الليبيّة وفي مجالها البحري، واستعدادات لعمليّات عسكريّة أجنبيّة قادمة تتأكد يوما بعد يوم.. (فجر ليبيا)، الجار الحالي لتونس، هو أحد أهمّ الأطراف المتنازعة بجدّية على السلطة في ليبيا، خلفيّاته وتوجّهاته الفكريّة قد لا تجعل منه الجار الأمين والسّند القوي لتونس ومتعاونا للمصلحة المشتركة للشعبين. من الصعب اعتبار اقتحام المقرّ الرسمي للقنصلية التونسيّة في طرابلس من طرف مسلّحين واختطاف دبلوماسيّين تونسيين لتبادلهم بموقوف ليبي لدى القضاء التونسي، إشارة أو مبادرة تبشّر بعلاقــات تتجاوز احترام الأعراف الدوليّة لترقى لعلاقات بين إخوة وأشقّاء وأصهار».
تستفحل الأزمة في ليبيا وتتعقد مضاعفاتها داخليا وخارجيا، وتبقى تونس التي تحتضن مليوني مواطن ليبي، حسب الرئيس الباجي قائد السبسي، الأكثر عرضة لمزيد من المعارك السياسية الهامشية بسبب حروب ليبيــــــــــــا.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.