مع الإعلان المتوقّع منذ أشهر عن إلغاء المعرض الدولي للكتاب، بات من الواضح أن موت قطاع النشر المؤجل لعقود امتدت من نهاية تسعينات القرن الماضي إلى يومنا هذا، أصبح واقعاً لا مفرّ منه، سيما وأن مسألة بعثه من جديد صارت تحتاج إلى عبقرية استثنائية تشبه المعجزة، أظهرت العقود السابقة استحالة تواجدها في ظلّ ما عمّ القطاع من فوضى وامتناع عمدي لتخليص الكتاب من مشاكله، أدخلته دائرة مفرغة من الوعود السياسية المفلسة، والتي تتقاطع كلها في اعتباره سلعة كمالية يمكن الاستغناء عنها.
لا شك أن التعددية السياسية في الجزائر سمحت لقطاع النشر والكتاب من التحرّر من احتكار الدولة والسماح للخواص بدخول هذا المجال، لكن ذلك فرض أيضاً واقعاً غريباً غير متجانس، اتسم بالفوضى واستمر كذلك، بسبب انعدام سياسة ثقافية واضحة تساير هذا التغيير، في ظل غياب مدونة قانونية تنظم قطاع النشر والكتاب، وإصرار وزارة الثقافة على أن تكون فاعلاً فيه من خلال رعاية الاتكالية باسم الدعم المالي للكتاب، وفرض نفسها كالمنظم الأوحد والحصري لجميع الفعاليات المتعلّقة بالكتاب، وعلى رأسها المعرض الدولي للكتاب، والذي خلال سنوات قليلة فقد بريقه وموقعه بين معارض الكتب الدولية.
كان من المفروض أن تصاحب هذا التحرر من الاحتكار العمومي حزمة من القوانين المنظمة لقطاع النشر والفاعلين فيه، إلا أن قطاع النشر تُرك بعيداً عن أي تنظيم حقيقي يمكنه تحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار ومن الحماية لسلسلة صناعة الكتاب بإعادة النظر في قانون حقوق التأليف وبتنظيمٍ أقل ضبابية للديوان الوطني لحقوق التأليف والحقوق المجاورة، يمهّد لمنح صفة المهنة لعمل الكتابة عبر تضمينها قانون علاقات العمل، وأيضاً من خلال توفير الحماية الاجتماعية والسياسية للكاتب، وما يترتب عن هذه الحماية من حقوق نقابية تسمح له بالدفاع عن حقوقه، سيما المادية منها وعلى رأسها نظام المكافئات عن الجهد الفكري والإبداعي، وانتهاء بالمكتبي الذي بسبب عدم الفهم الصحيح لمهنته، يعامل كأي تاجر آخر، فرغم الطبيعة الخاصة لنشاطه التي تفترض توفير نظام حماية ودعم يسمح له بالبقاء، فإن المؤسسة الرسمية تصر على إخراجه من دائرة صناعة الكتاب؛ ما أدى إلى إعلان عدد كبير من المكتبيين إفلاسهم وتوجههم إلى نشاطات أخرى أكثر ربحية.
تضم الجزائر بمساحتها الشبيهة بالقارة عدداً لا يتجاوز 180 مكتبة على كامل ترابها، وهو عدد يشمل باعة الجملة ونقاط بيع بعض مؤسسات النشر العمومية كالمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية والوكالة الجزائر للنشر والإشهار، بالإضافة إلى المكتبات التي تجمع بين بيع الكتب وبيع المستلزمات المكتبية، والمكتبات التي لا يتعدى عمر نشاطها السنتين، كما أن إعلانات الغلق والإفلاس المستمرّة منذ عام 2019 تؤكّد أن نشاط المكتبات في الجزائر لم يعد آمناً في ظل انعدام تام لمنظومة قانونية مالية تحمي صناعة الكتاب من الانهيار الوشيك، ولعلّ هذا ما حاولت الدكتورة آسيا موساي، صاحبة منشورات الاختلاف الجزائرية، التعبير عنه في تعليقها على خبر غلق أهم مكتبة في مدينة شرشال التاريخية بقولها «بحت أصواتنا ونحن نقول، إن الاستراتيجية التي اعتمدتها وزارة الثقافة مدمّرة وكفيلة بإنهاء كل الأنشطة المرتبطة بالكتاب والقراءة.. لقد ساهمت وزارة الثقافة في خلق متطفلين قاموا بمهنة محددة وهي إطفاء دور النشر الحقيقية، وتم تمييع مهنة النشر التي لم تقم لها قائمة بعدها، أما المكتبات وشبكات التوزيع فقد تركت تختفي الواحدة وراء الأخرى دون أن يسبب هذا أي قلق للمسؤولين عن الثقافة، وكأن هذه المكتبات فائضة عن الحاجة، وما زلنا نشهد نتائج التسيير التدميري المتعمّد لهذا القطاع».
الاستراتيجية التي أشارت إليها صاحبة منشورات الاختلاف، هي تلك التي اعتمدتها وزارة الثقافة منذ أيام الوزيرة السابقة خليدة تومي إلى يومنا هذا، والمتمثلة في تخصيص ميزانيات خيالية لدعم نشر الكتاب، دون الحرص على توفير قوانين ونظم مالية ودفاتر شروط، تسمح بذهاب هذه الأموال لمن يستحقها من فاعلين في أنشطة الكتاب، وبالتالي حمايتهم من النتائج المترتبة عن سوء استعمال تلك الميزانيات على غرار ما حدث، حين سمح هذا البذخ غير المراقب من ظهور ما أسمتهم الدكتورة آسيا موساي بدور النشر المتطفلة على القطاع والتي كانت تظهر فقط للاستفادة من مشاريع نشر لتختفي مباشرة بعد انتهاء برامج الوزارة للنشر، من دون أن تضيف شيئاً إلى الساحة الإبداعية، سيما وأن معظم مشاريعها انصبت على نشر الكتب التراثية وإعادة طبع مؤلفات موجودة في السوق، وتركيز كل اهتمامها على ما تجنيه من أرباح دون أي اعتبار للقيمة الإبداعية لإصداراتها أو لحقوق المؤلفين المتعاقدين معها. كل ذلك مقابل تجاهل صريح للناشرين المستثمرين في القطاع، والمعتمدين أساساً على قدراتهم المالية واللوجيستية وإن كانت محدودة، والذين حاولوا لاحقاً التكتل في تنظيمات نقابية لضمان حقوقهم ورغبة في وضع القطاع على سكته الصحيحة، على عكس الكُتّاب الذين ظلوا على الهامش، معتقدين أن اتحاد الكتاب الجزائريين سيلعب الدور المنوط به في توحيدهم، وفي تطوير مكانيزمات عمله الموروثة منذ العهد الاشتراكي والتحول بشكل تدريجي إلى منظمة نقابية تسهر على حمايتهم وخدمتهم.
أحلام الناشرين الجزائريين سرعان ما تبخرت بسبب تصادم المصالح، وانقسام النقابة إلى نقابتين ورغبة دور النشر المعتمدة على استيراد الكتب من الخارج على بقاء الوضع على ما هو عليه، بالإضافة إلى بعض دور النشر التي وجدت ملاذاً آمناً في صناديق وزارة الثقافة التمويلية، سواء تلك التابعة للتظاهرات الوطنية الكبرى كالجزائر عاصمة الثقافة العربية أو تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية أو الألعاب الأفريقية أو حتى قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، أو تلك الصناديق السنوية الممولة للنشر مثل الصندوق الوطني لدعم الإبداع.
لكن الأمور سرعان ما ازدادت حدة، بعد الفشل الحاصل في خلق شبكة توزيع وطنية للكتاب وتراجع أداء بعض المؤسسات العمومية الكبرى التي كانت تضمن بعض التوزيع، والتي تزامل تراجعها الأدائي في التوزيع وفي النشر مع تكليفها بتنظيم وتأطير المعرض الدولي للكتاب الذي تأثر لاحقاً بدوره، وتراجعت مكانته الدولية بين المعارض العربية الكبرى، بسبب عدم تطوير أدواته في وقت تشهد فيه معارض الكتب الدولية قفزات نوعية جمعت بين التطور الحاصل في مجال صناعة الكتاب، والشق المعرفي والتكنولوجي المرتبط بهذه الصناعة.
انعدام الرؤية الواضحة لنشاط النشر، جعل وزارة الثقافة تلتجئ إلى فكرة خلق مؤسسات أخرى تحمّلها معها عبء نشاط النشر والكتاب، على غرار المركز الوطني للكتاب ومجلس الآداب والفنون، لكنها وهي تفعل ذلك لم تفكر في توفير غطاء قانوني كامل لمثل هذه الهياكل؛ فالمركز الوطني للكتاب بسبب محدودية ميزانيته، وعدم توفره على النصوص القانونية الكفيلة بقيامه بدوره، سرعان ما تحول إلى مؤسسة استشارية لا تضمن إلا رواتب موظفيها، أما مجلس الآداب والفنون فقد أنيطت به مهمة واحدة هي إصدار بطاقات الفنان، التي أعتقد لفترة وجيزة أنها الحل السحري لكل مشاكل الفنانين الاجتماعية، بمن فيهم الكتّاب، ودعم هذا الاعتقاد صدور القرار 14 - 63 المتعلق بالضمان الاجتماعي للفنانين والمؤلفين، الذي منح الحق لأبناء القطاع في الاستفادة من مزايا الضمان الاجتماعي، لكن في حدود ما يتم التصريح به؛ وهو ما جعله قراراً عديم الفائدة خاصة بالنسبة للمؤلفين والكتاب؛ نظراً لمحدودية ما يجنونه من نشاط الكتابة، وبسبب انعدام تام لنظام المكافئات والإتاوات المتعلقة بالنشاط الأدبي المرتبط بوصفه ككاتب، سيما وأن الهيكلة الحالية وصلاحيات الديوان الوطني لحقوق المؤلفين والحقوق المجاورة، لا تمنح أي فائدة مالية للمؤلفين نظير أعمالهم، وتتأكد انعدامية الفائدة من هذا القرار، بعدم انفتاح قانون العمل الجزائري على الكاتب واعتبار الكتابة مهنة تسمح له بتوقيع عقد تدخل في إطار قانون العمل.
يبقى قطاع النشر والكتاب في الجزائر رهين قرار سياسي شجاع، يعيد تنظيم الأنشطة المتعلقة بالكتاب ويرسم، وفق نظرة واضحة، استراتيجية تسمح ببعث قطاع النشر مجدداً، سيما وأنه أصبح في حكم الميّت الذي لم يتم إعلان وفاته بعد.
الكتاب في الجزائر... قصة موت غير معلن
المكتبات وشبكات التوزيع تختفي واحدة بعد أخرى
الكتاب في الجزائر... قصة موت غير معلن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة