كتاب يؤرخ لحكم البعث في العراق: 35 عاماً من الخديعة والقتل والحروب

كتاب يؤرخ لحكم البعث في العراق: 35 عاماً من الخديعة والقتل والحروب
TT

كتاب يؤرخ لحكم البعث في العراق: 35 عاماً من الخديعة والقتل والحروب

كتاب يؤرخ لحكم البعث في العراق: 35 عاماً من الخديعة والقتل والحروب

يوثق الباحث العراقي سيف الدين الدوري لمرحلة مفصلية من تاريخ العراق الحديث، تمتد إلى ثلاثة عقود ونيف، تنطلق بـ«بداية مريبة» وتصل إلى «النهاية المأساة»، كما جاء في عنوان كتابه الصادر «انقلاب 17 تموز 1968 – 2003... البداية المريبة والنهاية المأساة»، الصادر حديثاً عن «دار الحكمة» بلندن.
جاء الكتاب في 470 صفحة، وهو مزود بشهادات وروايات وصور تُوثق لـ«كثير مما حصل من قتل وتشريد لكل فئات الشعب العراقي»، منذ 17 يوليو (تموز) عام 1968، حيث حصل انقلاب قاده إبراهيم عبد الرحمن الداود، الذي كان قائداً للحرس الجمهوري، وعبد الرزاق النايف، نائب رئيس الاستخبارات آنذاك، بالإضافة إلى سعدون غيدان، آمر كتيبة دبابات الحرس الجمهوري، بالتنسيق مع بعض القادة البعثيين، مثل أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش، وحردان التكريتي.
وهذه البدايات التي سماها المؤلف «البدايات المريبة»، هي كذلك فعلاً؛ فبعد 13 يوماً من ذلك اليوم، أي في الثلاثين من يوليو، غدر البكر والتكريتي وعماش بالداود والنايف، «فكان الجزاء من جنس العمل».
ثم توالى مسلسل القتل والغدر -حسب تعبير الناشر- فقُتل ناصر الحاني أول وزير خارجية بعد الانقلاب، واغتيل حردان في الكويت سنة 1971، وأُبعد صالح مهدي عماش، ثم قُتل مئات من الضباط في سنة 1971، بحجة ما سُميت «مؤامرة عبد الغني الراوي».
وفي 1973، تمت أيضاً تصفية العشرات بعد «مؤامرة ناظم كزار»، حسب الإعلان الرسمي آنذاك.
وكان المخطِّط الأساسي لكل هذه العمليات الدموية هو صدام حسين الذي انقلب لاحقاً على حزب «البعث» نفسه، وأعدم أغلب قياداته فيما تسمى «مجزرة قاعة الخلد» سنة 1979، وعلى البكر نفسه، وأصبح الحاكم المطلق في العراق.
لقد غدر صدام بالجميع، ومنح نفسه رتبة «مهيب»، وهو لم يخدم يوماً واحداً في الجيش، ثم بعد حروبه الداخلية قاد العراق إلى حروب خارجية مدمرة، انتهت بغزو الكويت.
ولا يغفل المؤلف عن «البدايات الإيجابية» لانقلاب 1968، فيقول: «في 17 تموز 1968 وصل حزب البعث مرة ثانية إلى السلطة، وأخذ يحكم العراق عن طريق مجلس قيادة الثورة، وكانت خطواته الأولى جيدة جداً؛ إذ أطلق سراح جميع المعتقلين السياسيين وأعاد جميع المفصولين السياسيين إلى دوائرهم، وبذل جهداً كبيراً من أجل حل القضية الكردية، وأسفرت تلك الجهود عن صدور بيان 11 آذار (مارس) الذي منح الأكراد حكماً ذاتياً. وبعد عامين تقريباً صدر القرار التاريخي بتأميم النفط، وذلك في الأول من حزيران (يونيو) 1972. وقبل ذلك بشهرين؛ أي في 9 نيسان (أبريل) وقع العراق مع الاتحاد السوفياتي معاهدة التعاون والصداقة، تمهيداً لإقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية التي ضمت القوى الشيوعية والقومية».
ومن الخطوات الإيجابية أيضاً، كما يضيف المؤلف، صدور بيان لحزب «البعث» في جريدة الحزب المركزية «الثورة»، يحمل جملة أفكار؛ منها مكافحة الاستعمار، والتمسك بالتضامن العربي. وكان ينتظر العراق آنذاك «مستقبل اقتصادي واعد على المدى البعيد؛ لكونه يتملك ثاني أضخم احتياطي نفطي في منطقة الشرق الأوسط، ولامتلاكه الموارد المائية الهائلة الكفيلة بدعم قاعدة زراعية قوية، إلى جانب الطاقة البشرية الكافية لتلبية احتياجاته الزراعية والصناعية».
لكن هذه الخطوات كانت -كما يبدو من الوقائع اللاحقة- من أجل تثبيت أقدام الحزب في السلطة، التي ما إن تمكن من السيطرة عليها حتى «أخذ يطبق مفاهيم العنف المطلق على تكوين الدولة السياسي. ولم تكن تلك السلطة قد عملت بالأساليب العُنفية ضد خصومها السياسيين فحسب، بل إن تعقُّلية العنف المطلق قد انطلقت من عقالها ضد حزب البعث نفسه، فتمت تصفية الجماعة البعثية التأسيسية من الجيل الأول والثاني عن بكرة أبيها تقريباً، باستثناء قلة قليلة للغاية من الرموز. فقد تم إعدام 20 قيادياً عسكرياً ومدنياً بتهمة التآمر مع نظم الحكم في سوريا...».
لقد حكم حزب «البعث» العراق لمدة 35 عاماً، مرتكزاً، كما يختتم المؤلف، «على تأليه القائد وعبادة البطل والفرد الواحد، وليس منطق الجماعات، فالزعيم القائد هو الذي يصنع التاريخ، وأبناء الشعب هم ضحايا تلك المفاهيم الشريرة؛ بل وأتباع القائد وجنود البطل المجيد... ولو أن صدام حكم بالديمقراطية لما وقع ما وقع، ولما اعتُقل وأُدخل قفص الاتهام، وبالتالي نُفِّذ فيه حكم الإعدام».


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.