لغات كثيرة أفضل من لغة واحدة

ليست مجرد أدوات تواصل بل تساهم في إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي
TT

لغات كثيرة أفضل من لغة واحدة

نعوم تشومسكي
نعوم تشومسكي

ظلّ العالمُ الذي نعيشُ فيه، وأحسبه سيظلُّ ميدان تعدّدية لغوية، هي أقربُ إلى «برج بابل» تصطرعُ فيه الألسن (بمعنى اللغات) أحياناً، وقد تتفاعل تفاعلاً حيوياً في أحايين أخرى؛ لكن ليس من بين تلك اللغات من يودُّ الناطقون بها رؤية الساحة العالمية ميداناً لسيادة لغة واحدة بعينها إلا إذا كانت هي اللغة المخصوصة بالهيمنة العالمية.


لودفيغ زامينهوف

لا كينونة بشرية من غير لغة. «أنا أتكلّم إذن أنا موجود» هكذا يمكن تحوير المقايسة الديكارتية لتصف الكائن البشري وصفاً دقيقاً من حيثُ كونه كائناً لغوياً. يجري الحديث في أحيان كثيرة عن لغة عالمية، وفي الغالب تكون اللغة الإنجليزية هي الفائزة في سباق اللغات لأسباب كثيرة. ما نشهدهُ اليوم هو قفز اللغة الإنجليزية من مرتبة اللغة المرشّحة لتكون لغة عالمية إلى لغة عالمية بالفعل في ميادين العلم والتقنية والاقتصاد؛ لكن علينا ألا نتغافل عن حقيقة أنّ عالمية اللغة، أي لغة، لا تعني وحدانيتها في العالم. العربية والألمانية والفرنسية والصينية هي لغات عالمية أيضاً من حيث عدد الناطقين بها، وربما المعيار الإجرائي للاحتكام إليه في كون لغة ما عالمية هو اعتماد تلك اللغة بصورة رسمية في نقاشات الأمم المتحدة.

غلاف كتاب {جسر الكلمات}

نشهدُ اليوم شيوع نحو 6000 لغة في العالم، وهي في تناقص مضطرد. هل ثمّة داروينية لغوية تقضي بموت اللغات التي يخفت تأثيرها ويقلّ عدد الناطقين بها، في حين يتعاظم تأثير لغات أخرى؟ والسؤال الأهم؛ هل ستفضي هذه الداروينية اللغوية إلى سيادة لغة عالمية واحدة في المستقبل؟ وربما الأهم من كل هذا؛ هل سيحصلُ هذا الأمر على نحو طبيعي حتى لو اتخذ مساراً زمنياً طويلاً، أم في المستطاع حثّه بفعاليات مقصودة تسعى لها جهة مؤسساتية ما، بغرض فرض سيادة لغوية عالمية؟
قد يجد المنافحون عن رؤية «اللغة العالمية الواحدة» تسويغاً لرؤيتهم في كتابات تشومسكي الذي يرى أنّ هناك قواعد عالمية وخصائص تشترك بها جميع اللغات، وأنّ هذه القواعد والخصائص موجودة في دماغنا مسبقاً؛ الأمر الذي يفسّرُ سرعة تعلّم الطفل للغة.
واحدةٌ من تلك التجارب الفكرية التي لطالما داعبت خيالي، وأظنّ خيال كثيرين سواي، هي التالية؛ كيف سيكون شكل العالم لو تحدّث ساكنوه لغة واحدة (أو موحّدة) في شتى أصقاعه؟ اللغة الموحّدة هنا كناية عن محاولات حثيثة بذلها بحّاثة رائدون لتخليق لغة اصطناعية (أي ليست طبيعية) عالمية مثل لغة «الأسبرانتو» التي لم يكتب لها النجاح. اللغة منتجٌ طبيعي يتمّ تمريره للوافد الجديد إلى العالم بفعل مشترك من الوراثة والتدريب؛ لكن هل اللغة شيء يُكتشفُ أم يخترعُ (حالها في هذا كالرياضيات مثلاً)؟ هذا ميدان مباحث كبرى مشتبكة، وليست ميدان موضوعنا هذا.
تخبرُنا الوقائع التاريخية أنّ الفيلسوف الفرنسي ديكارت هو أولُ من نادى بتبنّي فكرة لغة عالمية؛ لكنه لم يسعَ لوضع فكرته موضع أي تنفيذ حقيقي. أعقب ديكارت لاهوتي ألماني كاثوليكي يدعى شلاير، نادى بفكرة تعميم لغة عالمية عام 1879. ونجح بالفعل في تخليق لغة عالمية طبيعية بعد بحث ودراسة في اللغات السائدة. تخبرُنا الوقائع التاريخية أيضاً أنّ طبيب العيون البولندي لودفيغ زامينهوف سعى لتخليق لغة مُحايدة، لا للقضاءِ على الحروبِ والاختلافاتِ بين البشر، إذ شهدنا حروباً بين أناسٍ تجمعهم اللغة ذاتها؛ بل إن المسعى النبيل الذي أراده زامينهوف هو أن تُصبحَ المعرفة العلمية معولمة؛ فلا يتحتّم عليكَ تعلم الصينية لتستطيع التوصّل إلى آخر ما بلغته علوم الصينيين. أراد زامينهوف باختصار ألا يُصبحَ العلم سلعةً، وألا تحتكرَه دولةٌ بعينِها. تحوّلت يوتوبيا اللغة العالمية الواحدة التي استوطنت عقل زامينهوف إلى حقيقة مجسّدة على الأرض؛ فبعد أبحاثٍ دامت أكثر من 10 سنين، استطاعَ زامينهوف خلالها أن يُتقِـنَ 12 لغة، تمكّن من ابتداع لغة جديدة، أسماها إسبيرانتو (ومعناها الرجل الذي يحلم). لم تزل لغة الإسبيرانتو هي أفضل لغة عالمية ابتدعها البشر. يمكنُ للقارئ الشغوف مراجعة كتاب المؤلفة إستر شور Esther Schor، المنشور عام 2016، بعنوان «برج الكلمات: الإسبيرانتو وحلمُ لغة عالمية Bridge of Words: Esperanto and the Dream of a Universal Language».
لنفترض، في تجربة فكرية منعشة للعقل، أنّ لغة ما (طبيعية أو اصطناعية مثل الإسبيرانتو) جرى تخليقها ورفعها لمرتبة اللغة العالمية الموحّدة، فهل سيكون النجاح حليف هذا المسعى؟ أظنّ أنّ الكسالى الذين لطالما أعسرتهم اللغة سيتراقصون طرباً بعد أن يطرحوا عنهم عبء التعلّم ومشاقه. دعونا من هؤلاء الكسالى. حتى المجتهدون أنقياء السريرة سيظنّون في اللغة العالمية الموحّدة وسيلة لتعزيز التفاهم العالمي وكبح جموح الصراعات العنفية الناجمة عن سوء فهم الآخر، وسيقتربُ العالم من صورة يوتوبية تبعث على الأمل والثقة.
لا يبدو النجاح احتمالاً متوقعاً، لأسباب كثيرة، منها:
- اللغة والهوية: لا يمكن للبلدان أن تتغافل ببساطة عن حقيقة أنّ لغاتها واجهات مميزة لكبريائها الوطني وجغرافيتها السياسية الدالة على تأثيرها المتفرّد في العالم. يطمح الناس في كلّ العالم إلى امتلاك هويات متفرّدة وإنشاء مجموعات بشرية بخصائص مختلفة عن الجماعات البشرية الأخرى. الجماعات البشرية في هذا السعي لا تختلف عن الأفراد؛ فكلّ منّا يسعى لخلق كينونته الذاتية وفردانيته الشخصية ولا يتمنى أن يكون نسخة من سواه.
- اللغة عنصر حيوي في منظومة السياسات الناعمة: لو أردنا مثالاً شاخصاً لمعرفة مدى ارتباط اللغة بالهوية الوطنية (أو القومية، لا فرق) يمكن التدقيق في حجم الاهتمام الفائق الذي توليه كلّ دولة لتعلّم لغتها خارج حدودها في إطار معاهدها الثقافية (المعاهد الثقافية البريطانية، معاهد غوته الألمانية، المعاهد الثقافية الفرنسية... إلخ). لا دولة ستقبلُ بالتضحية بإرثها اللغوي لصالح لغة عالمية موحّدة. تلك أخدوعة ساذجة. اللغة بهذا المعنى ليست خصيصة قومية فحسب، وإنما هي معبر إلى الاقتصاد والمال والنفوذ الاستراتيجي والسطوة السياسية.
- ضرورة محاربة الكسل البشري الطبيعي: نميلُ، باعتبارنا كائنات بشرية، إلى قانون فيزيائي حاكم، يسمّى قانون الفعل الأقلّ The Law of Least Action، وجوهره أداء الفعل بأقلّ جهد متاح؛ لكنْ من جانب آخر يجبُ أن نعرف حقيقة أخرى؛ أن الخبرات الحقيقية والمنافع العملية الطيبة التي تقود للتطوّر البشري لا تنقاد لهذا القانون. لن يتطوّر الدماغ البشري والخبرات العملية في أناسٍ اعتادوا التعامل اليومي السهل وأدواته المتاحة من غير جهد مبذول بطريقة قصدية وهادفة. لا يستطيع المرء تنمية عضلاته وهو مستلقٍ طول اليوم خدِراً متبلّداً في سريره، وكذا الأمر مع عقولنا. لا بدّ من فعاليات قسرية نمارسها تخالفُ الفعاليات التي صرنا نؤديها وكأننا مسرنمون (سائرون نياماً). الفعاليات التلقائية لا تطوّرُ العقل البشري، وتعلّمُ لغةٍ جديدةٍ واحدةٌ من أعظم الفعاليات التي تطوّر عقولنا. معروف في الإحصائيات الطبية العالمية أن من يتقن أكثر من لغة ستقل إصابته بمرض الزهايمر (الخرف العقلي) بنسبة كبيرة.
- اللغة أكبر من وظيفتها التواصلية: حقيقة أخرى علينا ألا ننساها أو نتغافل عنها. اللغة لم تكن أبداً أداة تواصل بين البشر فحسب؛ لكنْ فضلاً عن وظيفتها التواصلية فإنّ اللغة تجعل كلاً منا يُدرك الأشياء ذاتها، ولكن بطريقته الخاصة الممهورة ببصمته الشخصية. اللغة هيكل إطاري يشكّل قاعدة لرؤيتنا المميزة للعالم، العربي مثلاً يرى العالم بطريقة تتمايز عن رؤية الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الياباني أو الصين. اللغة بهذا المفهوم حاملٌ لهذه الرؤية، وكلّ لغة جديدة نتعلّمها هي إعادة تشكيل رؤيتنا للعالم. هل ثمة من يريدُ خسران هذا التنوّع الخلّاق في رؤية العالم؟!


مقالات ذات صلة

بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

يوميات الشرق بديعة مصابني تحايلت على عمر مُطعَّم بالمرارة (مواقع التواصل)

بديعة مصابني فنانة شاملة عبَرت الأزمنة وخرّجت النجوم

لا يزال اسم بديعة مصابني جذاباً لكثيرين ممن عرفوا شيئاً عن مسيرتها المثيرة. فنانة شاملة؛ تغنّي على المسرح، ترقص وتمثّل، حتى حار النقاد في وصفها.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب «الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

قراءة مهمة لأحدث كتب المستعرب الأميركي المرموق بيتر جران «الاستشراق هيمنة مستمرة... المؤرخون الأنغلو-أميركيون ومصر الحديثة» الصادر حديثاً بترجمة للعربية عن المركز القومي للترجمة بمصر. يرصد الكاتب تحليل جران العميق لخلفيات دعاوى مصطلح «المستبد الشرقي» وتفكيكها، كاشفاً عما انطوت عليه قشرته البراقة من سبل للهيمنة وبسط نفوذ الغرب الاستعماري على بلدان الشرق.

عزت القمحاوي
كتب انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

تنطلق غداً فعاليات الدورة السادسة من معرض الكتاب الفني السنوي «نقطة لقاء»، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون خلال الفترة من 24 إلى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري

«الشرق الأوسط» (الشارقة)
كتب 10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

يستعرض الكاتب سبل التعايش وسط عالم يتغير باستمرار بتغير القوى المسيطرة على إنتاج الحياة المادية والاجتماعية، وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال يفنّد محور خصصته المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» في عددها الصادر صيف هذا العام بعنوان «عشرة مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا» هذا الموضوع.

د. حسن منصور الحاج
كتب هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

من منظور علم التاريخ وفلسفته، يعقد الباحث العراقي دكتور حسين الهنداوي مناظرة فكرية شيقة ما بين العالم العربي ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع والعمران، والفيلسوف


«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!
TT

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

«الاستشراق»... تاريخ العيون المغلقة باتساع!

لم يأخذ موضوع «الاستشراق» أهميته في المجالين السياسي والثقافي العربيين؛ إذ يُنظر إليه بوصفه ممارسة جرت في الماضي ينحصر الاهتمام بها في نخبة من الدارسين، حتى كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» رغم وجود ترجمتين عربيتين له عومل كأيقونة، بكل ما في الأيقونة من معاني شهرة العنوان والقداسة والبقاء في مكانة عالية وبعيدة لا يدنّسها التمعن في التفاصيل. وهذا تقصير يصل إلى حد الخطيئة الثقافية والسياسية، لأن الاستشراق فاعل ومؤثر في التوجهات الغربية تجاه المنطقة العربية إلى اليوم، وينبغي أن نفهمه لنفهم جذور التحيز الغربي في أدق وأهم قضايانا كقضية فلسطين.

مناهضة ذهنية الاستشراق، هي ما يحاول المستعرب المرموق بيتر جران أن يحققها من خلال دراساته الأربع المنشورة كلها في مطبعة جامعة «سيراكيوز» بنيويورك والمترجَمة كلها إلى العربية في القاهرة، وأحدثها «الاستشراق هيمنة مستمرة... المؤرخون الأنغلو-أميركيون ومصر الحديثة».

صدر الكتاب عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في ترجمة رصينة للكاتبة سحر توفيق، ومراجعة المؤرخ عاصم الدسوقي.

لا يبدو أن جران بنزاهته ودأبه العلمي وصبره قد حظي بالاهتمام الذي يستحقه عربياً، ربما نال كتابه «ما بعد المركزية الأوروبية - المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة» بعض الاهتمام، لكن كتابيه «صعود أهل النفوذ»، و«الجذور الإسلامية للرأسمالية»، ليسا أقل من ذلك الكتاب، ومع الكتاب الجديد تبدو الكتب الأربعة مشروعاً مناهضاً للنموذج المهيمن في الرؤية الغربية لمصر والمنطقة والعالم.

حتى بعد أن جرت في نهر الدراسات الغربية للشرق مياه كثيرة، تدفقت من عمل إدوارد سعيد، الرائد، إلى أعمال تلاميذه من جيل مؤرخي ومنظِّري ما بعد الاستعمار، لم يزل نموذج «المستبد الشرقي» هو النموذج المسيطر في رؤية الغرب بنخبه الثقافية وصناع القرار السياسي فيه. وبدأبه المعتاد يتتبع بيتر جران أصل هذا النموذج ويحاول عبر فصول الكتاب تفكيكه.

حسبما جاء في العنوان، يرى بيتر جران الاستشراق الإنجليزي والأميركي مدرسة واحدة أسَّسها الإنجليز. لم يستطع المستشرقون الأميركيون التحرك بعيداً عن النموذج البريطاني. يرفض جران الرؤية السائدة لتوقيت بداية الاستشراق الأميركي بتوقيت بداية هذا المجال أكاديمياً بمعناه العلمي قبل الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي شهدت إنشاء مراكز دراسات الشرق الأوسط. البداية بالنسبة له تسبق هذا بكثير، وكانت مرتبطة بالأهداف الاستعمارية بشكل مباشر، مثل كتاب «وصف مصر» الذي أنجزه باحثون وهواة صاحبوا حملة نابليون على مصر عام 1798، وكتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، الحاكم الإنجليزي بالقاهرة الذي ترك أثراً لا يُمحى على دراسات الاستشراق إلى اليوم. يَعدّ جران «مصر الحديثة» الكتاب المؤسِّس لهذه الدراسات نظراً لاتفاقه مع تقاليد الإمبريالية الإنجليزية والإنجيل في ذات الوقت.

تتداخل العوامل التراثية وأمور الهوية مع العوامل التاريخية في الشرق وفي أميركا ذاتها كما تتداخل مصادر تمويل الدراسات وهوية الكُتَّاب أنفسهم في صناعة الصورة.

ويَعدّ جران «سفر الخروج» النص الأقدم في رسم صورة «المستبد الشرقي» بالدراسات الأنغلو-أميركية كنمط أساسي إسلامي يستعصي على التغيير، وتُقدَّم مصر بوصفها نموذجاً لهذا النمط الذي يرسمه العهد القديم لفرعون مصر. وإلى جانب ذلك هناك الأساس الهيغلي من حيث شمولية الأفكار وأثره في رؤية الشرق.

ولا يفسر هذا الأساس التراثي وحده ثبات الدراسات المتعلقة بمصر، والإصرار على إغلاق العيون على نموذج ثابت دون غيره. يلاحظ جران من قراءاته في الحقبة الكولونيالية بالقرن التاسع عشر وحول قناة السويس أن إنجلترا كانت مهتمة بفكرة الإمبراطورية، مما يعني حاجتها إلى تأمين الطريق إلى الهند وتأمين طريق البترول إلى أوروبا، هكذا يبرز دور مصر كممر يجب أن يكون آمناً. ولم يكن نموذج «المستبد الشرقي» مطلباً أو سياقاً أنجلو- أميركياً فحسب، بل كانت العائلة المالكة المصرية والطبقة المهيمنة في مصر المرتبطة بإنجلترا من أقوى أنصار نموذج الاستبداد الشرقي. في نظر جران كان التفسير الماركسي فرصة لتغيير النظرة، لكنَّ أثره لم يستمر.

بيئة الدراسات في الجانب الأميركي نفسه لها دورها في رسم الصورة؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر، الوقت الذي اتجهت فيه دراسات الاستشراق الأميركي إلى التخصص، كانت البلاد لا تزال تعاني من جراح الحرب الأهلية (1861 - 1865) وصعوبات صياغة عقد اجتماعي، وبرزت قضايا النوع والعِرق والطبقة والطائفة. أدى فشل الدولة في صياغة العقد الاجتماعي إلى عقد تحالفات صغيرة للحفاظ على هويتها في فترة تميزت بالعنف الذي وجد صداه في التعليم العالي وتخصصاته المختلفة.

وفي ظل هذا الصراع خسرت النساء والأميركيون من أصل أفريقي أمام الذكور البيض. ويعوّل بيتر جران على خصوصية صوت المرأة الذي سيعود إليه في دراسته للحالة المصرية، ليوضح كيف يتعرض للتغييب في دراسات التاريخ. ويستند جران إلى دراسات المؤرخة المصرية أميرة سنبل الأزهري التي تثبت أن النساء تمتعن بقدر أكبر من المساواة مع الرجال أكثر مما أتيح لهن بصعود الدولة الحديثة عندما تصادف تزامن اعتماد القانون الفرنسي مع مولد السلفية الدينية.

ويلاحظ جران أن الكُتَّاب في موضوع الحداثة المصرية يميلون إلى النخبة الذكورية ويضعون ثقافتها في تضاد مع ثقافة الفلاحين والقبائل وفقراء الحضر، ولا يزال هذا الانحياز قائماً، متشككاً في قدرة دراسات تخضع لهذا الاستقطاب في وصف الواقع.

يفترض نموذج الاستبداد الشرقي وجود فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، وأن السلطة تتمركز في القاهرة، بينما هي محدودة أو غائبة تماماً على مستوى الأقاليم، والشعب بلا فاعلية كالفلاحين في العصور الإنجيلية، لهذا فالتاريخ المصري راكد، وفي أحسن الأحوال يدور في دوائر، وهكذا يمكن اعتبار عبد الناصر محمد علي جديداً والسادات ومبارك صدى لإسماعيل.

يرفض جران هذه الرؤية ويصل إلى فكرة أن البلدان ليست راكدة، ولكن الركود قد يصيب الدراسات أحياناً. ويدلل على مقولته بأن الصعيد كان مناوئاً لسلطة القاهرة في فترات طويلة، وكانت «جرجا» في قلب الصعيد تتمتع بثقل كبير، ولها أهميتها لدى الباب العالي العثماني بوصفها أحد مصادر الإمبراطورية في القمح.

من بين فرضيات نموذج الاستبداد الشرقي أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج، وهذا الاعتقاد الأخير هو ما يجعل المستشرقين وجانباً من مدرسة التاريخ المصرية يصرّون على أن حملة نابليون كانت نقطة النور التي أضاءت التاريخ المصري. وعبر قراءات موسعة لكتب فردية وجماعية ينفي بيتر جران هذه الأسطورة، ويتفق مع الجيل الأحدث من المؤرخين المصريين مثل عاصم الدسوقي ونيللي حنا، على أن الحملة كانت تنبيهاً لكن ما سبقها لم يكن جموداً مطلقاً كما تروّج السردية الاستشراقية. جاء الفرنسيون بأسلحة متطورة شكَّلت صدمة لطبقة الحكم في مصر لكنّ عناصر الحداثة كانت موجودة في المجتمع ذاته، ويمكن تلمسها من ثقافة طبقة وسطى متعلمة تقتني الكتب، كما يمكن تلمسها من عقود البيع والشراء في تلك الفترة.

بعض الأطروحات الحديثة المتأثرة بالنظرية الاجتماعية استطاعت اختراق هذه الرؤية، ويشير جران إلى دراسة ليلى أبو لغد حول نساء قبائل أولاد علي، ورغم تبنيها نموذج الاستبداد الشرقي في البداية، فإن دراستها نماذج النساء وأشعارهن تُثبت سعي النساء إلى المقاومة وحيازة السلطة. المؤرخة زينب أبو المجد، بدورها ترفض اتخاذ الدولة القومية المصرية وحدة تحليل، مؤكدة في دراستها «إمبراطوريات متخيلة» أن الديكتاتور ملمح إمبراطوري وليس ملمح أمة. ويَعد جران كتاب زينب أبو المجد أول دراسة جادة لصعيد مصر الذي فشلت ثلاثة إمبراطوريات: العثمانية، والبريطانية، والأميركية في إخضاعه، وبالطبع فإن تاريخ المقاومة في الصعيد صفحة لا تحبذها الدولة القومية كذلك.

ومن الأميركيين يذكر جران صديقه تيموثي ميتشل، ويَعدّ كتابيه «استعمار مصر» و«حكم الخبراء» نموذجين للرؤية المضادة للنموذج السائد. متأثراً بالفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، يقدم ميتشل مجادلة حول الطبيعة القسرية للدولة المعاصرة بشكل عام وليس في النموذج المصري فحسب، ولا تنفي طبيعة الاستبداد المصري ومساهمة الاستعمار في إعادة صياغة الدولة على هذا النحو، وجود معارضة في كل وقت. لا تقتصر تلك المعارضة على منطقة أو عِرق أو نوع، إذ يتوقف جران أمام ثورة 1919 طويلاً، ويذهب إلى الاستشهاد بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، وهو الرجل الذي عاش يراقب الطبقات الشعبية ويكتب عنها... وهكذا فالحداثة ليست نموذجاً يُفرض من الخارج، وليست تحديث نخبة، وإنما عمل متوازن تتدخل فيه جميع العوامل.

للأسف، لم يزل هذا الفهم بعيداً عن دوائر السياسة الأميركية التي تعتقد أن مصر لديها نظام أبويّ، وقد تحب مساعدتها على أن تصبح ديمقراطية. وعلى مدار سنوات تقدم مساعدات مع فصلٍ تام بين الإيمان بالطبيعة الديكتاتورية للنظام وبين التساؤل حول ما إذا كانت المساعدات تؤثر في الطبيعة التي يعمل بها النظام.

يرى بعض الكُتَّاب أن الديكتاتورية تُنتج الإرهابيين الذين يمثّلون تحدياً للغرب، وبعد ذلك يتفرقون بين جماعة تبحث عن طريقة لتغلغل الغرب في المجتمعات الديكتاتورية بغية إصلاحها وأخرى ترى من الخطأ طرح سؤال التغيير من أساسه، في تجاهل لكتابات قلة مثل الكاتب السياسي جايسون براولي الذي يستند إلى النظرية الاجتماعية الجديدة، ويؤكد في كتاب حديث له أن إفراد مصر لا معنى له، لأن الغالبية العظمى من البلدان التي تحاول التحول إلى الديمقراطية تتعثر عند نقطة ما، وينبغي دراسة تلك النقطة في كل حالة.

ويختتم بيتر جران كتابه بالدعوة إلى مزيد من الدراسات الأميركية في حقول مختلفة تفيد الباحثين في الدراسات المصرية، وعلى سبيل المثال دراسة التاريخ المعرفي الأميركي، إذ يقوم بعض العلوم بدور السدنة في الحفاظ على الأفكار القائمة، وليس بعيداً عن ذلك هندسة رواية التاريخ الأميركي بحيث تكون الولايات المتحدة هي «أميركا الشمالية»، واستبعاد أن يكون الإيروكوا وغيرهم من الأميركيين الأوائل جزءاً من الثقافة الرفيعة. ويلاحَظ أن ما يطبقه حراس البوابات على دراسة مصر تشبه ما يطبقونه على دراسة تاريخ فلسطين، حيث ينبغي على الدارسين تحاشي ذكر الفلسطينيين.


انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة
TT

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

انطلاق معرض «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة

تنطلق غداً فعاليات الدورة السادسة من معرض الكتاب الفني السنوي «نقطة لقاء»، الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون خلال الفترة من 24 إلى 26 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري في بيت عبيد الشامسي التراثي في ساحة الفنون.

يسعى «نقطة لقاء» لدعم ممارسات النشر المستقلة في المنطقة والعالم، وتقديم تجارب نوعية تشمل المطبوعات الفنية وإنتاجات الناشرين المستقلين والمشاريع الثقافية غير الربحية، إلى جانب أعمال الفنانين والمؤسسات، التي تُعرض ضمن ثلاثة أقسام: دولي، ومختارات، ومحلي.

ويستقطب قسم «دولي» دور نشر فنية ومستقلة من جميع أنحاء العالم لعرض وتوزيع كتبها خلال المعرض. أما قسم «مختارات» فيقدم مجموعة من الدوريات والمجلات والكتب الفنية والكوميك وكتب الاهتمامات الخاصة التي لا توزعها المكتبات المحلية. فيما يضمّ قسم «محلي» كتباً من إنتاج مجتمع الفنون المحلي من مؤسسات فنية وثقافية وغاليريهات ودور نشر وهيئات ثقافية حكومية غير ربحية، بالإضافة إلى مجموعة من المطبوعات والتصاوير والمجلات الفنية ومجلات الكوميك والصور الفوتوغرافية والقرطاسية ومطبوعات الشاشة التي أنتجها فنانون مستقلون.

ويتضمن برنامج هذه الدورة مجموعة واسعة من الورش التفاعلية المصمَّمة لجميع الأعمار التي تقدم مقاربات تجريبية في فن صناعة الكتب، وأساليب تجليدها، وتزيينها، وتصميم أغلفتها، وصناعة مفكرة مصورة شخصية وجلسات قراءة. بالإضافة إلى ذلك يحتضن البرنامج مصادر إبداعية متصلة بفلسطين ورمزية النضالات التحرّرية العالمية، إلى جانب محطة طباعة ريزو بالتعاون مع استوديو «فكرة» للتصميم، ومجموعة من روايات الغرافيك والمانغا من مكتبة «كينوكونيا».

كما يصدر خلال المعرض كتابان جديدان عن مؤسسة الشارقة للفنون، الأول بعنوان «بيت الحرمة» ويقدم قصصاً خيالية حول بيت الحرمة اعتماداً على سلسلة من ورش الكتابة المستوحاة من هذا البيت التراثي المشيّد بالشعاب المرجانية في حي المريجة بالشارقة. أما الآخَر فيحمل عنوان «كورنيش» وهو امتداد لسلسة من النسخ السابقة، ويتضمن سرديات وقصص كوميك لفنانين مقيمين في منطقة الخليج، يشاركون إبداعاتهم التي تتناول التراث والخيال العلمي والفانتازيا والميتافيزيقا والأحلام والأساطير.

يشار إلى أن مؤسسة الشارقة للفنون تستقطب طيفاً واسعاً من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، والإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. وتسعى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية، وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، وفتح أبواب الحوار مع جميع الهويّات الثقافية والحضارية، بما يعكس ثراء البيئة المحلية وتعدديتها الثقافية. وتضم مؤسسة الشارقة للفنون مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية مثل «بينالي الشارقة» و«لقاء مارس»، وبرنامج «الفنان المقيم»، و«البرنامج التعليمي»، و«برنامج الإنتاج» والمعارض والبحوث والإصدارات، بالإضافة إلى مجموعة من المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة على ترسيخ الدّور الأساسي الذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.


10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا
TT

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

10 مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا

في ظل هذا العالم الذي أصبح قرية كونية، حيث بدأت الحدود تتضاءل وتنفتح بين المجتمعات البشرية، بدأ الإنسان المعاصر يشعر أنه يعيش في عالم يتغير باستمرار، وأخذ يتساءل حول مصيره ومصير الجماعة التي ينتمي إليها، كما بدأ يتساءل حول معنى الحياة الفردية في ظل سيطرة البنى الشمولية والأفكار وطرق الحياة والثقافات المختلفة التي تجتاح الكون وتتجاوز الحدود الوطنية بفضل ثورة وسائل التواصل والإعلام. وبالفعل، جعل هذا الواقع حياة الأفراد محكومة بآليات وبأنماط مفروضة من قبل السلطات المسيطرة على إنتاج أنماط العيش المتناسبة مع شروط القوى المسيطرة على الأسواق العالمية. وأمام هذا الوضع الخاضع للتغير بتغير القوى المسيطرة على إنتاج الحياة المادية والاجتماعية، ماذا على الفرد أن يفعل وكيف يستطيع التعايش مع هذا العالم الذي يتغير باستمرار؟ وفي سبيل الإجابة عن هذا السؤال خصصت المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» (Question de philo) في عددها الصادر صيف هذا العام 2023 محوراً خاصاً حول هذا الموضوع بعنوان «عشرة مفاتيح من أجل بسط الحكمة في حياتنا». لكن المدخل الأساسي لفتح هذه الطريق يكمن في اليقظة الروحانية، على أنها قد تحدث عند الإنسان في أي مرحلة من حياته. فما هذه المفاتيح العشرة التي تساعدنا على التوفيق بين الحكمة واليقظة الروحانية في حياتنا اليومية؟ سنحاول هنا شرح هذه المفاتيح بإيجاز قدر الإمكان:

المفتاح الأول يكمن في طرح أسئلة لا تنتظر إجابات واضحة وأكيدة. فعندما نلتزم البحث عن يقظة روحانية، فهذا لأننا وجدنا أنفسنا أمام أسئلة ليس لها أي جواب، وذلك يربك طريقة عملنا. وهذه الأسئلة غالباً ما تكون فلسفية أو دينية أو علمية أو نفسية. لذلك هناك أسئلة كبرى يمكن أن تبقى بعيدة المنال، لكنها مع ذلك تبقى جوهرية. على سبيل المثال: «ما الحياة؟» أو «ما الخير والشر؟»، «ما معنى حياتي؟»، و«كيف يمكن ألا أكون مهتماً بالموت؟». الجدير بالذكر هنا، أن الروحانية في زمننا ليست مرتبطة بالدين ولا بالمعتقدات؛ فهناك كثير من الميادين تتقاطع معها، ومنها علم اللاهوت.

المفتاح الثاني يتمثل بمحاولة البحث عن المطلق، وذلك يأخذ أشكالاً مختلفة كلياً. والملاحَظ هنا أن بعض الذين يتخذون هذا المنحى يكونون في مرحلة الشباب. على سبيل المثال: إن الالتزام الديني، مهما كان، هو بالفعل ممكن بالنسبة إلى الشخص الذي يتمتع بهذا الميل.

المفتاح الثالث يتمثل في مبادرة الانفتاح الفكري أو الذهني. فإذا كانت عملية أو مبادرة اليقظة الروحية تصيب كل شخص مهما كانت بيئته ومكانته في المجتمع أو أصوله؛ فمن الواضح أن ذلك يتطلب معرفة معينة بالطريقة التي يتبناها، وكذلك مستوى جيداً من الحس السليم.

المفتاح الرابع يتمثل في عدم التسرع في أخذ الوقت اللازم للقيام بخطوة معينة في الحياة. وذلك لأن الأسئلة المعقدة كتلك المطروحة في هذا المجال يمكن أن تنتظر طويلاً من دون إجابة. من الأفضل إذن الانتظار إلى حين التمكن من الحصول على قدرة استكشاف السبل الممكنة المقترحة، وكذلك استشارة أصدقاء سبق لهم أن اختاروا تلك الطريق. لا شيء يدعو إلى التسرع ولا شيء يضغط لاختيار طريق غير آمنة.

المفتاح الخامس يتمثل في اختيار الطريق السليمة. ومن أصعب الأمور في هذا المجال هو بالطبع اختيار الطريق الصحيحة المفروض تبنيها. وإذا كان ذلك واضحاً بالنسبة إلى البعض منذ البداية، ولكنه غير متوفر للبعض الآخر. إذن، فإن ذلك يأخذ بعض الوقت قبل أن يتمكنوا من تحقيق دخولهم هذا الباب، وخصوصاً إذا لم يكن هناك من يساعدهم في هذا البحث أو المسعى. وفي هذا المجال يبقى الخيار فردياً، ومن الممكن عدم الوصول إلى الطريق الفضلى بشكل مباشر.

المفتاح السادس يتمثل في حرية التغيير. عندما ننطلق في تجربة روحانية لا يجب علينا أن نضع لأنفسنا سقفاً محدداً للوقت الواجب لهذه التجربة، بل علينا أن نتقبل بأن الخيار الأول الذي ننفذه قد لا يتناسب مع ما كنا ننتظره. هنا ليس المطلوب أن نغير من أجل التغيير أو بسبب مجرد فضول ذهني، وذلك لأن الرغبة هنا ليست بالفعل مجرد اغتناء فكري، بل الوصول إلى حالة من الراحة الروحية ومرتبة أفضل في الحياة. إذن، يجب الشعور كلياً بحرية التغيير وبالتراجع من أجل استكشاف مناطق أو مسارات أخرى.

المفتاح السابع يتمثل في عدم فقدان الحس النقدي، وذلك لأن الالتزام في طريق اليقظة الروحانية لا يعني التمسك بإيمان معين وقبول كل ما يقال فيه، بل يجب أن يبقى الحس النقدي لدينا في حالة اليقظة. في هذه الحال يمكن للتجربة وللتربية وللثقافة العامة حماية حرية التفكير، فضلاً عن المساهمة بطريقة ما في إعادة النظر ببعض طرائق التعليم التي تبدو غير قابلة للفهم أو غير متكيفة مع العصر. ولكن المهم في ذلك هو الحفاظ على حرية التفكير واختيار الأشخاص المناسبين لهذه الوظيفة.

المفتاح الثامن يتمثل في الاعتياد والألفة مع التأمل كونهما شرطين أساسيين لنجاح هذه التجربة. ويمكن أن يقتضي الأمر تأملاً خالصاً، أو لحظات تأمل، أو صلاة، أو حتى بعض الرؤى. ولكن المطلوب التصرف بطريقة إرادية والانغماس في هذا التعلم من دون خلفيات فكرية مسبقة، لأن الوصول إلى حالة التأمل يمكن أن يأخذ وقتاً معيناً، ولذلك من الملائم الحفاظ على إيقاع معين، فالتأمل يلعب دوراً مهماً حتى من الناحية الجسدية، كما برهنت على ذلك بعض الأبحاث التي بيّنت دوره في تقوية نظام المناعة، وذلك بشرط ممارسته يومياً.

المفتاح التاسع يتمثل بمسار غير محدود، فعندما تبدأ عملية التوفيق بين اليقظة الروحانية والحكمة، يجب ألّا تتوقف وألّا توضع حدود لها، لأن حالات التقدم في هذا المجال هي ذاتية جداً وفردية. لكن ما يجب أن نعرفه هو أن المسار الروحاني ليس له أي حدود حقيقية؛ إذ إنه يستمر من دون توقف من خلال تقنيات مختلفة وجديدة كالاسترخاء والسوفرولوجيا التي تعزز الصحة الجسدية والنفسية من خلال تحسين النوم، ومعدل التركيز، وتخفيف التوتر. ويبقى أن الهدف الأساسي من كل ذلك هو تحسين الحال والسكينة وتفضيل القيم الإيجابية، ومن أهمها المحبة. وهذه الطريق لا حدود لها، وتكفي المثابرة عليها للحفاظ على جمالية المبادرة.

أما المفتاح العاشر والأخير فيتمثل في التفكير بالجسد. من المعروف أنه في القارة الآسيوية يشارك الجسد في التوازن بين النفس والجسم، وفي الهند هناك تمارين خاصة تساهم في إعادة التوازن بين الجسد وبين ذكرياته، ولكل شخص أسلوبه الخاص فيما يتعلق بالطاقة والحيوية، ويمكن له إذن أن يختار النشاط الجسدي في العملية. وهناك من يفضل التأمل سيراً على الأقدام.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن الدخول في عملية أو مبادرة روحانية في سبيل اكتساب مزيد من الحكمة لا يعني أبداً أنه يجب إهمال الجسد؛ ذلك لأن الجسد هو أيضاً يشكل جزءاً أساسياً من كينونتنا؛ فنحن لا يمكننا جميعاً أن نصبح على مثال المتصوف أو الزاهد، أو أن نصوم أربعين يوماً. فاليوغا مثلاً يمكنها تفعيل الجانبين. أضف إلى ذلك أنه ليس هناك أي إلزام للاختيار بينهما. إن من يريد الخوض في هذه التجربة ليس ملزماً أن يختار، بل هو تبعاً لطبيعته ولمزاجه سوف يتمكن من اختيار السبل التي توحّد بين الجسد والروح، بدلاً من أن يلجأ إلى خيارات ذهنية حصراً.


هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟
TT

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

هل اطلع الفيلسوف الألماني هيغل على مقدمة ابن خلدون؟

من منظور علم التاريخ وفلسفته، يعقد الباحث العراقي دكتور حسين الهنداوي مناظرة فكرية شيقة ما بين العالم العربي ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع والعمران، والفيلسوف الألماني هيغل مؤسس المثالية الألمانية في الفلسفة، ويشير في كتابه المهم «التاريخ والدولة - ما بين ابن خلدون وهيغل» إلى وشائج قوية تربط بينهما رغم البون الزمني الشاسع، الذي يصل إلى أربعة عقود.

يقع الكتاب في 206 صفحات من القطع المتوسط، وصدرت طبعته الأولى عام 1996 عن «دار الساقي»، وعن الدار نفسها صدرت حديثاً طبعته الثانية، مزيدة ومنقحة. يستهلها الكاتب بمقاربة تمهيدية يوضح فيه الأسس النظرية والفكرية التي تستند عليها هذه المناظرة، وكيف قادته إلى اكتشاف علاقة ذات تأثير خاص ما بين الفيلسوفين، لافتاً إلى أنه لم ينطلق من مفاهيم نظرية مجردة، وإنما من مصادر مشتركة بينهما، وأن «فلسفة التاريخ الهيغلية هي التي قادتنا إلى اكتشاف علاقة بينها وبين الفلسفة الخلدونية، وليس العكس».

ويربط هذا المنظور بمفهوم الدولة، طارحاً في خاتمة الكتاب سؤالاً مهماً يشكل خلاصة بحثه المعرفي الشيق وهو: هل اطلع هيغل على مقدمة ابن خلدون؟ لافتاً إلى تناثر أفكار ومفاهيم محورية في فلسفة هيغل ترجع أصولها إلى مفكرين وفلاسفة عرب، من أمثال الكندي والفارابي وابن رشد، وهو ما أشار إليه باحثون ومستشرقون غربيون وألمان على وجه الخصوص، لكن هذه الإشارة تراوح بأوجه مختلفة، فبعضها يؤكد ذلك بشكل صريح، وبعضها الآخر يُغلِّب الظن والاحتمال.

التوافق والاختلاف

يوضح المؤلف ذلك حين يستعرض نقاط التوافق والاختلاف بين الرجلين، مؤكداً أن هناك قطيعة منهجية واعية وشاملة ينفذها ابن خلدون في كتابة التاريخ، تؤدي إلى الفصل أو التمييز بين فن «التدوين» العادي، وبين علم التدوين الفلسفي لأحداث الماضي. ويشمل هذا التمييز الموضوع ومادته من جهة، وتمييزاً في المنهج والأدوات من جهة أخرى.. ويقول: «هذه هي الأرضية الصلبة التي يؤسس عليها ابن خلدون إلى التعامل مع التاريخ البشري، من الآن وصاعداً، بمعايير الفلسفة، لكنه كان يدرك أيضاً أن الفلسفة لا تستقبل إلا ما هو فكر محض، أي لا تتعامل مع وجود جوهري وحقيقي وعميق في التاريخ. من هنا يأتي مصدر دعوته إلى الفصل الواعي بين ظاهر التاريخ وباطنه الذي يقدم عليه منذ بداية مشروعه».

وعلى ضوء ذلك يمكننا النظر إلى التاريخ باعتباره توثيقاً للفضاء العام للإنسانية، يتم التعامل معه عبر المنظور الفلسفي من خلال زاويتين؛ هما التاريخ الكوني المادي المباشر للوقائع والأحداث وما يكمن وراءه، من حلقات ودوائر ذات صلة به، وضاربة في عمقه، لكن يتم ذلك بشكل غير مباشر، فهي مخفية في طبقاته، ومؤثرة فيه، وفي كينونته العابرة الممتدة في كينونة الزمان والمكان. ويتوقف حول محاضرات ألقاها هيغل حول موضوع «التاريخ الفلسفي»، وفيها يؤكد الفيلسوف الألماني أن «الموضوع هنا لن يكون استخلاص أفكار عامة من التاريخ، مدعومة بأمثلة مأخوذة من مجرى الأحداث، إنما تقديم المضمون الخاص بالتاريخ الكوني».

ويرى هيغل أن هذا المضمون الخاص لا يمكن كشفه إلا بواسطة الفلسفة، لأنها هي وحدها من يستطيع قراءة «ما هو خفي في التاريخ»، ويتم ذلك من خلال فكرة بسيطة، تؤكد أن «العقل يحكم العالم». إذن قراءة التاريخ فلسفياً تعني أنه معطى عقلاني، يخضع لمعطيات المنطق، وربط النتائج بالمقدمات، ومن الصعب إحالته إلى بداهة الحواس، وتصوراتها البديهية، ابنة المزاج الخاص.

في هذا التصور ربما تلوح أواصر ما، بين ثنائية ظاهر التاريخ وباطنه، عند ابن خلدون، وبينه كجدلية ما بين الخفاء والعلن عند هيغل؛ لكن يظل أهم ما في مقدمة كتابه «فلسفة التاريخ» أن هيغل يوضح فيها وجهة نظره حول مسار التاريخ البشري كله، رابطاً ذلك بالكينونة الإنسانية الأساس، وهي الوعي بالحرية، فيقول بشكل صريح لا لبس فيه: «تاريخ العالم ليس إلا تقدم الوعي بالحرية». ومن ثم فهي الفكرة الأساسية التي يتشكل منها الكتاب ويستند إليها، ويبني من خلالها هيغل تصوراته وفلسفته للتاريخ، ليس باعتباره حقيقة ماضوية فحسب، وإنما أيضاً من خلال تجلياته في الراهن وما يحدث الآن.

 

مفهوم «العمران البشري» الخلدوني حاضر كليّاً فيما يعنيه هيغل بـ«الفاعلية الروحية» للإنسان، التي تشمل كل أنشطته المادية والذهنية ونتاجاتها، قبل دخوله للحضارة، والتي تمثل مرحلتين أيضاً، ما قبل الدولة، وما بعدها

نظرية الدولة

في سياق هذه المقاربة الفلسفية يتناول الكتاب نظرية الدولة عند هيغل وابن خلدون، ويلفت إلى وشائج وتماثلات عميقة تبدو ممكنة بين جوانب بنيوية في تناولهما بخاصة حول فكرة الحضارة، منها أن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يطرح جملة من الأفكار حول مفهوم العمران البشري، وهو مفهوم واسع يتجاوز مفهوم الحضارة، حيث ينظر إلى المجتمع باعتباره مجموعة من الأفراد يقطنون رقعة جغرافيّة معينة، وتجمع بينهم روابط معينة، تعزز الحاجة للدخول في علاقة مع الآخرين، وينظم المجتمع ذلك في إطار منظومة من الثوابت والقواعد الاجتماعية التي يكفلها القانون؛ حيث إن الفرد في هذا المجتمع لا يستطيع مخالفة قواعد التعايش العامة ضمن نطاق المجتمع هذا أو الانحراف عنها، لأنه في حال فعلها فإنه يعرض نفسه للعقاب، كما سيقع في دائرة من اللوم والسخط من قبل الآخرين. من هذا المنطلق تتكشف لنا طبيعة سيكولوجية القواعد الاجتماعية التي تمارس سلطتها على الأفراد، فهي قواعد مفروضة عليهم بسلطة الوعي الجمعي والصالح العام، ويطلق على تلك القواعد اسم «القهر الجماعي».

اللافت أن هذا لا يتم بشكل عشوائي إنما يفرض المجتمع قوانينه الملزمة للأفراد بمنطق الوعي الجماعي المستقل عن وعي كلِ فرد على حدة، كما أن ظهور المجتمعات البدائية لا ينفصل عن عملية النمو الديمغرافي، بل يرتبط بها ارتباطاً عضوياً وحتمياً، وتبدأ هذه العملية بالأسرة وتستمر بالنمو مروراً بالقبيلة أو العشيرة، تعقبها مجتمعات بسيطة، وتنتهي بالمجتمعات المركبة.

وعلى ذلك يتلخص مفهوم المجتمع البشري في الفلسفة، كما عند أرسطو وابن خلدون وهيغل، في كونه ناتجاً عن طبيعة أملتها الحتميّة أو الضرورة على الإنسان، على اعتبار أنه كائنٌ اجتماعيٌّ بحاجة إلى الآخرين من بني جنسه للوصول وتحقيق غاياته ومتطلّباته. يرى ابن خلدون أنّ المجتمع الإنساني ضروري، مقتبساً رأيه هذا من الحكمة الأرسطيّة التي تقول بأن الإنسان مدني بطبعه، ولا بد له من الاجتماع ببني جنسه، ويشير ابن خلدون في هذا السياق إلى أن الحقيقة الأزلية التي ترهن بقاء الإنسان على قيد الحياة مرهونة بشرطين رئيسيين، هما: توفر طعامه وقوت يومه الذي يحتاجه جسده للاستمراريّة في الحياة والنمو. كذلك قدرته على مواجهة الأخطار والدفاع عن نفسه، بالشكل الذي يضمن سلامة حياته من أي تهديدٍ يحيط بها. ولن يتوافر هذان الشرطان إلا عن طريق الاجتماع والتجمّع، وعلى هذا الأساس فإنه من البديهي أن يكتسب هذا التجمع ماهية «المجتمع الإنساني» ومن البديهي أيضاً أن يوصف بذلك.

من هنا تبرز ضرورة الدولة؛ حيث يبدأ مفهوم «العمران» عند ابن خلدون في التبلور كفعل طبيعي وتلقائي، وهو ما يبرر تمييزه الدقيق بين «التوحش» و«التمدن»، أو بين «العمران البدوي» و«العمران «الحضري»، الذي يعكس - حسب الكتاب - مرحلتين متواليتين، لكنهما مختلفتان تماماً؛ الأولى اجتماع على أساس رابطة الدم والنسب، والثانية اجتماع على أساس رابطة الانتظام في إطار الدولة. وأحسب هنا أن هذا الطرح يشير ضمنياً إلى مفهوم «المواطنة»، أحد المفاهيم التي تجلت في إرساء قواعد الدولة الحديثة.

أما عن فكرة الدولة عند هيغل، فيلاحظ المؤلف أن مفهوم «العمران البشري» الخلدوني حاضر كلياً فيما يعنيه هيغل بـ«الفاعلية الروحية» للإنسان، التي تشمل كل أنشطته المادية والذهنية ونتاجاتها، قبل دخوله للحضارة، والتي تمثل مرحلتين أيضاً، ما قبل الدولة، وما بعدها.

هنا يلفت المؤلف في كتابه القيم إلى أن «هذه الموازاة تقطع بأن ظهور الدولة وعلاقتها بالحضارة عند هيغل سيرورة مشابهة لتلك التي في مقدمة ابن خلدون».

 


ماثيو بيري... تجربة الشعور بالعار

صورة تظهر وسط نصب تذكاري مؤقت للممثل ماثيو بيري في نيويورك (رويترز)
صورة تظهر وسط نصب تذكاري مؤقت للممثل ماثيو بيري في نيويورك (رويترز)
TT

ماثيو بيري... تجربة الشعور بالعار

صورة تظهر وسط نصب تذكاري مؤقت للممثل ماثيو بيري في نيويورك (رويترز)
صورة تظهر وسط نصب تذكاري مؤقت للممثل ماثيو بيري في نيويورك (رويترز)

قرب نهاية سيرته الذاتية، كتب ماثيو بيري عن لقاء أخبرته والدته فيه بأنها فخورة به: «لطالما تمنيت أن تقول ذلك طوال حياتي». وعندما أخبرتها ذلك، قالت: «ماذا عن قليل من المغفرة؟».

يبدو هذا صوت العار الذي يُسمع دائماً داخل العائلة: شخصان يتوقان إلى الاعتراف والغفران، ويجيبان عن طلب مباشر للحب في تلك اللحظة بطلب مختلف من جانبيهما.

يظهر العار بوصفه الموضوع المهيمن على مذكرات بيري. وعلى ما يبدو، فإنه كان مهيمناً على حياته ذاتها. ويحسب لبيري أنه كان مصمماً على كسر هذه الحلقة المفرغة. قال لوالدته: «أنا أسامحك» (ثمة نبرة مفاجأة حقيقية في صوته في الكتاب الصوتي للمذكرات). وكتب بيري كيف سامح كذلك والده الذي تخلى عن والدته عندما كان طفلاً، كما عبّر مراراً وتكراراً عن حبه للأصدقاء المقربين والممثلين الآخرين والمساعدين، إلى جانب آماله في أن يسامحوه يوماً على كل ما عرّضهم له عندما ألحق إدمانه الدمار بحياته.

في الواقع، يبدو أن الشخص الوحيد الذي عجز بيري عن أن يسامحه، على الأقل على امتداد الجزء الأكبر من كتابه، هو نفسه. فخلال الكتاب، يصور ماثيو نفسه بوصفه الشخص الذي يستحق اللوم على كل ما يحدث. ويصف نفسه بأنه «أناني وكسول»، بل «ونرجسي ويفتقد الشعور بالأمان». حتى عندما يتشبث بالحياة داخل المستشفى، عندما تعرّض القولون لتمزق جراء مضاعفات إدمانه على المخدرات، يبدو عليه الخجل الشديد لأنه بالكاد يستطيع التحدث لأنه، كما كتب: «لقد وقع خوفي الأكبر، وهو أنني فعلت هذا بنفسي». ويعترف بيري بأنه تعرّض للمذلة بسبب ثروته وشهرته، وعبّر عن شعوره بالاشمئزاز من حقيقة أنه تمكّن من الحصول على كثير، بينما لم يستطع أن يفعل به سوى قليل. وبحسب روايته الخاصة، يبدو أن حياة بيري أصبحت على امتداد فترات طويلة، واحداً من الانعكاسات لشعوره بالعار، وعبئاً من الشعور بالذنب لم يستطع نهاية الأمر تحمله.

يملك الشعور بالعار القدرة على تسميم جميع الفوائد المفترضة المترتبة على النجاح: فهو يحوّل المال إلى أداة لتدمير الذات، والشهرة إلى لعنة مدى الحياة، والحب إلى خوف من التعرض للهجران بمجرد أن يدرك الطرف الآخر أنك شخص فظيع وكسول وأناني مثلما ترى نفسك. ويمكن للعار كذلك أن يحوّل محادثة ودية بين الأم والابن إلى ألم شديد نتيجة الشعور بالذنب والعزلة. وكما قال بن أفليك في مقابلة أجرتها معه مجلة «فانيتي فير» عن صراعاته الماضية: «الشعور بالعار سام حقاً. وليست ثمة نتيجة عارضة إيجابية للشعور بالعار. وإذا حملت الشعور بالعار معك إلى الجنة، فإن الجنة نفسها ستبدو لك مثل الجحيم».

في الواقع، قليلون للغاية منّا بإمكانهم استيعاب ماهية مشاعر العار المرتبطة بالشهرة التي حققها بيري. ومع ذلك، فإن الطريقة التي نفهم بها قصصاً أخرى مشابهة لقصته - التي نحزن بها على خسارة مثل تلك، خصوصاً لشخص كان شديد الصدق بخصوص معاناته - يمكن أن تخبرنا كثيراً عن كيفية تعاملنا مع هذه الأمور في حياتنا وعلاقاتنا.

كثير من الأحيان، نتعامل مع أخطاء الناس بوصفها سقطات أخلاقية، بدلاً عن الاعتراف بحاجتنا الشديدة إلى الحب والتواصل والاعتراف بحجم الشعور بالعار الذي يعاني منه كثير منا. ويمضي كل منا في الاحتفاظ بنسخته الخاصة من المحادثة التي جرت بين بيري ووالدته، بحثاً عن الحب والتسامح من شخصيات موجودة في حياتنا، بدلاً عن التوصل إلى هذا الحب والتسامح داخلنا.

وفي الإطار ذاته، لا ينبغي لنا تصوير حياة مثل حياة بيري بوصفها معيبة بشكل قاتل أو محكوماً عليها بالفشل منذ اللحظة الأولى لها. كما لا ينبغي لنا أن نحزن فقط على فقدان الموهبة، بينما نصور حياة صاحب هذه الموهبة بعيداً عن الشاشة بوصفها سلسلة من الأخطاء المأساوية التي اقترفها شخص كان يملك كل شيء تقريباً، لكنه ظل عاجزاً عن إيجاد طريقه نحو السعادة.

في الوقت ذاته، لا ينبغي لنا أن نطيل أمد الخرافة القائلة إن الشهرة والثروة يمكن أن تشتريا سبيلاً للمرء كي ينجو من اليأس، وإن إخفاقاتنا وأخطاءنا هي من صنع أيدينا نحن فحسب، وإنها ليست سوى نتاج مزيج غريب من التوجهات السيئة والخيارات الرديئة.

بدلاً عن ذلك، دعونا نجتهد نحو استيعاب مقدار القواسم المشتركة بيننا وبينه: أخطاؤنا، وشعورنا بالوحدة، وسلسلة إخفاقاتنا، وحتى موتنا المحتوم. الحقيقة أن أحداً لا يموت مزهواً، نهاية الأمر. والحقيقة كذلك أن معظم الناس لا يحظون بالعدد الذي يتمنونه من الأصدقاء الحقيقيين. وحتى أولئك الأشخاص الذين ينالون كل ما أرادوه، تراودهم الرغبة أحياناً في المزيد، رغم حسن نواياهم. هذا باختصار ما تشعر به عندما تكون إنساناً.

بدا بيري في كتابه مستعداً لمسامحة نفسه على إخفاقه في الارتقاء إلى معايير الكمال الخاصة به

من الإرث الجميل في حياة بيري أنه، على الرغم من ثقل شعوره بالعار، فإنه قال الحقيقة في كل شيء. لقد رفض التعامل مع لحظاته الأكثر إحراجاً وفظاعة بوصفها سراً. وكان بداخله إيمان حقيقي بأن صدقه بخصوص حاجته وألمه وإخفاقاته الكبرى، قد يساعد شخصاً آخر.

والآن، ما الحل لكل هذا الشعور بالعار؟ لحسن الحظ، بدا أن بيري اكتشف الحل في النهاية: أن تسامح نفسك. وعندما تجد المغفرة داخل قلبك، ستجدها فجأة في كل مكان حولك.

وفي نهاية سيرته الذاتية، بدا بيري قادراً على أن يرى بوضوح مدى الجهد الذي بذله مَن هم حوله لإنقاذه وتهدئته، رغم العقبات والصعوبات والمخاوف الكبيرة. كما أصبح شجاعاً بما يكفي ليشعر بالتعاطف مع الألم الذي سببه، بدلاً عن حماية نفسه من هذا الواقع. ويبدو بيري مدركاً أننا عندما نغفر لأنفسنا لكوننا بشراً، فإننا بطبيعة الحال نمد هذا الغفران ليشمل الآخرين. سامح نفسك كل صباح، وكل ليلة، بل وكل بضع دقائق، إذا كان هذا ما يتطلبه الأمر.

قد يجادل البعض بأن هذا يتعارض مع مسؤولية التعافي، لكنه في الحقيقة يكملها: أنت تعترف بأنك تسببت في الألم وأنك تصرفت بطريقة بائسة، لكنك تدرك في الوقت ذاته أنك لم تكن أول مَن تسبب في الأذى للناس، وارتكب أخطاء فادحة، ولن تكون الأخير. إنك تقول لنفسك باستمرار: أنا أبذل قصارى جهدي. الواقع أن كل حياة تشكل مجموعة متشابكة من الأخطاء. إن التخبط والارتباك، والرغبة في مزيد من الحب، ومزيد من الأمان، وتقليل الشعور بالوحدة ليست مجرد أمور إنسانية فحسب، وإنما هي الحركة المميزة لكل إنسان على قيد الحياة.

أما ما هو محزن للغاية، لكن يبعث في الوقت ذاته على الشعور بالأمل، أنه بحلول نهاية كتابه، بدا أن بيري قد أدرك متعة الامتنان والتواصل والتعاطف، وبدا مستعداً لمسامحة نفسه على إخفاقه في الارتقاء إلى معايير الكمال الخاصة به.

اللافت أنه وراء معظم حالات الإخفاق المأساوية، هناك شخص كان يتوقع كثيراً من نفسه - يتوقع أن يبرئ آلام والدته عندما تخلى عنها زوجها، يتوقع ترفيه وإسعاد كل شخص يقابله، ويتوقع أن يظل صديقاً شاباً ومحبوباً إلى الأبد - لكن هذه التوقعات الكبيرة المستحيلة ذاتها السبب في الأهمية الكبرى للتسامح ودوره الجوهري في معاونة الإنسان على البقاء على قيد الحياة.

ويجب أن يعيننا صدق بيري على مواجهة آلامه الهائلة، بأن حياة البشر كلها تتشكل من مجموعة متشابكة من الأخطاء. من المؤكد أننا سنخطئ جميعاً، اليوم وغداً، لكن التسامح يجعل من الكائنات أكثر سمواً، تمنح الحب بدلاً عن المطالبة به، وتسعى للسلام بدلاً عن الانتقام، كما يزرع بداخلنا الشجاعة لقول ما قاله بيري لنفسه في نهاية كتابه: «أحدق في الماء وأقول لنفسي بهدوء شديد: (ربما لست بهذا السوء في نهاية الأمر)».


ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية
TT

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

ملامح البطل الشعبي بين الملحمة الأفريقية والسيرة الهلالية

يتناول كتاب «الأدب الشعبي الأفريقي» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للباحث د. خالد أبو الليل دراسة مقارنة بين ملحمة «سونجاتا كيتا» والسيرة الشعبية العربية لأبي زيد الهلالي. في البداية يشير المؤلف إلى أنه غيّب الدرس المقارن العربي الأدب الأفريقي من مجالات اهتماماته ودراساته إذ لم يُلتفت إليه إلا مؤخراً، وهو التفات قليل يعكس إهمالاً واضحاً من الباحثين العرب، ما يؤكد أن الدراسات العربية لم تتخلص في مجال المقارنة من «عقدة الخواجة» الثقافية حيث الانبهار بالغرب، ومقارنة الأدب العربي بالغربي، التي ظلت مهيمنة على اتجاهات الباحثين العرب لحقبة طويلة رغم البدايات التي ركزت على مقارنته بالأدب الشرقي، تحديداً الفارسي والتركي.

وتعد ملحمة «سونجاتا كيتا» من أشهر النصوص الملحمية في غرب أفريقيا، إذ تعبر ملحمياً عن التاريخ الشفاهي الشعبي لإمبراطورية مالي التي قامت في القرن الثالث عشر الميلادي بزعامة سونجاتا كيتا. ومن هنا عدّ باحثون التاريخ الشفاهي مصدراً أساسياً للتاريخ السياسي والاجتماعي في أفريقيا، لذا حرص البعض منهم على تسجيل ملحمة «سونجاتا» ونشرها للمرة الأولى 1960. والملحمة تتعرض لهذا التفاعل السياسي والثقافي بين غرب أفريقيا والمنطقة العربية الإسلامية، وهى تدور حول نبوءة العرافين بأن الملك «ماغان» سوف يأتي من صلبه من سيقود البلاد إلى الانتصار، لكن هذا البطل الموعود سوف ينحدر أيضاً من امرأة دميمة محدّبة الظهر. وتتحقق النبوءة معتمدة على عدد من «الموتيفات» الشعبية التي تربط هذا البطل بذي القرنين والإسكندر الأكبر تارة، وبأبطال السير العربية تارة ثانية، وبأبطال الملاحم والأساطير الغربية مثل أوديب وأديسيوس تارة ثالثة.

وحسب قول العراف نفسه في الملحمة: «أرى صيادين قادمين نحو مدينتكم من بعيد تصحبهما امرأة ثالثة، آه هذه المرأة، إنها دميمة ومنفرة فهي محدبة الظهر مما يشوهها، وعيناها جاحظتان تبدوان وقد ركبتا فوق وجههما، آه من سر الأسرار! فهذه المرأة أيها الملك يجب عليك أن تتزوج بها لأنها ستكون أم ذلك الذي سيعيد اسم الماندينج الخالد إلى الأبد، سيكون الطفل سابع نجم والفاتح السابع للأرض وسيكون أقوى من ذي القرنين».

وفي السيرة الهلالية، لعبت النبوءة دوراً مهماً أيضاً في توجيه «رزق بن نايل» الهلالي صوب مكة الشريفة كي يتزوج ممن ستنجب له الولد الذكر الذي يحقق له أمنياته وكان ذلك عبر هاتف غامض:

بلغني الكبر يا ضهري وحنيت

من الله تقضى المصالح

بكيت على البلاوي وحنيت

في بيتي مفيش طفل فالح

ويتم زواج الملك من السيدة القبيحة التي تدعى «سولوجون». وعلى غرار ما تنبأ الصياد بشأن مستقبل هذا المولود، تأتي «بركة الطير» في السيرة الهلالية لتكون مجالاً للتنبؤ بمستقبل الغلام الذي ستلده خضرة الشريفة. ولم تكن «سولوجون وتادة سونجاتا» بأحسن حظاً من «خضرة» التي تعرضت لاتهام ظالم في شرفها ورحلت عن قبيلتها وتوجهت إلى أرض «الزحالين»، حيث قامت بتربية «أبي زيد» وتعليمه الفروسية وتنشئته تنشئة بطولية في الغربة ثم عودته بطلاً إلى مسقط رأسه. على غرار هذا يأتي مصير «سولوجون» وابنها «سونجاتا»، فقد أثار اهتمام الملك بطفله منها منذ أن كان جنيناً اعتماداً على ما رواه له العراف حقد «ساموما بيرتيه» زوجة الملك الأولى خوفاً منها على مستقبل ابنها «دانكاران» ابن الثمانية أعوام، لذلك تعددت محاولات هذه الزوجة للتخلص من «سولوجون» وابنها أثناء الحمل عن طريق كبار السحرة الذين يعترفون بعجزهم عن إلحاق الأذى بالجنين. يموت الملك فتقوم الزوجة الأولى «ساموما» بتنصيب ابنها «دانكاران تومان» ملكاً على البلاد ضاربة عرض الحائط بوصية الملك المبنية على النبوءة التي تقضي بتولي «سونجاتا» الحكم.

يعود كل من البطلين، سونجاتا وأبو زيد، إلى مسقطي رأسيهما في كل من بلاد الماندينج وأرض نجد، ثم يخوضان معركة المصير ضد الأعداء سواء بلاد السوسو أو قبائل بني عقيل لاستعادة العزة المفقودة إلى موطنيهما بعد ما لحق ببلادهما من إخضاع وإذلال في غيابهما. يتمكن البطلان من تحقيق أهدافهما، فسونجاتا يقتل الملك سوماؤور في معركة كيرينا 1235 بعد سلسلة من المعارك وخلال سنوات قليلة يصبح سونجاتا على رأس شعب الماندينج.

ويرصد المؤلف عدداً من العادات والمعتقدات الشعبية المشتركة بين الملحمة والسيرة مثل «الطائر الأسود» الذي يعد بمثابة بشارة بالنصر في العملين. وهناك «بِركة المياه» التي تعد مصدراً لتحقيق الأمنيات في السيرة ونبعاً للقوة في الملحمة. وكذلك احتفالية إطلاق اسم المولود، لكنها تتم في اليوم السابع في السيرة الهلالية أو ما يسمى «السبوع»، بينما تتم في اليوم الثامن في ملحمة سونجاتا.


دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي
TT

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

دانييل دينيت... التفكير مهنة حياتي

ليست معرفتي بالفيلسوف دانييل دينيت Daniel Dennett بعيدة؛ إذ لا أحسبها تزيد على 10 سنوات، والغريب أنّ هذه المعرفة لم تأتِ من بوّابة القراءات الفلسفية التقليدية، بل عبر بوابة البحث في الخلفيات الفلسفية لموضوعة الوعي Consciousness ومتفرّعاته الكثيرة التي يشكّل الذكاء الاصطناعي أهمّ مَعْلَمٍ معرفي وعملي لها. أستطيعُ القول إنّ معرفتي بالفيلسوف دينيت وثلّة من رفقاء مماثلين له في نمط التفكير الفلسفي (من أمثال تشارلس تايلور وديفيد دويتش...) هي التي جعلتني أعتقد برسوخ أنّ الفلسفة في عصرنا الحالي لا يمكن وُلوجها بطريقة عملية منتجة إلّا من بوّابة العلم (الذكاء الاصطناعي والفيزياء والعلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي خاصة)، وبغير هذا سنبقى ندور في أفلاك التقليد غير المنتج.

أحب عادة عند التفكّر في أيّ موضوع حيوي ذي أهمية راهنة (مثل الذكاء الاصطناعي) التفكير في 3 أركان له؛ سياقه التاريخي، وخلفيته الفلسفية، والسير الذاتية لآبائه المؤسسين. فيما يخصُّ دانييل دينيت قرأت قبل بضع سنوات مادة مطوّلة لسيرة ذاتية مختصرة له، نشرها في 3 أجزاء من المجلة المرموقة «Philosophy Now»، وفيها ذكر جوانب عن ولادته وعمل أبيه في بيروت خلال الحرب العالمية الثانية. لم تكن قراءة هذه السيرة الذاتية المختصرة عملاً يسيراً، لأنّ دينيت يميل للمداخلة بين الشخصي والعام، وبين المثابات الفكرية العالية والمعيش اليومي؛ لكنّي أيقنتُ أنّ الرجل لا بدّ أن ينشر سيرة ذاتية مطوّلة له في يوم ما (هو يحبّ المطوّلات في كلّ أعماله ولا يكتفي بنتف موجزة)، وقد فعل الرجل ونُشِرَت هذه السيرة مؤخراً (يوم 3 أكتوبر - تشرين الأوّل) تحت عنوان «حياةٌ عشتها في التفكير I've Been Thinking». السيرة هذه ضخمة (464 صفحة)، ونشرتها دار نشر نورتون العالمية.

***

دانييل دينيت فيلسوف وكاتب وعالِم إدراكي أميركي ولِد عام 1942 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأميركية، وتركّز أبحاثه على فلسفة العقل وفلسفة العلم والفلسفة البيولوجية بقدر ما ترتبط هذه المباحث المعرفية بالبيولوجيا التطورية والعلوم الإدراكية. يوصَفُ دينيت في العادة بأنه واحد من جماعة «الأحصنة الأربعة» التي تضمه مع كل من؛ ريتشارد دوكنز، سام هاريس، كريستوفر هيتشنز.

قضى دينيت شطراً من طفولته في بيروت - لبنان، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان أبوه يعمل عميلاً للاستخبارات المضادة في مكتب الخدمات الاستراتيجية، تحت غطاء الملحق الثقافي في السفارة الأميركية بلبنان، وعندما بلغ دينيت الخامسة من عمره رجعت به أمه عائدة إلى الولايات المتحدة بعد أن قضى أبوه في حادثة تحطم طائرة مجهول الأسباب، وقد كتب لاحقاً أنّ المرة الأولى التي تعرّف فيها على مفهوم الفلسفة حصل عندما انضم إلى معسكر صيفي وهو بعمر الحادية عشرة؛ إذ قال له المسؤول الأعلى عن المعسكر: «أتعلم ما أنت، دانييل؟ أنت فيلسوف!!».

حصل دينيت على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة هارفارد عام 1963 حيث درّسه هناك دبليو. في. كواين W. V. Quine، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة أكسفورد تحت إشراف غلبرت رايل Gilbert Ryle. يصف دينيت نفسه بأنه شخص يميل للتعلم الذاتي autodidact، أو بشكل أكثر دقة يرى في نفسه المستفيد الأعظم من مئات الساعات التي قضاها في الحوارات والدراسات غير الشكلية التي انكبّ عليها في مختلف الفروع المعرفية، على يد أمهر العلماء وألمعهم، الأمر الذي راق له كثيراً وأفعم روحه بالبهجة والمتعة معاً.

حصل دينيت على كثير من الجوائز، كما ألف كثيراً من الكتب، أذكر منها...

«العواصف العقلية... مقالات فلسفية في العقل والسيكولوجيا» 1981، و«فكرة داروين الخطيرة... التطوّر ومعاني الحياة» 1996، و«أحلام لذيذة... معضلات فلسفية أمام علمٍ للوعي» 2005، و«من البكتيريا إلى باخ والعودة ثانية... تطور العقول» 2017.

أظنُّ أنّ أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية.

***

اختار دينيت أن يكتب سيرته في 4 أجزاء. يبدأ دينيت كتابه بمقدّمة تمهيدية ذات عنوان مثير «دان المحظوظ»، ثمّ ينطلق في الجزء الأول للحديث عن طفولته، وتأثير الموسيقى في نشأته، وانضمامه لجماعة ويسليان ومن ثمّ هارفارد بين عامي 1959 – 1963، ثمّ دخوله أكسفورد بين عامي 1963 – 1965، ثمّ اكتشافه طريقته الخاصة لكي يصير المرء فيلسوفاً. في الجزء الثاني من الكتاب يفردُ فصولاً مستقلة لكلّ من عمله في جامعة كاليفورنيا (1965 – 1971)، وسنة قضاها في هارفارد عرف خلالها الفيلسوف جيري فودور، ثمّ يتحدث عن السياسة في أجواء جامعة تافتس Tufts، ثمّ انخراطه في الدراسات السلوكية وعلوم الدماغ. الجزء الثالث من الكتاب أفرده دينيت للحديث عن الخلفيات التاريخية والفكرية التي دفعته لنشر كتبه الكثيرة. الكتب الرصينة ليست منتجات تأتي عفو الخاطر، بل بعد مساءلات وتفكّر، وخاصة في الموضوعات الكبرى (مثل طبيعة الوعي وتفكير الآلة وثنائية العقل – الجسد)، وسيكون من المثير دوماً أن نستمع إلى الكاتب – الفيلسوف وهو يشرح لنا تضاريس الخريطة الفكرية التي دفعته إلى كتابة كتبه. أما الجزء الرابع من السيرة الذاتية فقد خصّصها دينيت للحديث عن المعارك الأكاديمية التي خاضها، وفي مقدّمتها مساجلته الشهيرة مع الفيلسوف ريتشارد رورتي بشأن تاريخ الفلسفة.

أعمال دينيت متطلبة عسيرة على القراءة، وهي نخبوية بامتياز ولا يمكن أن تكون قراءة سياحية عابرة، وربما هذا ما يفسّرُ سبب قلّة ترجماته إلى العربية

كما قلت، دينيت فيلسوف متطلّب وقراءته ليست يسيرة حتى لو كانت سيرة ذاتية، لكنّ كلّ من له ذائقة فلسفية وبعض المعرفة الأولية بمباحث الذكاء الاصطناعي ونظرية المعرفة وعلم النفس الإدراكي سيجد لذّة كبرى في قراءة هذه السيرة، وسيخرج منها بحقيقتين شاخصتين...

الأولى؛ يرى دينيت في الفلسفة وسيلة للكشف عن حقيقة التماثلات بين كل الحقول المعرفية. تلك التماثلات التي قد تستعصي رؤيتها بوضوح كافٍ على المشتغلين في كل حقل معرفي على حدة. ذلك واحد فحسب من بين أدوارها الكثيرة. الحياة قصيرة ومعقدة للغاية، وليس بإمكان الناس فعل كل ما يشتهون، وأحدُ أهم الأشياء التي يعانون في الوفاء بها هو رؤية الكيفية التي يتناغم فيها حقل اختصاصهم مع الصورة المعرفية الشاملة. ثمة دوماً إشكاليات في السطح البيني بين الاختصاص الضيق والصورة الشاملة. إن واحداً من أنبل أهداف الفلاسفة هو إنجاز هذا الأمر بطريقة أكفأ وأفضل مما يفعله الآخرون، وهذا ليس بالدور الأوحد للفلاسفة، غير أنه الدور الذي يتعامل معه دينيت بأكبر قدر ممكن من الجدية والتكريس الواجب.

الثانية؛ يعتقد دينيت أن نطاق الفلسفة ينبغي أن يعمل على الأسئلة الأساسية الجوهرية للغاية التي لم تنضم بعد إلى حقل معرفي محدد؛ إذ إنك في اللحظة التي تمتلك فيها رؤية واضحة بشأن تلك الأسئلة الجوهرية، وقيمة ما قد يرقى ليكون جواباً مناسباً لها، تكون حينئذ غادرتَ عالم التفكّر الفلسفي وولجتَ مملكة العلم العتيدة.

ويوجز دينيت رؤيته الفلسفية بهذه العبارات المثيرة التي تصلح خاتمة مناسبة لسيرته الذاتية (الفكرية):

«إن الشيء الوحيد الذي أراه مستوجباً للنظر والتفكير بشأن طريقتي الخاصة في تناول الموضوعات الفلسفية هو رغبتي في إظهار كم هي عزيزة وثمينة تلك الكينونات التي تقع في الجانب المقابل لِطَيْفِ المادية الخشنة (وأعني بتلك الكينونات أشياء مثل؛ العقول، الذوات، الرغبات... إلخ)، وكم أنّ مكانة تلك الكينونات لم تخفت في العالم المادي.

إن ما أفعله في مشاكساتي الفلسفية ليس سوى القول؛ حسناً، دعونا نتخذ سبيل التفكير الفلسفي الجاد، وحينها فإننا بدلاً من بلوغ تخوم المملكة الديكارتية التي تضمّ العقول إلى جانب الأرواح في مملكتها السرمدية فإننا يمكن أن نعيد وضع العقل في مكانته الخليقة به في العالم الذي نعيشه، وإن مسعاي هذا ليس سوى طريقة محددة في النظر إلى كينونات مادية محددة، وأظن أن طريقة النظر هذه تمتلك فعلاً مُوحّداً عظيم الشأن».


حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»
TT

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

حفريات ثقافية في التراث العربي عن «الطعام والكلام»

صدر، أخيرا، للباحث والأكاديمي المغربي سعيد العوادي، عن دار النشر (أفريقيا الشرق)، بالدار البيضاء، كتاب جديد تحت عنوان «الطعام والكلام... حفريات بلاغية ثقافية في التراث العربي».

ويقول المؤلف إن مقاربته للموضوع أفضت إلى تقديمه للقارئ في أربعة أطباق «لعلها تفتح شهيّته وتستحثّ إقباله»، وهي «حقل الطعام: بين ضيافة الدنيا وضيافة الآخرة»، و«جسور الطعام: من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ»، و«شعرية الطعام: القِرى والمأكول والمشروب»، و«نثرية الطعام: الموهوب والمنهوب والمرهوب».

وتناول العوادي في الطبق الأول وجبة اصطلح عليها بـ«حقل الطعام»، متنقلا من ضيافة الدنيا إلى ضيافة الآخرة. وللكشف عن مميزات ضيافة الدنيا اعتمد المرجع المعجمي للوقوف على دلالات فعلين مركزيين في ممارستي الأكل والشرب، هما: أَكَلَ وشَرِب. ثم مضى يرصد رحلة الطعام، ومرافقته للإنسان في حياته وموته مؤثثا للطفرات النوعية في مسيرته، وصولا إلى الحديث عن تقابلات الطعام داخل الحياة الاجتماعية والثقافية العربية، على اعتبار أن «الطعام لبنة أساس داخل المعمار الحضاري العربي»، فرأى «انسلاكه في التعبير عن المحاسن والمساوئ التي تعاقد عليها المجتمع، وتحوّله إلى أداة للتعبير عن قناعة فكرية»، فاكتشف أن «تراثنا سبّاق إلى الاحتجاج بما يسمى الإضراب عن الطعام»، كما التمس الخصوم المحاصرون في مشاركة الطعام شكلا من رابطة النحو ومنجاة من الأذى المفترض. بل وُظّف الطعام آلية هوياتية دفاعية وهجومية تحاجج لنصرة الذات الفردية والجماعية في معترك الصراع الداخلي مع ذوات شبيهة أخرى، فلاحظنا اعتماد الأفراد والقبائل على سلاح «المعايرة بالطعام» لتشويه سمعة شخصيات دينية وسياسية أو قبائل مناوئة. وكذلك انخرط الطعام في معترك الصراع الخارجي مع أمم مخالفة أخرى، فرأينا استناد الحركتين الشعوبية والعروبية إليه في صراعهما المعروف. أما فيما يتعلق بضيافة الآخرة، فقد تناول الحضور الطعامي في القرآن الكريم والحديث الشريف، متجاوزا البحث في ثنائية الحلال والحرام ذات البعد الفقهي التي انحصرت فيها قراءة القدماء والمحدثين، إلى اقتحام آفاق جديدة أخرى، مستهديا بالمقاربة البلاغية، التي جعلته يلتفت إلى الإعجاز الطعامي بوصفه وجها مبعدا من وجوه الإعجاز القرآني.

وقدّم العوادي، في الطبق الثاني، وجبة وسمها بـ«جسور الطعام»، عمل فيها على الانتقال من الطعام البلاغي إلى الطعام البليغ، فعالج في نقطة الانطلاق قضية بالغة الأهمية لدى المعنيين بالطعام من جهة، والبلاغة من جهة أخرى؛ حيث بحث عن آثار الطعام في النظرية البلاغية في مستوييها المصطلحي والشاهدي، وكشف القناع عن «المرجعية الطعامية في مصطلح البلاغة»، فوجد «صلات غائرة تربط مصطلح البلاغة بالتبلغ الأكلي، ومصطلح الفصاحة باللبن الصافي، ومصطلح الاستعارة باستعارة الأواني المطبخية، ومصطلح الذوق بتذوّق المآكل والمشارب. أما في الطبق الثالث، فتطرق للطعام بوصفه مادة شعرية»، اعتنى بها الشعراء، فقسّم الموضوع على ثلاثة أقسام، بسط فيها القول في تيمة قرى الأضياف عند الشعراء، فألفاها تتأسس على «تجاذب» عناصر مساعدة (اليفاع، والكلب، والنار، والناقة) وعناصر معيقة (الليل، والقر، والزوجة)، وبدا له أن «خطاب المرأة الداعي إلى الوسطية وحسن التدبير أكثر تعقّلا من خطاب الرجل الداعي إلى إفناء المال وسوء التبذير». كما درس نصوصا مختلفة لشعراء تفنّنوا في صفة الأطعمة والأشربة، ووقف عند ريادة ابن الرومي والمأموني في هذا الباب الشعري اللطيف، ثم تابع المسير صوب شعر الشراب، لبيان علاقة هذا الخطاب باختراق السلط المختلفة. وتوسع على مستوى الطبق الرابع، في تجلية «تشكّلات الطعام» داخل نصوص الأخبار والخطب والرسائل والمناظرات والمقامات من خلال التركيز على الثالوث الطعامي: الكريم، والطفيلي، والبخيل، المنتج لضروب ثلاثة من الطعام هي على التوالي: الطعام الموهوب، والطعام المنهوب، والطعام المرهوب.

وقد تتبع الطعام الأول في النثر الفني، والنثر الإرشادي (كتاب «آداب المؤاكلة» للغزي)، والنثر العلمي (كتب الطبيخ). وعرض للطعام الثاني من خلال «استجماع فلسفة التطفيل، ورصد محكي التطفيل بالبحث في بنيته السردية ومغالطاته الحجاجية والتناصية»، فبدا له أن «التطفيل رؤية طعامية للعالم» تهدم عالم الكرم وتبني عالما بديلا.

وانتهى مسيره عند «الطعام المرهوب» مع البخلاء الذين حاولوا، على غرار الطفيليين: «هدم مفهوم الكرم الهشّ، وبناء مفهوم مغالطي يدعو إلى الاقتصاد والإصلاح». ثم حاول «تجميع عناصر متفرقة لتشكيل صورة طعام البخيل، وما يسيّجه به من حيل متنوعة لصيانته عن الأكَلة المتلصّصين».

في «تحلية» كتابه، يخبرنا العوادي أن «الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة، بغاية تقديمها إلى قارئ نهم متلهّف باستمرار إلى كل ما لذَّ وطاب». وهكذا، و«اندماجا مع هذه التعليمة»، يضيف العوادي: «جمعنا مكونات معرفية كثيرة من حقل التراث العربي الواسع والمتداخل، ثم عملنا على طبخها على نار هادئة لتصير مأدبة علمية مفيدة، ثم قدَّمناها إلى القارئ الكريم في أربعة أطباق رئيسية، مسبوقة بمُفَتِّحة، ومختومة بتحلية»، ليخلص إلى النتائج العامة للأطباق الأربعة التي انتظمت ضمن وليمة اصطلح عليها بـ«الطعام والكلام»؛ لكون «هذا الكتاب ظل معنيا بإبراز العلاقة بين الطعام والكلام وفق منظور بلاغي ثقافي منفتح على مقاربات نسقية وسياقية؛ حيث لم يبتعد الكتاب قيد أنملة عن أثر الطعام في الكلام، بما يمدّه من تعبيرات مجازية ورمزية تبني جسورا من التفاعل مع محيطنا الواسع، وعن أثر الكلام في الطعام حين يصبح حاملا له ومعبّرا عنه كما في حالة الطعام التراثي الذي أوصلته لنا موائد اللغة».

في «مُفتِّحة» الكتاب، يهيئ العوادي قارئه لثنائية «الطعام والكلام» في عنوان كتابه، بداية بحمد الله الذي «أفاض علينا بألوان الشراب وصنوف المأكولات، وميّزنا باستعمال الكلام وابتداع الاستعارات، ومنحنا عقلا وذوقا يمزج المفردات بالطيبات، فنجمّل أطباقنا ببديع المشتهيات، ونزيّن كلامنا بلذيذ العبارات»، مع «الصلاة والسلام على أشرف المخلوقات، الناطق بمستحلى اللغات، صاحب المكرمات، والمبشر بالجنات»، مع إشارته إلى أن التداعي الأول الناتج عن قراءة مفردتي «الطعام» و«الكلام» في عنوان الكتاب قد يكون من أن «العلاقة بينهما لا تعدو أن تكون علاقة صوتية بديعية»، فيما «الواقع أن بينهما من الصلات المتوثقة ما يتجاوز الصوت إلى المعنى اللغوي والدلالة الحضارية؛ فليس من التوافق الساذج أن تلتقي اللفظة واللقمة في فم الإنسان، فتلفظ الأولى إلى الخارج، وتلقم الثانية لتستقر في الداخل. إنها علاقة خلافية يحيا بها الكائن الإنساني، فالطعام حصنه المادي ضد الجوع والمرض، والكلام حصنه المعنوي ضد الوحدة والخواء».

وعندما يلتقي الطعام بالكلام، يتحقق الدفء الإنساني بمعانيه المختلفة في الحضارات البشرية المتعددة؛ لأن الطعام ليس مادة قصاراها أن تهضم، ولكنها مادة تسعى إلى أن تتكلّم، كما لا ينحصر دورها في بناء الذات، وإنما يمتد إلى بناء الحياة.

الكتابة محض عملية طبخ تامة ومتكاملة لمواد معرفية منتقاة، يستعمل فيها الكاتب الطاهي بهارات لغوية ومنهجية بخبرات مخصوصة

ولخص الأكاديمي والباحث والناقد محمد زهير، في تصديره للكتاب، لقيمة العمل الذي يقترحه العوادي، بقوله إن الكتب ذات القيمة تقرأ لفائدتها، وإنها إذا ضمّت إلى الفائدة الإمتاع فتلك «غاية قصوى للحظوة بمأدبتها أو مآدبها»، مع إشارته إلى أن كتاب العوادي «من هذا الصنف الجامعة مآدبه بين واسع الفائدة وروقان المتعة، باستقصائه المستفيض من وفير الكلام عن الطعام مأكوله ومشروبه في التراث العربي، سواء من جهة إضفاءات اللغة على الطعام أسماء ووسوما وصفات وتكنيات... أو من جهة ما قيل أو دوِّن عن الطعام مختصّا به أو مستعارا منه، لإنفاذ رأي وإرسال وجهة نظر... أو من جهة ما روي أو كتب عن سلوكات وأقوال مَن كانت علاقتهم بالطعام في حالات البذل أو التقتير أو الشره متخذة نمط حياة خارج المعتاد لدى العموم، ولا تخلو أحيانا من طرافة أو عجب واستغراب... فمدارات هذه الجهات على العلاقة بين الطعام والكلام، وهي علاقة تراسلات وتطعيمات واسعة شاسعة، لما لمقوم الطعام من ضرورة الحياة، ولما لفعل الكلام من ارتباط حميم بكل مجالاتها». وأن يهتم الكلام في مجال البلاغة ورحاب الثقافة كل ذلك الاهتمام الواسع بالطعام، يضيف زهير: فـ«لأن الطعام هو الدم الساري في شرايين الحياة والأساس المادي لشرط قيامها»، و«أن يرتقي الكلام في مقامات البلاغة بالخطاب عن الطعام مجردا منه صورا ومعاني تعبر عن أحوال وأهداف واختيارات، فذلك إن دلَّ على أساسية الطعام وضرورته في الحياة، فإنه من وجه ملازم يدل على أن الإنسان لا يحيا بالطعام وحده، إذ مجرى الحياة ومعناها مستدعيان لشبكة تقاطعات مادية ورمزية بها يتحرك المجرى وينبني المعنى»، مع إشارته إلى أن في كتاب العوادي «ألوانا وصنوفا عديدة من موائد الكلام المعدّة استنادا إلى موائد ومِنح الطعام، ترمي من خلالها ليس فقط العلاقة العضوية بينهما، بل وإلى ذلك تدخّل الذهن والخيال والذوق في تصنيع مأدبتي الطعام والكلام المراوحتين في مناسيب البساطة والرفاه وفق مصدر كل منهما».


«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي
TT

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

«ما رأت زينة وما لم تر» في بضع ساعات في ذلك اليوم المأساوي

إذا كان الشعر والفن التشكيلي، قد شُغلا بانفجار مرفأ بيروت، الشهير وما تأتّى عنه من انكسارات، ونسف لملامح ثلث العاصمة بيروت، حصلت في غضون لحظات، فإن الرواية بقيت بعيدة عن تناول مآسي الناس، خلال هذه الكارثة وبعدها.

لا غرابة بعد مرور ثلاث سنوات ونيف على الانفجار الكارثي، أن يكون الروائي رشيد الضعيف هو الذي يتناول الموضوع. فهو محب لتأمل التفاصيل، وإعادة كتابة الأحداث العادية جداً، من خلال مجهره الخاص، وبأسلوبه الذي يجمع بين البساطة والطرافة والسخرية أحياناً.

غير أن الانفجار المشؤوم ليس حدثاً يومياً معتاداً، فهو استثناء حتى بين الانفجارات، وفي قدرته التدميرية، وظروفه السياسية. كل هذا لا يعني الروائي في كتابه الجديد «ما رأت زينة وما لم تر» الصادر عن «دار الساقي»، إنما هو رصد تفاصيل بضع ساعات، من حياة زينة التي تعمل في الخدمة المنزلية منذ ربع قرن، لزوجين يعاملانها بلطف ولياقة، ومن الجانب الآخر هناك ابنتها وأختها اللتان تعيش معهما في بيت واحد. بين منزل مخدوميها الأستاذ فيصل وزوجته الست سوسن، اللذين يقطنان في أحد أبراج منطقة الأشرفية، ومنزلها الذي تعيش فيها مع أختها ماري وابنتها بشرى، تمرّ زينة بمار مخايل الشارع المحاذي للمرفأ وهو الذي سيصيبه النصيب الأكبر من الدمار.

إذا كان رشيد الضعيف يحب وصف التفاصيل فهو هذه المرة يبني كل فكرة روايته على الإمعان في الوصف، بحيث يحوّل سرده إلى ما يشبه التوثيق ليوميات بيروتية، في اليوم الذي وقع فيه الانفجار، ومن ثم التحولات التي طرات على حياة الناس بعد هذا الحدث الضخم.

حين تقرأ في مطلع الرواية «الساعة الآن نحو الرابعة بعد الظهر في بيروت... زينة الخمسينية من العمر، في ثياب الخدمة تسقي الزرع على البلكون المطلّ على منظر بانورامي هائل: المرفأ في الوسط، ما بين الجهتين الجنوبية والشمالية من بيروت وضواحيها». سرعان ما يخطر لك، أن زينة ستطل بعد بعض الوقت من الشرفة للمرة الثانية، ليودي بها الانفجار، كما قرأنا عن مصيرين كثيرين في ذاك اليوم المأساوي.

لكننا سرعان ما نكتشف أن الأديب خصص نصف روايته هذه لوصف ما قبل الحدث، وما كان عليه حال الناس في معاشهم، قبل أن يتعرضوا لزلزال إجرامي ينسف ما تبقى من حياتهم.

زينة مع مخدومتها تتحدثان عن الانهيار الاقتصادي، عن فقدان الليرة قيمتها الشرائية، وصعوبة معرفة ما يحتاج إليه الإنسان من أوراق نقدية وهو يخرج من منزله، ليشتري احتياجاته.

وجود الشقة مقابل المرفأ يساعد على وصف المشهد البحري لبيروت الذي سينقلب كلياً بعد ذلك.

وكما يبتكر كل روائي حججه السردية، كي يأخذ النص بالاتجاه الذي يناسبه، فها هو الضعيف يجعل بطلته زينة بعد أن تركب سيارتها الـ«كيا» تعلق في زحمة سير، في شارع مار مخايل الضيق؛ مما سيتيح لها أن تتأمل ما يدور في المحال الصغيرة والمقاهي، وتسمع بعض الأحاديث، والهموم، والمناوشات بين الناس، ليرينا بعد ما يقرب من ساعة أن ما كان حياة وشباباً ودلالاً تحول جحيماً وقد أحرقت النيران، ما تبقى من أعمار، بعد أن قضمت الأزمة الاقتصادية الأرواح.

يحاول رشيد الضعيف أن يوفر العناصر كافة التي ترسم الصورة الكاملة للمأساة اللبنانية. زينة ما كانت لتعمل خادمة في منزل لولا اضطرار زوجها إلى السفر شاباً، وكانت حبلى بابنتها بشرى، لتغرق السفينة وهو على متنها ولا يُعثَر على جثته. «لو أنه لم يغرق في البحر، لكنا اليوم معاً في أميركا. كل يوم في هذه الأزمة التي نعاني منها أحلم بأن زوجي وصل بسلام، وشرع بالعمل، واستدعاني وبدأنا حياة جديدة».

هكذا المحنة لم تبدأ يوم 4 أغسطس (آب)، التراجيديا اللبنانية، تتوارثها الأجيال. ظروف تتوالى، وتتكرر، تدفع إلى الهجرة، تشتت العائلات، ويدفع ثمنها البعض من أرواحهم، كما هي حال زوج زينة. لكنه ليس وحده، مخدومتها أيضاً التي كبرت في السن، تعيش مع زوجها وحيدة، بعد أن هاجر ابنهما جاد إلى سان فرنسيسكو. وسنرى بعد ذلك، وعقب الانفجار، الابن الذي لا يستطيع أن يبحث عن والديه تحت الردم، بسبب بعد المسافة، ولا يعرف كيف يجدهما عبر التلفون.

من يهاجر من الشباب مشكلة، ومن يبقى، مثل بشرى، ابنة زينة مشكلة أكبر. هي في التاسعة عشرة من عمرها توقفت عن الذهاب إلى الجامعة، وبدأت البحث عن عمل، لكن بالطبع العثور على فرصة ليس بالأمر السهل، خاصة لهذه الصبية التي تصرف نهارها في متابعة المسلسلات أمام جهاز التلفزيون. في حين لم تعد والدتها قادرة على إعالة ثلاثة أشخاص في وقت واحد.

الرواية صغيرة، وهي لا تريد سوى تصوير ساعات قليلة فاصلة، من تاريخ بيروت عصر الرابع من أغسطس عام 2020. الزمن مقسّم إلى اثنين، قبل الحدث وبعده. أما الشخصية الرئيسية فهي زينة، والتركيز في الوصف على الشباب من خلال الابنة بشرى، لكن كل الأعمار، رغم قلة الأشخاص الذين نلتقيهم، ممثلون في هذه الصفحات. من بشرى التي تربطها علاقة متوترة بوالدتها، إلى الأخت ماري الستينية إلى الست سوسن وزجها الأكبر سناً.

مجموعة بشرية، من أعمار متباينة، بينها الشاب والكهل، الحي والميت والذي ينتقل إلى العالم الآخر، جميعهم يواجهون قدراً يتجاوزهم، بما بقي لهم من مقومات.

في رحلة الذهاب إلى بيتها، وقد أجبرتها زحمة السير بسيارتها على التوقف في شارع ما مخايل: «أول ما لفت انتباهها، هو أن نسبة الأعمار الشابة تزداد بين الناس». تتأمل أحوال المارة وأصحاب المقاهي والمطاعم، وتسرق اهتمامها أعمال «ترميم واجهة مبنى هي أمامه الآن، فهم يتقدمون بسرعة. لم يمض على بداية الورشة هذه شهر بعد، ولا شك أن شهراً آخر سيكون كافياً لإنجاز العمل».

زينة ليست على ما يرام من الصباح، ثمة نذر شؤم تتوالى، فقد كسرت فنجان شاي في مكان عملها، وها هي بسبب سهيانها واستغراقها في تأمل الشارع تصطدم بالسيارة التي أمامها، لينكسر الشرّ، كما قالت لها الست سوسن، لكن زينة بقيت متشائمة، تحاول أن تجد موقفاً لسياراتها دون جدوى. هذه المهمة المستحيلة التي تصطدم بها كل يوم، لتذهب إلى منزلها.

ليست رواية بقدر ما هي توثيق لا مكان للمفاجأة فيه... لأنها حصلت بحجم زلزال ضخم ويعرفها الجميع. يبقى السؤال: لماذا أراد رشيد الضعيف أن يكتب روايته على هذا النحو؟

تدخلنا الرواية في الأجواء العامة التي أحاطت بالحدث، الانهيار، والمعاناة المعيشية، أزمة المودِعين مع البنوك بعد أن مُنع السحب إلا بالقطارة، مشكلة الكهرباء التي تعاني منها زينة وأهل بيتها، صعوبة الحصول على الماء الساخن وبشرى ابنة زينة، مصابة بما يشبه وسواس النظافة؛ مما يزيد الأمر صعوبة على أهل الدار، مشكلة الإيجارات ومعاناة المالكين، بعد أن فقدت الليرة قيمتها.

عند منتصف الرواية تماماً، وقد عرض الكاتب لحال الناس يحدث الانفجار في لحظة مأساوية، حيث تكون الجارة قد أخرجت طفلها لتحممه على الشرفة، وزينة تتبادل معها الحديث.

يدخل الروائي في ما يشبه التحدي لجعل اللغة قادرة على مجاراة هول المشهد، وفظاعة الأحداث. عناية فائقة في الوصف، بل قل إن الرواية كلها كتبت ليصل الروائي إلى هذه اللحظة التي يصبح فيها الكلام أعجز من أن يصف الأهوال. مشهد الطفل الذي سقط لوح الزجاج عليه وفلقه فلقتين. «وبات الرأس بين يدي أمه، والجسد منفصلاً عنه، وماء الاستحمام تحول أحمر دماً» وبما أن الأم لم تستوعب ما حدث، انتفضت دون أن تفهم أو ترى، فقط نفضت عنها شيئاً يبدو أنه رأس طفلها الذي «هوى فوق المدينة ولم تستطع تحديد المكان الذي استقر فيه، بعد أن تدحرج. زينة بقيت معلقة تحت الباب. «ولأن زينة استقرت تحت الباب مغمياً عليها، لم تر الحائط ينهار على رسام الغرافيتي ويقتله». كما لم تر زينة «كيف شقت دفوف الزجاج الساقطة من أعالي البنايات رؤوس الناس وأجسادهم».

مار مخايل الذي رأته زينة قبل قليل بوداعته وفرحه ونبضه الشابي، يصبح غارقاً بالدماء والجثث. وهذا ما لم تره، لكن الكاتب يصفه لنا نيابةً عنها. «مبنى بكامله يتهاوى على العمال الذين يرممون واجهته، ويطمرهم جميعاً، فلا يعود يبين منهم شيء، واختفوا من الوجود، كأنهم لم يكونوا. هكذا هي أيضاً، المستشفى والممرضة التي كانت قد مرّت بها، والمقاهي والعابرون الأبرياء. كل هؤلاء لم تر زينة ما آل إليه حالهم، لكنها عندما انتشلت، كان عليها أن تهرع بسبب اتصال ابن مخدومتها من أميركا لتذهب وسط الأشلاء والدمار، وتقوم برحلة عذاب مأساوية لتصل إلى البيت الذي عرفته وعملت فيه طوال ربع قرن، لترى ما حلّ بالست سوسن والأستاذ فيصل.

ليست رواية، بقدر ما هي توثيق، لا مكان للمفاجأة فيه؛ لأنها حصلت بحجم زلزال ضخم ويعرفها الجميع. يبقى السؤال، لماذا أراد رشيد الضعيف أن يكتب روايته على هذا النحو؟ وكأنه يعيد رسم الحكاية روائياً، لمن يريد أن يقرأ أو يعتبر.


معرض الشارقة للكتاب ينطلق وسط مشاركة 1.5 مليون عنوان

الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة خلال إلقاء كلمته في افتتاح معرض الكتاب (وام)
الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة خلال إلقاء كلمته في افتتاح معرض الكتاب (وام)
TT

معرض الشارقة للكتاب ينطلق وسط مشاركة 1.5 مليون عنوان

الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة خلال إلقاء كلمته في افتتاح معرض الكتاب (وام)
الشيخ الدكتور سلطان القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة خلال إلقاء كلمته في افتتاح معرض الكتاب (وام)

انطلقت، اليوم، فعاليات الدورة الـ42 من معرض الشارقة الدولي للكتاب، الذي يقام تحت شعار «نتحدث كتباً»، وذلك بمشاركة أكثر من 2033 ناشراً من 109 دول، منها 1043 دار نشر عربية، و990 دار نشر أجنبية، تعرض أكثر من 1.5 مليون عنوان. ودشّن الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، المعرض الذي يقام حتى الثاني عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.

اللغة العربية

وأكد حاكم الشارقة، خلال كلمة ألقاها في حفل افتتاح المعرض، أن اللغة العربية هي اللغة الأصل لكل لغات العالم، مشيراً إلى وجود بعض الأمور غير الصحيحة تاريخياً في دراسة اللغات واللسانيات في العالم، التي يجب أن يتم تصحيحها، وهو ما سيشتمل عليه «قاموس لغات العالم» الذي سيصدر لاحقاً، وذلك ضمن جهوده وبحوثه العلمية في تاريخ اللغة العربية لحمايتها ونشرها، متناولاً أهمية المعجم التاريخي للغة العربية. وتحدث الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، عن أبرز ما جاء في المعجم التاريخي للغة العربية، وقال: «أُطلق عليه اسم (المعجم التاريخي للغة العربية)، ويعرض تاريخ هذه اللغة منذ بداياتها؛ حيث تمرّ بك الأحداث والوصف في كل شيء، في الشعر والأدب وغيرهما... وهذا المعجم لا يكشف فقط عن الكلمة ومعناها وإنما يقدم وصفاً شاملاً».

المعجم التاريخي

ولفت إلى الجهد الكبير الذي يُبذل لتنفيذ المعجم التاريخي، مستعرضاً مقارنة حول القاموس اللغوي لمملكة السويد الذي عمل عليه 137 شخصاً لمدة 140 سنة، وكان نتاجه 39 مجلداً و33 ألف صفحة، بينما المعجم التاريخي للغة العربية يعمل عليه 500 من العلماء والمدققين والمحررين وعلى مدى 6 سنوات سينهون 110 مجلدات وعدد صفحاته 81 ألف صفحة. وأشار حاكم الشارقة إلى أنه يعمل في الوقت الحالي على مشروع جديد يستفيد منه العالم أجمع، وقال: «أنا الآن أقوم على قاموس جديد اسمه (لغة العالم)، وهي كلها مصدرها واحد، ونعطي اسماً لهذه اللغة التي وضعناها في 110 مجلدات ونقول من أين أتت هذه التسمية لها؟ قيل إن هذه اللغات متشابهة، منها الحبشية والبابلية والعبرية، ولو أخذنا هذه اللغات وقارناها نجد أن الكلمات مشتركة، وأن الفعل هو الأساس في الجملة لأنه مركز الجملة، وقالوا تسميتها اللغات السّامية. من أين أتوا بهذه التسمية؟ فتسميتها الصحيحة لغة آدم»، لافتاً إلى أنه تناول قصة هذه التسمية بشكل كامل في كتابه «تاريخ عمان من الاستيطان البشري»، وداعياً العلماء إلى عدم تداول هذه التسمية.

شخصية العام الثقافية

وكرم حاكم الشارقة، الكاتب والروائي الليبي إبراهيم الكوني، شخصية العام الثقافية في المعرض لهذه الدورة، كما كرّم الفائزين بـ«جائزة الشارقة للترجمة» (ترجمان) في دورتها السابعة، التي تمنحها «هيئة الشارقة للكتاب» للإصدارات المترجمة من اللغة العربية إلى أي لغة أخرى؛ حيث نال جائزة دار النشر سويسرية (يونون فيلسغ Unionsverlag) عن ترجمة رواية «طوق الحمام» للكاتبة السعودية رجاء عالم الصادرة في طبعتها العربية الأولى عن دار النشر المغربية (المركز الثقافي العربي). من جهته، ألقى أحمد العامري، الرئيس التنفيذي لهيئة الشارقة للكتاب، كلمة تناول فيها التطورات والمنجزات التي حققها معرض الشارقة الدولي للكتاب، وقال إن «المعرض يستضيف أكثر من نصف بلدان العالم، من خلال الناشرين والعارضين الذين يمثلون 109 دول عالمية، ما يؤكد أن المعرض انتقل خلال السنوات الماضية من حاضر في المشهد، إلى صانع وقائد يمتلك رؤية ويعرف في أي الاتجاهات يمضي بالثقافة العربية والعالمية».

السعادة

من جانبه، ألقى الكاتب والروائي إبراهيم الكوني كلمة بمناسبة تكريمه بشخصية العام الثقافية، وتحدث الكوني عن أن السعادة لا تعتمد على نوع العمل الذي يقوم به الإنسان، ولكن على مدى إتقانه وحبه للعمل، وأضاف: «لأن الرهان ليس على جنس العمل، ولكن على مدى القدرة على إتقاننا فيه، بحيث يستعير هذا العمل مؤهّلاً رساليّاً، يجعله جديراً بلقب ما نسمّيه (الواجب)». من جانبه، قال يون شون هون، رئيس جمعية الناشرين الكوريين: «اختارت كوريا شعار (خيال بلا حدود) لتعبر عن رسالتها وروحها الثقافية التي تسعى إلى تحويل المستحيل إلى شيء ممكن وإلى عالم من الابتكار والسلام».