مخاوف من تحوّل الميليشيات المحلية إلى صداع جديد للحكومة الأفغانية

كابل تسلح آلافًا من المقاتلين وقدامى «المجاهدين» لمواجهة خطر طالبان وتمدّدها نحو الشمال

عناصر من الميليشيات المحلية التابعة للحكومة الأفغانية في قندز (أ.ب)
عناصر من الميليشيات المحلية التابعة للحكومة الأفغانية في قندز (أ.ب)
TT

مخاوف من تحوّل الميليشيات المحلية إلى صداع جديد للحكومة الأفغانية

عناصر من الميليشيات المحلية التابعة للحكومة الأفغانية في قندز (أ.ب)
عناصر من الميليشيات المحلية التابعة للحكومة الأفغانية في قندز (أ.ب)

لجأت الحكومة الجديدة في أفغانستان إلى خيار تسليح الميليشيات المحلية، وخاصة في ولايات تقع في الشمال الأفغاني، وجاءت هذه الخطوة في أعقاب شنّ حركة طالبان أكبر وأعنف هجوم لها في الموسم الحالي للمعارك. وكذلك بعدما تنفيذ آلاف من مقاتلي طالبان ومسلحين يدّعون الانتماء لتنظيم «داعش في أفغانستان وباكستان» هجمات جماعية ضد مقرّات للشرطة الأفغانية والإدارات المحلية في كل من ولايتي كندوز وبدخشان الواقعتين في أقصى شمال البلاد قرب الحدود مع دول آسيا الوسطى (السوفياتية سابقًا) مطلع الشهر الماضي.
يذكر أن الولايتين المذكورتين كانتا على وشك السقوط بيد طالبان إثر مواجهات دامية مع الجيش النظامي والشرطة الحكومية لولا التدخل السريع من قبل «أمراء الحرب» السابقين وقادة «المجاهدين» السابقين، الذين سبق لهم أن قاتلوا طالبان، وكانوا سدًا منيعًا أمام بسطها سيطرتها الكاملة على شمال أفغانستان في نهاية تسعينات القرن الماضي. أكثر من 30 ألف مسلح ينتمون لـ«أمراء الحرب» تسلّحوا من جديد للدفاع عن مناطقهم عقب توسيع المعارك وتمدّدها إلى شمال أفغانستان بعد انسحاب القوات الدولية من معظم المناطق الأفغانية نهاية العام الماضي.
يقول حاجي ايماق، وهو مسؤول محلي وزعيم قبلي في ولاية كندوز، إن طالبان «اقتربت إلى تخوم الولاية إثر هجوم عنيف لمقاتليها على المنطقة وفرار مئات من عناصر الجيش الأفغاني من ساحة القتال. ومن ثم، لم يكن أمام (حكومة الوحدة الوطنية) من خيار غير طلب الدعم من (أمراء الحرب) الذين لديهم خبرة واسعة في الحرب ضد طالبان. وبالفعل، جرى توزيع آلاف قطع الأسلحة المتنوّعة على نحو 30 ألف عنصر محلّي للوقوف إلى جانب الجيش الأفغاني في حربه ضد طالبان وداعش». وتابع: «التجربة أثبتت أن هؤلاء المسلحين المحليين يتمتعون بخبرة كبيرة في قتال الشوارع والأزقة، وبتجارب في حرب العصابات تعلمّوها إبان الحرب ضد القوات السوفياتية السابقة، وكانت النتيجة إخفاق هجوم طالبان على كندوز وصدّ حملتهم العسكرية التي وصفت بالأعنف منذ رحيل نظام طالبان. وعندها، اضطر مقاتلو طالبان و(داعش) للانسحاب من كل المناطق التي أخضعها التنظيمان لسيطرتهما في كندوز، التي تعد من الولايات الاستراتيجية الموقع».
وفي ولاية بدَخشان المجاورة، بعدما شنّت طالبان حملتها الربيعية في مديرية وردوج وقتلت وذبحت العشرات من عناصر الجيش الأفغاني طالب أعضاء في البرلمان من الولاية الحكومة بتسليح ميليشيات محلية، وتوفير كل التسهيلات لها لمقاتلة طالبان كخيارٍ مؤقت.
فكرة تسليح الميليشيات - أو الشرطة المحلية أو ما يطلق عليها أفغانيا «أربكي» - جاءت أيام حكم الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي عام 2010 عندما صعّدت طالبان من عملياتها في جنوب البلاد وشرقها، بحيث اضطرت الحكومة آنذاك إلى خيار توزيع السلاح على الميليشيات للدفاع عن مناطقهم. لكن تورّط تلك الميليشيات في أعمال النهب والسرقة والخطف التي طالت رجال الأعمال والمسؤولين وارتكابهم جرائم حرب، وفقا للتقارير وتنفيذ إعدامات ميدانية خارج إطار القانون أجبرت الحكومة على مراجعة قرارها الرامي إلى تسليح الميليشيات، بحيث نزعت أسلحة آلاف المقاتلين عام 2012. غير أن عشرات الآلاف ظلوا يمارسون مهامهم ضمن الشرطة المحلية في بعض المناطق.
منظمة «مجموعة الأزمات الدولية» أعربت في تقرير جديد لها بخصوص الحرب في أفغانستان وقضية تسليح الميليشيات عن قلقها الشديد تجاه مسألة توزيع الأسلحة على هذه الميليشيات قائلة بأن ميليشيات الشرطة الأفغانية التي تعتمد عليها الحكومة في عمليات الأمن في بعض مناطق الدولة فاقمت العنف وزادته سوءًا في بعض المناطق.
وتضم «الشرطة المحلية الأفغانية»، الأقل تكلفة والخطيرة في الوقت نفسه، حاليا 30 ألف مقاتل تقريبًا، وهي ميليشيا تتكوّن من مقاتلين محليين في المقاطعات التي لا تخضع لسيطرة الحكومة بشكل كبير. وحسب «مجموعة الأزمات الدولية» في تقرير فإن «برنامج الشرطة المحلية الأفغانية لم يحسن الأمن في الكثير من المناطق، بل فاقم الصراع في عدد من المقاطعات». وفي بعض المناطق، اتهمت «مجموعة الأزمات الدولية» الميليشيات بارتكاب انتهاكات خطيرة، منها الاغتصاب والخطف والابتزاز والإعدام خارج نطاق القضاء والاتجار بالمخدّرات. كذلك جاء في التقرير أن الأمر «الأكثر شيوعًا أن تسمع شكاوى بأن الشرطة المحلية الأفغانية تلحق الأذى بأفراد الشعب الذين يفترض أن تحرسهم»، مضيفا أن مثل هذه الحالات يمكن أن «تثير الصراع العرقي والطائفي بدلاً من أن تخمده»، وكانت الحكومة اليابانية أنفقت مئات ملايين الدولارات خلال السنوات العشر الماضية لنزع وجمع السلاح من الأيادي غير مسؤولة ضمن برنامج أممي أطلق عليه اسم «دي دي آر»، لكن تشديد هجمات طالبان في السنة الجارية ومحاولتها السيطرة على بعض المناطق لم يترك - على ما يبدو - للحكومة الأفغانية أي خيار سوى تسليح المقاتلين المحليين لحراسة مناطقهم والتصدّي لخطر طالبان المتزايد. ويقول محمد حنيف، وهو خبير في الشأن الأفغاني، بأن حكومة الرئيس أشرف غني ترتكب أخطاء كبيرة جراء تسليح الميليشيات المحلية وتوزيع السلاح على أشخاص غير مسؤولين. وأضاف أن ذلك «قد يكون حلاً مؤقتًا لكن على المدى الطويل، سيعد ذلك خطرًا أكبر من خطر طالبان، لأن الميليشيات المسلحة ستلجأ لاحقًا إلى ابتزاز الحكومات المحلية، وعرقلة مشاريع التنمية في مناطق نفوذها، كما أنها سترتكب انتهاكات جسيمة في مجال حقوق المرأة وحقوق الإنسان». وأردف «إن التجارب السابقة أثبتت أن هذه الميليشيات تخرج عن سيطرة الحكومة، بسبب ضعف إمكاناتها ومواردها، وتصبح قوة خارجة عن القانون وهذا ليس في مصلحة المؤسسات الشرعية للبلاد».
التقارير المستقلة تشير حاليًا إلى أن الحكومة الأفغانية وزّعت بالفعل الأسلحة الخفيفة والثقيلة، ومرة أخرى، على عشرات الآلاف من المقاتلين المحليين كانوا أعضاء في أحزاب «المجاهدين» السابقين في المناطق الريفية والقرى النائية في البلاد، بهدف مواجهة زحف طالبان إلى مراكز المدن الرئيسية التي تسيطر عليها طالبان، ولا سيما، في مناطق الشرق الأفغاني وجنوبه، وحاليًا في مناطق شمال أفغانستان. وفق التقارير تعاني مناطق الشمال في الوقت الراهن من تداعيات نقل المعركة إليها من الجنوب وسط محاولات طالبان الضغط على الحكومة من خلال توسيع المعارك ضدها وتشتيت قواها الأمنية. وللعلم، يبلغ عدد القوات الأمنية الأفغانية الرسمية من الجيش والشرطة وجهاز الاستخبارات نحو 350 ألف عسكري، جرى تدريبهم على أيدي المدربين الأميركيين والأوروبيين خلال السنوات العشر الماضية ليكونوا بديلاً للقوات الدولية التي انسحبت قواتها المقاتلة من أفغانستان مع نهاية عام 2014.
وفيما يتعلّق بولاية خوست، في شرق أفغانستان قرب الحدود مع باكستان، التي تعتبر حديقة خلفية لمقاتلي شبكة حقاني المقربة من تنظيم القاعدة، فإن تجربة تسليح ميليشيات محلية لم تكن ناجعة بل أثرت سلبًا على سلطة القانون وأداء الحكومات المحلية. إذ أقدم عدد من مسلّحي هذه الميليشيات على خرق القانون وارتكاب أعمال إجرامية بحق المواطنين، ما وسّع الهوة الموجودة أصلاً بين المواطن والحكومة. وهكذا، استفادت حركة طالبان الساعية إلى توسيع نفوذها عبر كسب عقول المواطنين وقلوبهم. ويقول الخبراء الأمنيون إن الميليشيات المسلحة غير المسؤولة التي أنشئت لمواجهة طالبان «أساءت إلى الحكومة وجعلت من طالبان البديل الأفضل في كثير من المناطق التي تشهد التوترات الأمنية ومعارك باستمرار».
ويضيف الخبراء أن الإدارة الأفغانية «ترتكب أكبر غلطة لها من وراء تسليح هذه الميليشيات لأن الأمر سيسبب صداعا وأزمة جديدة للحكومة لن تتمكن من التخلص منه، وأن تسليحها يزيد الطين بلة، خاصة أن أفغانستان تشهد انتشارًا واسعًا للسلاح، وأن المجموعات المسلحة ستستغل الوضع لصالح أعمال تخريبية بحجة محاربة طالبان في مناطقها». ثم إن هناك عاملاً إقليميًا آخر قد يدخل على الخط - وفقًا للمراقبين - بعد تزايد الأنباء عن انتشار مقاتلي «داعش» في مناطق بالشمال الأفغاني قرب حدود دول آسيا الوسطى، ومن المحتمل أن تبادر دول آسيا الوسطى، بما في ذلك روسيا الاتحادية ذاتها، إلى توزيع السلاح على مواطني شمال أفغانستان لكي يحاربوا «داعش» إذا فكر قادة التنظيم المتطرف بشنّ هجمات على مصالح روسية في دول آسيا الوسطى، وقد ينعكس ذلك سلبًا على أمن أفغانستان نفسها التي تنوي نزع سلاح الميليشيات، أو درجها في الإطار الشرعي، ضمن المؤسسات الأمنية الرسمية على حد تعبير الخبراء الأفغان.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.