ضمن الموسم العالمي للاحتفاء بمنجز الكاتب الآيرلندي صموئيل بيكيت، قدمت أخيرًا فرقة سيدني الأسترالية على مسرح الباربيكان في لندن، مسرحية «في انتظار غودو» برؤية إخراجية جديدة للمخرج أندرو أبتن (مواليد 1966) وتمثيل هيوغو ويفنغ (فلاديمير) الذي سبق أن اشتهر بشخصية آرنولد في فيلم «سيد الخواتم»، وريتشارد روكسبير (استراغون)، وفيليب كاست في دور (السيد بوزو)، ولوك مولنز في شخصية التابع (لاكي).
كتب بيكيت المسرحية عام 1947 وكان أول تجسيد لها قبل ستين عامًا، وأخرجها آنذاك المخرج بيتر هول على مسرح الفنون الملكي في كوفنت كاردن عام 1955. وقال عنها الناقد كينيث تاينن إنها «تعني أن يبقى الجمهور ساعتين في الظلام دون أن يمل أو يسأم». ومنذ ذلك الوقت ألهم بيكيت فنانين ونقادًا كثيرين من كل أنحاء العالم، ولم تتوقف الأسئلة والترجمات الفلسفية والنفسية والنظرية حول معنى غودو، مما نجم عنه نفور الكاتب نفسه من المحاولات الكثيرة لفهم قصده من المسرحية، منتقدًا الناس التي تحوّل الأشياء البسيطة إلى معقدة، وباح في عام 1977 بأن نصه هو محض لعبة، كما كل شيء في الحياة.
وكما هو معروف، ينتمي النص إلى ما يسمى «مسرح العبث» الذي يصوّر، حسبما اتفق معظم النقاد، سريالية الحياة ولا معقوليتها ويجسد اللا تناغم واللا انسجام في إيقاعها، رافضًا التناسق على صعيد البنية ومضامينها، كتعبير عن حالة الغضب والاحتجاج والإحباط من المصير البشري والشعور بعبثية الفعل الإنساني أمام مصيره المحتوم بمأساته الأزلية الأبدية المحتومة.. والمسرحية تدور حول شخصيتين مهمشتين تنتظران شخصًا يدعى غودو في فصلين من اللغو والأداء الحركي والحوار المقطوع، وبالتالي لا يأتي غودو أبدًا ليغيّر حياتهما نحو الأفضل.
يستنهض هذا الإنتاج الأسترالي أسئلة حول أهمية الرؤية الإخراجية للعمل وتأثيره على الأداء وتطويع النص، إذ جعل المخرج (إبتن) بطلي عمله يماثلان شخصيتي «لورين وهاردي» في حكمة أحدهما وبلاهة الآخر ضمن مجريات واقع مرير وحكاية مأساوية تعرض بصورة هزلية، مما أثار جدلاً بين النقاد باعتبار أن الهزل أدى غرضه ولم يحول دون إظهار عبث الوجود والرغبة في اكتشاف معنى للحياة الغائرة في التراجيديا والكوميديا، في حين اعتبر نقاد آخرون بأن المخرج قد ضخّم الجانب الهزلي والحركة الجسمانية إلى حد الصخب، وأهمل الجانب التراجيدي المتضمن في أجواء المسرحية، على عكس الأداء الأميركي للمسرحية الذي ذهب إلى جانب التراجيديا المملة، في حين أن روح النص تعتمد على اللقطة السريعة التي تمسك بحالة التزامن بين مشاعر اليأس والأمل.
ومن الفنيين الذين حازوا على الإعجاب في المسرحية مصمم الديكور والإنارة زسولت خيل، حينما استبدل أرضية المرج الذابل بأنقاض موحشة كئيبة على المسرح، وببريق سلّطه على جدران متهاوية أحادية اللون في منظر يوحي بمدينة صناعية منكوبة، وكذلك بأرومات شجرة طويلة جرداء لا نرى نهايتها، وتحتل مكانًا بارزًا في وسط المسرح.
وبحق كانت المسرحية وفق هذا الإطار الإخراجي وتناسق أداء الممثلين وبراعة تصميم الديكور والإنارة، تحفة فنية تحكي عن كل شيء وعن لا شيء، داعمة قول ألبير كامو بأن مصير الإنسانية يمثّل «انعدام هدف في وجود غير منسجم مع محيطه أو لا معقولية بنائه».
«في انتظار غودو».. رؤية إخراجية جديدة تغلب الجانب الهزلي
فرقة سيدني الأسترالية تحتفي بالكاتب المسرحي بيكيت في العاصمة البريطانية
«في انتظار غودو».. رؤية إخراجية جديدة تغلب الجانب الهزلي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة