«انقلاب فوق انقلاب»... كيف انهار «المجلس العسكري» في بوركينا فاسو؟

وسط إدانات دولية واسعة

«انقلاب فوق انقلاب»... كيف انهار «المجلس العسكري» في بوركينا فاسو؟
TT

«انقلاب فوق انقلاب»... كيف انهار «المجلس العسكري» في بوركينا فاسو؟

«انقلاب فوق انقلاب»... كيف انهار «المجلس العسكري» في بوركينا فاسو؟

لم تكتفِ بوركينا فاسو، الدولة المضطربة الواقعة في غرب أفريقيا، بانقلاب عسكري واحد، مع بداية هذا العام. فبعد أقل من 10 أشهر فقط على توليه السلطة، أطاح ضباط في الجيش، مساء (الجمعة)، برئيس «المجلس العسكري» بول هنري داميبا، متهمين إياه بـ«الفشل في تحجيم أعمال العنف»، لتسجل البلاد رقماً قياسياً من حيث عدد الانقلابات الناجحة.
وجاء الإعلان عن عزل رئيس المجلس العسكري في يوم عصيب، بدأ بإطلاق النار بالقرب من معسكر للجيش في العاصمة واغادوغو، وانفجار بالقرب من قصر الرئاسة، وانقطاع برامج التلفزيون الحكومي، في ظل إدانات دولية واسعة.
وعلى مدار تاريخها، شهدت بوركينا فاسو 9 انقلابات، ومحاولة انقلابية واحدة فاشلة.
وظهر قائد الانقلاب الجديد الكابتن إبراهيم تراوري (34 عاماً)، على شاشة التلفزيون محاطاً بالجنود، معلناً «حل الحكومة، وتعليق الدستور، وإغلاق الحدود، وحظر تجول ليلاً»، في مشهد أعاد للأذهان انتزاع داميبا للسلطة من الرئيس السابق روك كابوري في انقلاب 24 يناير (كانون الثاني) الماضي.
وتراوري هو رئيس وحدة القوات الخاصة لمكافحة المتشددين (كوبرا) في منطقة كايا شمالاً.
وقال تراوري إن «مجموعة من الضباط الذين ساعدوا داميبا في الاستيلاء على السلطة في يناير، قرروا عزل زعيمهم بسبب عجزه عن التصدي لتمرد المتشددين». وهو السبب نفسه الذي عُزل به الرئيس السابق كابوري.
وجاء في البيان الذي وقعه تراوري وتلاه ضابط آخر على شاشة التلفزيون، وسط مجموعة من الجنود بالزي العسكري المموه: «في مواجهة الوضع المتدهور، حاولنا عدة مرات إقناع داميبا بإعادة تركيز المرحلة الانتقالية على المسألة الأمنية».
وقال البيان إن داميبا رفض مقترحات الضباط بإعادة تنظيم الجيش، واستمر بدلاً من ذلك بالهيكل العسكري الذي أدى إلى سقوط النظام السابق. وأضاف البيان: «أقنعتنا تصرفات داميبا تدريجياً بأن طموحاته كانت تبتعد عما شرعنا فيه من البداية. قررنا اليوم الإطاحة بداميبا».
وأوضح البيان أنه ستتم دعوة أصحاب المصلحة الوطنية قريباً لاعتماد ميثاق انتقالي جديد، وتعيين رئيس مدني أو عسكري آخر. وقال تراوري إنه تم تعليق الدستور وإلغاء الميثاق الانتقالي وإغلاق الحدود إلى أجل غير مسمى، وتعليق جميع الأنشطة السياسية وأنشطة المجتمع المدني.
وفي العاصمة واغادوغو، ساد هدوء حذر؛ إذ قام جنود على متن مدرعات وشاحنات بحراسة مركز التلفزيون الوطني؛ لكن استؤنفت حركة السير ببطء على الطرقات الرئيسية.
وتشهد بوركينا فاسو التي تقع في منطقة الساحل الأفريقي، منذ 2015، هجمات واسعة تشنّها جماعات مسلحة تنتمي إلى تنظيمَي «القاعدة» و«داعش»، خلّفت آلاف القتلى وما يقارب مليوني مهجّر.
وقال عبد القادر كاوير، الباحث السياسي المتخصص في الشأن الأفريقي، المقيم في نيروبي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «أعمال العنف في بوركينا فاسو أثارت غضباً ضد قائد المجلس العسكري، باعتبار أن مجيئه ارتبط بوعود ضخمة للقضاء على المسلحين؛ لكن الوضع الأمني في بوركينا فاسو لم يتحسّن».
وتعهد داميبا إبان توليه السلطة جعل الأمن أولويته في البلد الذي تقوضه الهجمات الدامية منذ سنوات.
وبحسب الأرقام الرسمية، فإنّ أكثر من 40 في المائة من مساحة بوركينا فاسو لا تسيطر عليها الدولة.
والأسبوع الماضي قُتل 11 عسكرياً على الأقلّ، بينما بات نحو 50 مدنياً في عداد المفقودين، بعد تعرض قافلة تموين متّجهة إلى مدينة دجيبو لهجوم.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، قتل 86 مدنياً في مذبحة سيتنغا (شمال).
ويبقى مصير داميبا مجهولاً، فلم يوضح بيان تراوري ما إن كان تم اعتقاله أو التحفظ عليه.

انتقادات دولية

قوبل الانقلاب بانتقادات دولية واسعة، واعتبرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) أن استيلاء عسكريين على السلطة في بوركينا فاسو «جاء في وقت غير مناسب»، بعد أن «أحرزت البلاد تقدماً نحو العودة إلى الحكم الدستوري».
ودعا بيان للاتحاد الأفريقي «الجيش للامتناع فوراً، وبشكل كامل، عن أي أعمال عنف أو تهديدات للسكان المدنيين والحريات المدنية وحقوق الإنسان»، مطالباً بإعادة النظام الدستوري بحلول يوليو (تموز) عام 2024.
كما دعت فرنسا -القوة السابقة المستعمرة لبوركينا فاسو- مواطنيها في واغادوغو الذين يقدّر عددهم بما بين 4000 و5000 شخص، إلى أن يلزموا منازلهم، بينما أعرب الاتحاد الأوروبي عن «قلقه» من الأحداث الجارية.
ودعت الولايات المتحدة بدورها إلى «عودة الهدوء وضبط النفس من قبل جميع الأطراف المعنية».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟