اللغة العربية دون «حوسبة» متأخرة 60 سنة عن الإنجليزية

تعيش في القرن الماضي والترجمة الإلكترونية بعيدة المنال

عدنان عيدان
عدنان عيدان
TT

اللغة العربية دون «حوسبة» متأخرة 60 سنة عن الإنجليزية

عدنان عيدان
عدنان عيدان

لماذا لا تزال الترجمة الآلية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى والعكس بالعكس متأخرة، عن كل ما عداها؟ هل هي قواعد النحو التقليدية التي لم تُحدّث؟ أم قلة المهارات التكنولوجية في العالم العربي؟ أم هو بكل بساطة الإهمال واللامبالاة باتجاه قضية باتت عمادًا للوصول إلى المعلومات بلغتنا الأم؟ لماذا بمقدور الفرنسي والأميركي والإسباني أن يضع أي نص بلغته على برنامج الترجمة، الذي تتيحه «غوغل» مثلاً ويحصل بكبسة زر على مقابله التقريبي بلغة أخرى، فيما يبقى العربي عاجزًا عن الوصول إلى نتيجة مقبولة ومفهومة.
المشكلات كثيرة ومتشعبة، لكن المعضلة الأصل هي في أن العرب لم يقوموا لغاية اللحظة بوضع «مدونة للغة العربية» أي جمع مئات آلاف النصوص التي كُتبت باللغة العربية، قديمًا وحديثًا، وفي مختلف المجالات العلمية والأدبية، إلكترونيًا ومن ثم حوسبتها، أي درسها بطريقة علمية حسابية، لاستخلاص النتائج حول قواعدها وأسس استخداماتها، ومعرفة تحولاتها، وتشكل دلالاتها وتبدل صيغها تاريخيًا، والتعامل معها من منظور جديد.
بعد حوسبة اللغة، أي جمع المخزون الهائل من النصوص الذي يعود عمره إلى 1500، نصبح قادرين على وضع بنية تحتية حديثة للغة العربية، وإجراء قراءات إحصائية حسابية وعلمية للكلمات، أو العبارات، وطريقة استخدام فعل ما أو تحولات دلالة ما، وهذا أمر لم يعد صعب الإنجاز، عندها أمور كثيرة تصبح ممكنة، منها معالجة اللغة آليًا، وضع قواميس ومعاجم حديثة، أو إجراء دراسات على الشعر وربما جرد بعض المفردات، ومعرفة الألفاظ الأكثر استخدامًا، واعتبار تعليمها أولوية في المدارس.
حين يصبح احتساب كل كبيرة وصغيرة في مدونتنا اللغوية منذ عرفت العربية النصوص المكتوبة إلى يومنا هذا ممكنًا، وجرد ما نريده بكبسة زر، تتغير حياتنا حتمًا.
الدكتور عدنان عيدان، يقول إنه والدكتور نبيل علي، ربما وحدهما من عملا جديًا في هذا المجال، في محاولة منهما للخروج من المأزق الذي تعاني منه العربية آليًا أولاً وعمليًا في الاستخدامات الحياتية بالنتيجة. «لا ترجمة آلية تقترب من الكمال دون حوسبة للغة، وكذلك لا دراسات آلية متطورة يمكن أن يقوم بها باحثون، بأساليب تختلف عن تلك التقليدية التي ما زالت وحدها تحتل الميدان» يشرح د. عيدان. والرجل عالم تخصص في علم الإحصاء، ومن ثم حصل على الماجستير في علم الاجتماع السياسي، لكن همه اللغوي قاده لتحضير الدكتوراه في لندن في جامعة برونيل في «علم الحاسب الآلي» وتحديدًا في مجال تطبيق علوم الحاسبات ومعالجة اللغة العربية، وكان موضوعه حول «إعراب الجملة العربية حاسوبيًا».
الدكتور عيدان، أحد مؤسسي شركة «آي تي آي» للبرمجيات، ويعمل منذ ربع قرن على الحاسوبيات اللغوية، والترجمة الآلية ومحركات البحث حيث وضع محرك «الهدهد»، يرى أن العمل على حوسبة اللغة الإنجليزية، والترجمة الآلية بهذه اللغة بدأ منذ أكثر من نصف قرن. ويضيف عيدان: «بدأ الأميركيون العمل على الترجمة الآلية منذ الخمسينات، مع اختراع الكومبيوتر وتطوير برامجه لأغراض عسكرية». حاولت وزارة الدفاع الأميركية، ترجمة صحيفة «البرافدا» من الروسية، في إطار الحرب الباردة التي كانت مشتعلة حينها، لكنهم فشلوا. الباحث المعروف ناعوم تشومسكي هو الذي كشف لهم أن الترجمة كما يحاولونها لن تصل بهم إلى نتيجة، وأنهم بحاجة أولاً إلى ترجمة آلية للغة البشرية، وهو ما نطلق عليه اليوم اسم الحوسبة.
فاللفظة الواحدة في لغة ما، قد تعني أشياء متعددة ومختلفة، وهو ما لا تستطيع أن تدركه الآلة، وبالتالي علينا أن ندرس المحددات؛ فكلمة «بوك» بالإنجليزية، قد تعني حجز مقعد، أو كتابا أو إنذارا، تمامًا كما كلمة «كَتَبَ» أو«كُتُب» أو «كُتِبَ» باللغة العربية. كيف لجهاز الكومبيوتر أن يعرف حين تكون لفظة «كتب» غير محركة إن كانت اسمًا أو فعلاً، دون أن نعطيه المحددات التي تأتي قبل كل حالة وبعدها. نحن بحاجة لإعادة دراسة اللغة من منظور حاسوبي، كي نفلح في جعلها لغة إلكترونية بكل ما في الكلمة من معنى، لتفادي الاشتراك اللفظي.
لكن إذا كان الأميركيون قد سبقوا العالم أجمع إلى حوسبة لغتهم؛ فكيف نجح الأوروبيون في اللحاق بهم، ولماذا لم ينل العرب القسط نفسه؟ الأوروبيون عملوا بجدية على هذا الموضوع، منذ منتصف ستينات القرن الماضي، وحتى بداية الثمانينات، خدمة لمشروعهم الأوروبي المشترك. يشرح د. عيدان: «الأميركيون ركزوا على الترجمة الإنجليزية - الروسية لكن الأوروبيين اشتغلوا على الترجمة بين لغاتهم المختلفة، من فرنسية وألمانية وإسبانية وإيطالية. كان هدفهم التوصل إلى ترجمة آلية كي يفهموا بعضهم بعضا. أرادوا إذا ما تحدث مسؤول إنجليزي عن الزراعة مثلاً أن يحصلوا على ترجمة مباشرة بست لغات أخرى، وبالتالي قاموا بعمل قاموس وسيط يسمح لنص بإحدى اللغات السبع أن يدخل من باب، ليخرج بست لغات من الجهة الأخرى». من أواسط الستينات إلى أواسط الثمانينات، مئات الرسائل العلمية حررت في كل من أميركا وأوروبا حول حوسبة اللغات. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يقول د. عدنان عيدان: «بدأت مرحلة جديدة، وركز الأميركيون بشكل خاص على الترجمة الإنجليزية – الإسبانية، والعكس بالعكس، لأن همهم أصبح داخليًا، وصار الهدف ربط شرق أميركا بغربها الذي يتكلم الإسبانية ويصدر صحفًا بهذه اللغة. وهكذا صار ما تكتبه بوسطن من صحف يمكن أن تقرأة مباشرة كاليفورنيا. وبالتالي توصل الأميركيون إلى ترجمة بين الإنجليزية والإسبانية تصل إلى 95 في المائة من حيث دقتها، ووصل الأوروبيون إلى النسبة ذاتها عند الترجمة بين اللغات الأوروبية، وهو ما لم تحلم به العربية لغاية اللحظة.
يتساءل الدكتور عيدان بحسرة، حول ما لا يقل عن 400 جامعة عربية، ألا يوجد فيها 15 أستاذا و20 طالبًا يعملون على الترجمة الآلية من العربية إلى الإنجليزية مثلاً؛ أليس هذا معيبًا؟! لماذا هذه الجامعات تصرف المليارات، ولا تعني بالترجمة الآلية التي باتت عمادًا لكل تطور؟!
«بلغت من العمر 69 عامًا ولا أريد شيئًا، لنفسي»، يقول د. عيدان، «شكرًا لكم، فقط اهتموا بجامعاتكم».
اللوم على مصر أكثر من غيرها، كما يرى هذا العالم المشغول بتطوير المزيد من البرامج الحاسوبية اللغوية، لأن «الإمكانيات هناك كبيرة، وعندهم أساتذة على مستوى مهم، وهم بلد ضخم، ومع ذلك لا إنتاج يُذكر في مجال الحوسبة أو الترجمة الآلية، بل على العكس الصحف المصرية مليئة بالأخطاء، فلا يوجد ألف مقصورة، وكأنها أُلغيت من اللغة، ودائمًا تحتها نقطتين، لتتحول تلقائيًا إلى (ي)».
إهمال الجامعات العربية لموضوع على هذا القدر من الأهمية متأتٍّ من أننا مستهلكون للعلوم ولسنا مبتكرين لها أو حتى مساهمين بها. يشبه الدكتور عيدان علاقتنا بالتكنولوجيا كما صلتنا بـ«الفاصولياء المعلبة» نأتي بها جاهزة للأكل فقط. في البدء يقول: «كان العاملون في مجال الكومبيوتر إما طلاب رياضيات أو فيزياء أو كيمياء، ثم بمرور الوقت أدركوا أن دمج هذه العلوم معًا سيكون مفيدًا لفتح تخصص أكاديمي جديد هو هندسة الكومبيوتر؛ 15 سنة بعدها بدأت تفتتح أقسام الهندسة الطبية، واللسانيات الحاسوبية، وهي موجودة في كثير من الجامعات في بريطانيا، وهو ما لم يحدث بعد في الجامعات العربية».
تدشين أقسام للسانيات الحاسوبية في الجامعات العربية، يفتح الباب ليس فقط لتطوير الترجمة الآلية، وإنما أيضا للعمل على تطوير «التعرف الضوئي على الحروف» لمسح النصوص الورقية ضوئيًا وجعلها إلكترونية، وسيسهم أيضا في تطوير محركات بحث عربية، وبرامج التصليح الآلي، وأمور أخرى يصعب حصرها هنا. الجامعات العربية لا تزال قاصرة عن تخريج طلاب مؤهلين للقيام بهذه المهمات على لغتهم الأم.
الأفراد والشركات الصغيرة ليسوا هم المخولين القيام بهذه الأدوار التي تحتاج دولاً وجهودًا جماعية متواصلة. تسليم هذه المهمات للشركات يجعل منه أمرًا تجاريًا، في الجامعات الأميركية والإنجليزية تمكنوا من تفكيك نصوص الأدب الإنجليزي بشكل رائع، بفضل الحوسبة وبنوا عليها، واستفادوا منها في مختلف مناحي الحياة، فيما لا تزال النصوص العربية تنتظر من يعنى بها. ولا يزال الطالب العربي يتخرج ولا يعرف الفرق بين همزة الوصل وهمزة القطع، ولا يستطيع الكتابة دون أخطاء، ولا يميز بين الهاء والتاء المربوطة.
«في لغتنا ست حركات إضافة إلى السكون والشدة، لماذا لا يستخدمهما أحد؟ لماذا تم الاستغناء عنهما، وهما جزء من لغتنا التي نكتبها ونتفوه بها». مشكلة إضافية أخرى يتحدث عنها عيدان هي إدخال تكنولوجيا غير مقيسة إلى بلداننا. فكل يحمل هاتفًا أو يعمل على حاسوب ترتيب الحروف العربية عليه مختلف عن الآخر، وهذا يحدث بلبلة حقيقية. لماذا لا يتم وضع أسس يتم اعتمادها وتفرض على الشركات المصنعة التي تشحن بضائعها إلى الدول العربية، وهذا ممكن وميسر.
التكنولوجيا تربكنا. ما كان ينقص اللغة العربية في زمن انحطاطها الأكبر إلا هذه التحديات المتزايدة، التي تواجه بكسل متماد. 60 سنة عمل، تفصل بين الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى واللغة العربية التي لا تزال عمليًا تعيش في ستينات القرن الماضي.
كم قطعنا من مسافة في مشوار الحوسبة الطويل، بجهود أفراد قلة انتدبوا أنفسهم لعمل بحجم أمة، يجيب د. عيدان: «مدوّنة اللغة العربية هي ملف إلكتروني هائل يتجاوز حجمه حاليًا مليار (ألف مليون) كلمة عربية، والعمل جارٍ للوصول في النهاية إلى 10 مليارات (عشرة آلاف مليون) كلمة». الترجمة الآلية العربية التي يمكن الركون إليها للتعرف على ما تنتجه اللغات الأخرى لن تكون غدًا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!