عن خصوصية الحداثة وكونيتها!

نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
TT

عن خصوصية الحداثة وكونيتها!

نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)
نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكنها إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة كنظرة هذا الزائر إلى «غرنيكا» لبيكاسو (أ.ف.ب)

واقعياً تعكس الحداثة، كفلسفة وتجربة، الذائقة الثقافية الأوروبية في المرحلة الأخيرة من تطورها، حيث نضجت المفاهيم الأكثر أساسية، كالعقلنة والأنسنة والعلمنة، وحملت مسمياتها داخل التاريخ الأوروبي، الذي منحها الدلالة والمعنى، وأنتج البنى المؤسسية والأنساق الرمزية المنسوبة إليها: العقلنة باعتبارها تلك الصيرورة التاريخية التي أنتجت فهماً للعالم يقوم على منطق العقل، المتجذر في العلم التجريبي الحديث استقلالاً، وربما انفصالاً، عن منطق الروح الذي هيمن على الحقبة التقليدية، متخللاً أنساقاً كالدين والميتافيزيقا والأسطورة. إنها الصيرورة التي توجت العقل الإنساني متناً أساسياً وقطباً موجباً للتجربة البشرية، وأحالت الدين إلى موضع السلب، بعد أن كان هو المتن الواسع والقطب الموجب. والأنسنة باعتبارها الصيرورة التي جسدت حركة الإنسان الواثقة إلى مركز العالم، باعتباره فاعلاً وجودياً، مشرعاً أساسياً لذاته، متحرراً من سطوة علاقات القهر الخارجية، والتي انطلقت من عصر النهضة، وتصاعدت في ظل المذهب الإنساني، حتى نضجت مع عمل المتنورين الفرنسيين من الموسوعيين، خصوصاً فولتير وديدرو وهولباخ في قلب القرن الثامن عشر، ثم انتصرت بشيوع التنوير ورسوخ النزعة النقدية مع إيمانويل كانط. والعلمنة باعتبارها ثمرة النقد العملي للدين والذي لم ينشغل، كالنقد النظري، بأصول فكرة الألوهية، ولا بجذور الاعتقاد الديني، بل صبّ تركيزه على دور الدين في الحياة اليومية، ودور المؤسسات الدينية في المجال العام، رافضاً تغوِّلها على نظيرتها الدنيوية/ الزمنية، على ذلك النحو الذي كشفت عنه وقائع الهيمنة الكاثوليكية علي العالم القروسطوي.
أما تاريخياً، فلا تعدو الحداثة أن تكون انعكاساً لمسيرة التقدم البشري المطرد، رغم انحناءاتها القصيرة، وتجسيداً للخبرة الإنسانية المشتركة رغم ثقوبها السوداء، وهو ما يمكن ملاحظته إذا ما حررنا المفاهيم المؤسسة للحداثة من القوالب النهائية التي التصقت بها، كشفاً عن تاريخيتها كحوامل راهنة لقيم جوهرية، حملت أسماء بعينها في حقبة تاريخية ما، وأسماء أخرى في حقبة تالية... إلخ؛ ذلك أن المفاهيم الكبرى/ التأسيسية لا يمكن أن تظل ساكنة وهي تخوض في غمار التاريخ، ولا تفقد هويتها تماماً أثناء الارتحال الشاق داخل ثنايا التاريخ؛ إذ تحتفظ بجوهرها المؤسس ثم تضيف إليه ما أمكن لحامليها الجدد أن يضيفوا، أو ما تيسر لمستقبليها من تعديلات فيها. تلك الإضافات والتعديلات تخضع لمنطق التاريخ نفسه وحركة تطوره، ففي مسيرته الصاعدة يمكن لبعض المفاهيم أن تتبلور لتسمى جواهر غير مسماه، ولمفاهيم أخرى أن تُعدَّل لتعبر عن جواهر تم تطويرها، على نحو يجعلها أكثر حضوراً وقدرة على تمثيل زمانها، ولمفاهيم ثالثة أن تندثر، لأن جوهر ما كانت تعبر عنه قد تحلل وتجاوزه الزمن. نقول ذلك رغم استمرارية مضمون تلك المفاهيم كقيم كونية لازمة، وسنن مجتمعية مصاحبة لأي نهضة بشرية، من قبيل تأكيد فاعلية العقل الإنساني أو حرية الإرادة الإنسانية أو الانشغال الإيجابي بالعالم، إذ لا يمكن تصور نهضة حضارية لدى جماعة بشرية تجمد عقلها، أو اُعتقلت إرادتها، أو فقدت اهتمامها بالواقع الدنيوي، وانشغلت فقط بملكوت أخروي أو عالم مفارق.
في هذا السياق، نجد للعقلانية جذوراً ضاربة في الحضارة العربية الكلاسيكية! ولكنها بالتأكيد ليست العقلانية المادية القائمة على النزعتين: الحسية والتجريبية، بل العقلانية الكونية، التي تنظر إلى الطبيعة في سياق مهمتها الاستخلافية، حيث يستدل المسلم من نظامها الشامل الدقيق وقوانينها الكلية المتسقة على وحدانية صانعها، فيكتسب أفقاً عقلانياً تدبرياً. صحيح أنه لم يبلغ أفق العقلانية الوضعية، لكنه كان الأرقى في زمانه، وإلا فعلام استندت النهضة العربية الأولى؟ فالخرافة لا تنتج حضارة.
ونجد أيضاً نزعة إنسانية عربية، لكنها قطعاً لا تماثل نظيرتها الغربية، خصوصاً الكامنة في التنوير اليعقوبي الذي تبنى المركزية الإنسانية، بل انطوت على صيغ أولية كانت فعالة في تحرير الإرادة من الموروث التقليدي الجاهلي القائم على الروح القبيلة والنزعة الجبرية، وهي صيغة تتجلى في النص القرآني الذي يُعلي من حرية الضمير الشخصي في اكتساب العقيدة، ومن قيمة النزعة الفردية في ممارسة العبادة. بل إنه، أي النص القرآني، يؤسس لنمط من الحرية الأنطولوجية، حيث يتموضع الإنسان، كقطب ثانٍ للوجود، في مواجهة الإله، قطب الوجود الأول، حسب النزعة القدرية التي تؤكد قدرته على الاختيار، والتي يمكن استشفافها من بعض آياته المحكمة، أو من تأويلاتها السامقة في علم الكلام المعتزلي والفلسفة الرشدية.
وكذلك نجد نمطاً من العلمانية في التجربة التاريخية الإسلامية، يتجاوب مع النص القرآني في رفض الوصاية الروحية على الضمير الفردي، لكنه نمط مستبد صاغته صراعات السلطة وطموحات العائلات الحاكمة، لم يبلغ يقيناً أفق الديمقراطية الليبرالية. ومن ثم ظلت حرية الفرد في مواجهة السلطة أمراً غير قائم في التاريخ العربي لدوافع عدة، على رأسها عدم نضج مفهوم الحرية بالمعنى السياسي آنذاك، حينما كانت النهضة العربية لا تزال متوثبة قبل عشرة قرون. وهنا يتعين علينا ألا ننسي - ما دمنا نمارس النقد التاريخي - أن الدول الإسلامية الكبرى كافة، عدا العثمانية، كانت سابقة على الدولة التي تصورها الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، والتي جسدت مثالاً بارزاً للشمولية الحديثة. بل إن تلك الدول المتتابعة، التي أعلت ولو ظاهرياً، من شأن القيم الأخلاقية المبثوثة في الشريعة، كانت أرقى من تلك الصورة التي رسمها فيلسوف السياسة الواقعية للممالك الأوروبية الصاعدة ولحال السياسة الدنيوية المفعمة كلياً بالروح النفعية والسلوكيات الانتهازية، وإن ظل لدولة هوبز العلمانية والمستبدة امتيازها الذي لا يمكن تقديره إلا بالقياس إلى الدولة الثيوقراطية التي هيمنت على العصور الوسطى المسيحية.
هكذا، وعبر نظرة نقدية مشبعة بالحس التاريخي يمكن إزالة الشعور العميق بغربة الفكر العربي عن الحداثة، والذي جعل العلاقة مع الغرب معقدة وإشكالية، حيث استمرت مجتمعاتنا، بفعل اندراجها الواقعي في سياق الحضارة الكونية، تواقة إلى الغرف من الهوامش التكنولوجية للحداثة، من دون مقاربة متونها الأساسية ومفاهيمها التأسيسية. والنتيجة النهائية، أن مجتمعاتنا التي امتلكت من التكنولوجيا أرقاها، ظلت زراعية غالباً، ورعوية أحياناً، مغتربة عن قيم الحداثة الاجتماعية وفي قلبها الحرية الفردية، مثلما ظلت دولنا، حاضنة الاستبداد والطائفية والقبلية، ممتنعة على مثل الحداثة السياسية وفي قلبها الديمقراطية. وهكذا تم وضع البنزين بجوار النار: عقل مغلق يواجه عالماً مفتوحاً، وعي تقليدي يمتلك منتجاً ما بعد حداثي، مزاج متطرف يحوز أسلحة فتاكة؛ الأمر الذي أنتج كل عمليات القتل وحفلات التدمير المحيطة بنا. بل يمكننا، بقدر من التأويل الخلاق، أن نرفد الحداثة بقيم إيجابية، روحية وأخلاقية، تحتاج إليها للحد من جموحها المادي وتطرفها الحسي، بما يجعل الإسلام مصدر إلهام يسهم في تصويب مسيرتها، بشرط أن يقدم هذا الإسهام بطريقة تتجاوز الاستعلاء والجذرية، وتبدي تواضعاً حقيقياً أمام تعقيدات الوضع الإنساني، فلا ندعي القدرة على تقديم بديل كامل للوضع القائم وإلا صرنا كالأصوليين، بل فقط على سد بعض الثغرات في البناء الشاهق للحداثة، ومن ثم نتجاوز موقفين متناقضين:
الأول هو الاستسلام لدونية حضارية ترى الحداثة الغربية نموذجاً مثالياً على نحو مطلق، لا بد من احتذائه حتى النهاية، واحتسائه حتى الثمالة، كما رأى التيار العلموي العربي الذي سطع في النصف الأول من القرن العشرين، داعياً إلى القبول بالغرب وقيمه ومعاييره كمرجعية نهائية لنا. والآخر هو الادعاء بخصوصية حضارية مطلقة، هروباً من كل ما هو إنساني ومعاصر، وهو موقف يكشف جوهرياً عن شعور بالهزيمة الحضارية، وإن اختفى خلف قشرة من التعالي الظاهري على الآخر، حيث تصبح الحضارة الغربية (رغم تقدمها) نموذجاً للخواء الأخلاقي في مقابل الحضارة الإسلامية، التي تعد (رغم تخلفها) نموذجاً للكمال الأخلاقي، وكأنهما سفينتان متعارضتان، لا يمكن ركوبهما معاً، حسب أبي الأعلى المودودي، الذي جسد الحد الأقصى للنزعة السلفية وتصوراتها الاختزالية الساذجة عن الذات والعالم.
* كاتب وباحث مصري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.