مع نسمات الصباح الرقيقة يشحذ بعض المصريين طاقتهم بكوب من الشاي مع الحليب، أما الشاي السادة فموعده بعد وجبة الفطور؛ ثم يأتي المساء وتهدأ أشعة الشمس إيذانا بموعد شاي فترة العصر أو «العصاري» أو هكذا يطلق عليها المصريون، ربما لأنها رمز للجلسات الهادئة وتبادل أطراف الحديث الأسري الدافئ.
وفي كل الأحوال، الشاي عند المصريين عادة مرتبطة بالحالة المزاجية، حتى إن أهميته تأتي بعد الماء، يرافقهم دون فوارق هرمية، في كل الأوقات وجميع المناسبات تقريباً، لذا فإن هذه المشروب رسخ مكانته سواء في أكثر المطاعم ترفا، أو على المقاهي الشعبية في شوارع مصر، وإن لم يتسن لك الوصول لأحدهم فثمة «نصبة شاي» ترتكز تحت أشهر البنايات والطرق الرئيسية تلبيةً لحاجة الراغبين في كوب شاي سريع.
المصريون أنفقوا على الشاي قرابة 231 مليون دولار خلال تسعة أشهر فقط العام الماضي. حسب الإفادات الرسمية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. وحين تواتر الحديث عن أزمة تهدد مخزون الشاي، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم «مزاج المصريين في خطر». تصاعد الغضب إلى حد دفع وزارة المالية في مصر للتدخل بحزمة إجراءات استثنائية من شأنها تيسير الإفراج عن الواردات وتخفيف الأعباء.
جوانب عدة عززت شعبية الشاي منذ أن عرفته مصر مع الاحتلال البريطاني، غير أنه ظل مشروبا نخبويا حتى اتسعت دوائر انتشاره.
يبلغنا الدليل البدوي صالح عوض بأن الشاي لدى أهل سيناء هو أصل الضيافة، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا تخلو جلسة أو مناسبة من مشهد الالتفاف حول إبريق الشاي المُجهز على طريقة البدو. لا نميل إلى تحضيره على الموقد، بينما نجتمع حول نيران الحطب، وبمقادير دقيقة ومحسوبة، تضاف أوراق الشاي داخل إبريق معدني».
وعن سر مذاق الشاي لديهم يقول: «نحن لا نميل إلى الشاي الكشري (أي بإضافة الماء المغلي على الشاي)، نحن نعشق الشاي المغلي على نار هادئة، غير أن السر الحقيقي يكمن في إضافة الأعشاب الطازجة، مثل أعواد الروزماري (إكليل الجبل)، أوراق الحبق، زهرات المرمرية وكذلك البردقوش».
لكن أغرب إضافة يتبعها أهل سيناء لتمييز مذاق الشاي هي أوراق الورد والتي يقول عنها عوض: «يخرج من قلب جبل سانت كاترين نوع من الورود الغنية بالزيوت معروفة باسم شعبي ورد الشاي، نضيف أوراقها من الأشجار إلى كوب الشاي الساخن لمذاق لا يمكن احتساؤه سوى في قلب جبال سيناء».
«شاي بالحليب على قهوة في الظاهر هناك.. نسمة (عصاري) السيدة ودير الملاك»، كلمات تغنى بها المطرب المصري محمد فؤاد، وكتبها السيناريست مدحت العدل للتعبير عن مشهد مصري أصيل وجاء الشاي مع نسمات العصر خير دليل. ومن قلب مقهى شعبي في حي الظاهر بالعباسية، يبلغنا الحاج سيد، أو كما يطلقون عليه رواد المقهى التي يعمل بها طوال 20 عاما «عم سيد» أن الشاي هو الطلب الأكثر تكرارا.
ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «الشاي مشروب المصريين لأنه يقدر ظروفهم الاقتصادية، تتحرك الحياة و تتراكم الأعباء ويبقى المشروب الأسود بسعر في المتناول». يتراوح سعر كوب الشاي في المقاهي الشعبية بين 3 إلى 5 جنيهات، أما إذا تناولته في مطعم أو مقهى بمنطقة راقية فلن يتخطى سعره 25 جنيها.
صحيح أن شركات الشاي تقدم كميات هائلة من الشاي المُعبأ في عبوات ورقية يطلق عليها المصريون «فتلة»، لكن تبقى الطريقة التقليدية بإضافة حبات الشاي حسب المذاق المطلوب هي الأرجح عند المصريين الذين يتفننون في ضبط «التلقيمة» لتبحر في الماء المغلي وتمنحك اللون والنكهة.
ويعلق مدون الطعام الذي يقترب عمره من جيل الألفية، حسام الكيلاني، على سر تعلق المصريين بالشاي والارتباط بطرق تحضيره الأصيلة، ويقول: «الشاي يعكس عند المصريين الحالة المزاجية، حتى في اختيار الكلمات التي تعبر عنه مثل (يعدل المزاج)، كذلك، ارتبط الشاي بجلسات السمر فهو راعي التجمعات الأسرية والمناسبات».
لأنه مدون طعام يهتم «الكيلاني» بعلاقة الشاي بالأطباق، ويقول: «ما يميز الشاي كمشروب هو أنه يعادل المذاق، سواء تناولت معه طبق حلو أو حادق»، ويردف «يعتقد المصريون أن الشاي يساعدهم على الهضم، دون دلالات علمية، لكن على الأقل يحد من الشعور بالكسل بعد وجبة دسمة».
الشاي ليس مشروب المصريين فحسب، بينما قالت عنه منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة «الفاو» بمناسبة يومه العالمي في 21 مايو (أيار) 2020، إنه المشروب الأكثر استهلاكاً في العالم بعد الماء. أما في الدول العربية فهو أيضًا مشروب بارز لكن لكل بلد طريقته.
يشير الكيلاني، إلى امتزاج الثقافات العربية الذي انعكس على كوب الشاي المصري، ويقول «قبل سنوات ربما كانت تقتصر كلمة أصناف الشاي على طريقة التحضير، سواء كانت كشري أو المغلي، غير أن السفر ساعد على امتزاج الثقافات العربية وشجع المصريين على إضافة الأعشاب الأخرى مثل القرنفل على طريقة بلاد الشام، وكذلك، إضافة الحليب المكثف (الكرك) على الطريقة الخليجية».
وينهي مدون الطعام المصري حديثه بتشبيه ربما يلخص عشق المصريين للشاي ويقول «كوب الشاي مثل رجل طيب القلب، يرضي الجميع ويلغي الفوارق الطبقية، يحسن المزاج بأقل تكلفة، فهو سيد المزاج بلا منازع».