الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

تسود فيه العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية ويخضع لصراع أطراف متعددة

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر
TT

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

الحقل الديني وديناميكيته من منظور علم الاجتماع المعاصر

تمثل «المسألة الدينية» في المجتمعات المعاصرة أحد أهم فواعل التحديث السياسي المرتبط بتطور المجتمع والدولة. إذ ارتبطت قضية الإصلاح تاريخيا بمكانة الدين ودور النخب الدينية وعلاقة الحقل الديني عامة بالحقل السياسي، وحدود كل منهما وسلطاته؛ ويتجدد بروز الاهتمام بالمسألة الدينية عموما وعلاقتها بواقع المجتمع والدولة بظروف داخلية تارة، وبظروف خارجية كما هو الشأن اليوم مع تنامي تأثير المنظمات الإرهابية على الساحة العربية، تارة أخرى. وسأحاول هنا فتح النقاش حول ماهية الحقل الديني وطبيعته بشكل يحاول تفسير تعقد الظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة المفتوحة، من منظور سوسيولوجي.
يعود الفضل في صناعة مصطلح الحقل الديني، في المجال السوسيولوجي، إلى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. ويعرفه بورديو باعتباره «سوق تنافسية تسود فيها العلاقات التفاعلية والمصالح والفرص المادية والاجتماعية والرمزية، وتخضع لصراع أطراف متعددة عن مصالحها وشرعيتها». ويستند هذا التعريف إلى دراسة الباحث للديانتين المسيحية واليهودية، كما أن هذا التعريف يستدعي النظرة الاقتصادية والصراعية المادية لتحديد ماهية الحقل الديني. وهذا يعتبر عاملا كافيا للتساؤل حول محدودية هذا المصطلح لتفسير تفاعلات الإسلام الداخلية، أي علاقة الإسلام بالمتدينين المسلمين، وكذلك علاقته بالأديان السماوية الأخرى. فبورديو يتحدث عن فاعلين متعددين في الحقل الديني المسيحي واليهودي، وفي مقدمتهم النبي ورجال الدين الممثلون للبيروقراطية الدينية، و«اللائكون» والسحرة. وينتهي إلى القول بوجود صراع حول امتلاك واحتكار «الإنتاج الرمزي»، مما ينتج لا مركزية في هذا الأخير. كما أنه يرى أن فعالية الدين تستمد شرعيتها من البناء الاجتماعي، ومن وظيفة الدين عند جماعة أو طبقة معينة، داخل الجماعات والطبقات المشتغلة في المجال الديني. من جهة أخرى يعتبر بورديو أن دينامية الحقل الديني تنتج عن تلك الصفقات بين «المتخصصين» الدينيين و«اللائكين»، والعلاقات التلاحمية القائمة بين «المتخصصين الدينيين» داخل الحقل الديني.
وهذه السمات الخاصة تمنح للحقل الديني قدرة ذاتية للاستقلال عن السلطة السياسية، ومنازعتها سوسيولوجيا عن النفوذ المادي والمعنوي، وهو ما يحاول عالم الاجتماع الفرنسي تجاهله. غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن ما يقدمه بورديو من تحديد للحقل الديني يحجم من رؤية علم الاجتماع للحقل الديني، خاصة إذا استحضرنا كون مسألة احتكار الإنتاج الرمزي تغيب في بعض المجتمعات الزراعية، وغير المركبة، بسبب ظهور المهن المتخصّصة في العمل الرمزي.
يلاحظ كذلك أن بورديو اقتصر على الأديان التاريخية الغربية المتمثلة في اليهودية والكاثوليكية، في دراسته للحقل الديني، ولم يستعمل المفاهيم الدينية المرتبطة بالدين والحقائق الدينية، مما أضعف من القدرة التفسيرية للسوسيولوجية الدينية عند الباحث. ويمكن القول إن هذا المنهج أوقعه في خطأ تعميم منطق التجزئة التي يقوم بها الدين للمجتمعات، وهو شيء لم يقع مع «الأنبياء في أوروبا والشرق الأوسط». بل على العكس من ذلك تماما صنع الإسلام من العرب أمة جامعة، ونقلها من الطور القبلي الاقتتالي، للطور المجتمعي التضامني، الدولتي.
ثم، إن تمكن الدين من الناحية الاجتماعية من فرض نفسه لا يعني تمتعه بالاستقلال التام عن السلطة السياسية الزمنية. فالاستقلال النسبي للمجال الديني يجد تفسيره في البنية الاجتماعية وطرق اشتغالها وتوظيفها للقيم الدينية ومرجعتها. والحقل الديني لا يختلف عن باقي الحقول، باعتباره يتأسس على قاعدة اجتماعية تمنحه قوة مهيكلة ومكانة وحيزا يخلق لكل لحقل «استقلاليته» وتميزه عن غيره، دون أن يعني ذلك غياب التمايز والتراتبية بين الحقول؛ خاصة مع نظام الدولة الحديثة، الذي يعتمد على الإكراه الناعم، ويسخر القانون لتنظيم السيطرة على المجتمع باسم الإرادة العامة.
وإذا رجعنا لأطروحة بورديو فإننا نستنتج أن «سير» المنافسة الداخلية القائمة داخل الحقل الديني وبين هيئاته؛ أي الكنيسة والأنبياء، راجع بالأساس إلى قوة البنية الاجتماعية الدينية. كما أن النظر للمؤسسات الدينية المحتكرة للحقل الديني، في المجتمعات المتباينة دينيا، يطرح قضية فقدان الكنيسة الكاثوليكية للقوة السياسية والاقتصادية، مما أثر على الممارسات الدينية نفسها ومكانتها داخل نسق الدولة والمجتمع. فهل هذا الضعف أدى إلى اختفاء الممارسة الدينية في المجتمعات الحديثة؟
إن النظرة السوسيولوجية الصحيحة تدعونا إلى القول بضرورة التركيز على الدين خارج المؤسسة المحتكرة له، وكذلك دراسة معتقدات «المرتبطين بالحداثة»، خاصة أنه يمكن ممارسة الدين واستيعاب حقائقه خارج أي مؤسسة بيروقراطية كالكنيسة. فإذا كانت السوسيولوجية التقليدية تزعم أن الدين تتحكم فيه الأطر البيروقراطية المنظمة له ولنشاطه المجتمعي؛ فإن هذا لم يعد يتماشى وتطور مفهوم الدين زمن الحداثة، ويساير تكاثر الممثلين الدينيين، والتعددية الدينية في عالم اكتسحته العلمنة، ويعرف اليوم صحوة دينية عالمية متنوعة.
هذا التحول الجوهري دفع بعالم اجتماع كبير مثل خوسيه كازانوفا للتأكيد على دور الأديان في المجتمعات المعاصرة، إذ يقول في كتابه القيم «الأديان العامة في العالم الحديث» (2005 ص319): «كان لا بد من إعادة التفكير بشكل منهجي في العلاقة بين الدين والحداثة، وفي الأدوار المحتملة التي يمكن للأديان أن تضطلع بها في النطاق العام للمجتمعات الحديثة».
لقد أصبحت للأديان في بعض المجتمعات المعاصرة مكانة الفاعل الأساسي، رغم موجة العولمة السائدة، والتأميم المصاحب لها، وارتفاع المشاركة العلمانية، في الدولة المعاصرة، وسحب الاعتراف الإرادي. كل هذا دفع بأستاذ علم الاجتماع بجامعة شيكاغو (خوسيه كازانوفا، ص 319)، لتأكيد أن هذا الوضع الجديد أدى إلى «تبدّل في التوجيه من الدولة إلى المجتمع، وسمح للكنيسة بالاضطلاع بدور أساسي في سيرورات التحول الديمقراطي. وكفّت الكنائس الوطنية عن النظر إلى ذواتها كعبادات جماعية تكاملية ضمن الدولة الوطنية وتبنّت هُويّة عالمية متعدية الجنسية، الأمر الذي سمح لها بأن تواجه كلا من الدولة الوطنية والنظام الاجتماعي المعطى تنبُّؤيًا».
وفي إطار هذه التحولات، ينبهنا أنتوني غيدينز، أحد أبرز علماء الاجتماع المعاصر، إلى أن «الأصولية ليست نزعة خاصة بالمجتمعات التقليدية، بل هي ظاهرة شائعة في المجتمعات والدولة الغربية المعاصرة بدرجات وتأثيرات متباينة». ولذلك أصبحت المنظمات الدينية الأصولية المسيحية واحدا من أكثر التيارات التي استأثرت باهتمام الباحثين في علم الاجتماع المعاصر؛ ولا يأتي ذلك فقط لكونها تنتظم ضمن «اليمين المسيحي الجديد»، ولكن لكونها كذلك غيرت من تموقعها وطريقة بناء النفوذ من الحقل الديني لتتموقع بشكل جد مؤثر في الحقل السياسي، ومراكز صناعة السياسات العمومية، مستفيدة من وسائل الاتصال المعاصرة، بحيث خلقت جسورا «تسويقية» للممارسة الدينية، وطقوسها، متجاوزة بذلك الانحسار والمشاركة الفعلية المكانية للتعبد عند المؤمنين.
غير أن مثل هذا التطور يخفي من الناحية السوسيولوجية ظاهرة دينية معقدة، يمكن أن نطلق عليها «الاغتراب في الدين». ذلك أن قيادة الحقل الديني في تعاطيها مع المنافسين - أي غير الدينين - تحاصر المتدين وتحدد سلوكياته وأنماط المعرفة الدينية، مما يحول النخبة الدينية إلى المفسر الوحيد للمبادئ الدينية، مع نزوع واضح لتفسير الواقع الاجتماعي لتجاوز تحدياته. ومن هنا يجب فهم صراعات الحقل الديني مع منافسيه، لا باعتبارها دينامية «سوقية فقط»، خاضعة للمعطى الاقتصادي، وإنما هي حركية وفعالة متوالية داخل سياقها الاجتماعي، يظهر فيها الدين والمتدين مدافعا عن موقعه داخل البنية العامة للنظام الاقتصادي، والسياسي، والتكيف مع تعقيدات وتداخلات هذه الأنظمة وما يسود فيها من تفاعلات بينة واتصالات عضوية، تنتج المساومات والمتوافقات بعيدا عن مثالية النص الديني المجرد.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟