لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
TT

لماذا تتوالى الويلات على «سويسرا الشرق» منذ نصف قرن ؟

أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)
أزمات لبنان استهدفت نظامه المصرفي لئلا يكون «سويسرا الشرق» (إ.ب.أ)

قيل الكثير حول أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت عام 1975 ولا تزال مستمرة حتى الآن، وبأشكال مختلفة منها ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو غيره. وعلى رأس هذه الأسباب التكسر المجتمعي الذي خلق من لبنان فسيفساء وموازييك متعدد الاتجاهات والولاءات والنظرات إلى الدولة أو الانتماء أو حتى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلد، حيث تلعب الولاءات التقليدية والاجتماعية، أكانت عشائرية أو طائفية أم عائلية – قبلية، دوراً مهماً في الحياة السياسية والاجتماعية في هذا العالم.
في البداية لا بد لنا أن نتساءل: لماذا استطاع هذا البلد الصغير، غير المرئي على خريطة العالم تقريباً، أن يجذب انتباه معظم بلدان المعمورة؟ لماذا لبنان تحديداً؟!
يقيناً، البدايات الأولى للمشكلة تعود إلى زمن بعيد، إلى مشكلة «بنك أنترا» عام 1966، وربما إلى قبل ذلك في بداية الستينات. فالازدهار التدريجي الهائل للبنان بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية (الخليج) قد جذب انتباه معظم الدول، وتحديداً أوروبا وأميركا، وبخاصة بعد تسميته «سويسرا الشرق». فقد بدأت هذه البلدان تتساءل: هل يجب أن تؤخذ هذه التسمية في الاعتبار أم لا؟
إن تنافس لبنان مع سويسرا في حقل الصناعة المصرفية قد شكل تهديداً خطيراً للعالم بأسره، خصوصاً عندما حل مكان المصارف الأوروبية والأميركية في جذب الاستثمارات والأموال العربية الخليجية. لذا، تجب إزالة لبنان الخطير هذا كبلد منافس ومهدد، لا سيما أنه مجرد نقطة صغيرة على الخريطة الدولية.
وتسللت المؤامرة عبر نقاط الضعف اللبنانية، من الأديان ومسائل ثانوية أخرى شكّلت على الدوام التربة الخصبة والصالحة لكل أولئك الذين أرادوا إلحاق الأذى بالقطاع المصرفي، وبالتالي الازدهار الاقتصادي للبلد بمجمله لا بالسكان اللبنانيين تحديداً.
هكذا بدأت المؤامرة، ولسوء الحظ، كلما أصبح لبنان قادراً على دحر هذا المخطط ظهرت مشكلة جديدة أمعنت في البلد تدميراً وتحطيماً يبدوان أبديين، والله وحده يعلم متى سينتهيان.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الجوانب والمظاهر المتعددة للحرب اللبنانية، ولكن وبالمقارنة مع الأسباب المتعددة للحرب اللبنانية، شكّلت مصالح الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية الأخرى السبب الأكثر أهمية في دمار لبنان ومحنته، حيث كان التدخل الدولي العامل المساعد والمحرك لبداية الحرب الأهلية داخل البلد واستمراريتها.

لما سُمي لبنان «سويسرا الشرق»؟
قبل التوسع، لا بد لنا من ذكر شيء عن سويسرا التي تقع وسط أوروبا، حيث يحيط بها كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وفي بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، حارب أدولف هتلر، مستشار ألمانيا الغربية، وغزا أوروبا بمجملها من دون أن يمس حتى حدود سويسرا، ليس بسبب خوفه من الجيش السويسري (الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد آنذاك)، بل لأن لسويسرا دوراً مهماً تلعبه في تمويل العالم بأسره، لأن كل أموال الأثرياء في بقاع الأرض قد وُضعت في البنوك السويسرية. وإذا ما أخذنا ذلك في الاعتبار، فسيكون من السهل علينا فهم النتيجة.
من المفيد أن نذكر في هذا المجال أن أمم الأرض قد عبّرت عن شكرها وامتنانها لما فعلته وقدمته سويسرا للعالم بأسره إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك بجعل عَلَمها ذي اللونين الأحمر والأبيض رمزاً لما يسمى «الصليب الأحمر».
وهكذا، ولأكثر من قرن مضى، كانت سويسرا الرائدة والسباقة في مجال الصناعة المصرفية وصناعة الساعات حتى ظهر اليابانيون على المسرح يحاولون اجتذاب المستهلكين نحو ساعاتهم الكوارتز الزهيدة الثمن والصغيرة والأكثر دقة على التوقيت وتعمل على البطارية بدلاً من التعبئة اليدوية أو الأوتوماتيكية والتي تميزت بآلات حاسبة وألعاب تسلية وإشارات تنبيه وغيرها من الأشياء، تاركين لسويسرا الصناعة المصرفية تقريباً. وبدأت سويسرا تخسر سوق الساعات العالمية ودخلت اليابان في هذا المجال بكل ما فيها من تطوير وتجديد.
مجمل القول إنه تُرك لسويسرا اختصاص الصناعة المصرفية إلى أن تحرك لبنان إلى الأمام ليصبح منافساً مهماً ووحيداً لسويسرا في اختصاصه وسيرته المصرفية. ففي أواخر الستينات كان في لبنان أكثر من ثمانين مصرفاً (هذا إذا لم نعدد الفروع)، بينما لم يكن لدى سويسرا أكثر من خمسة مصارف كبيرة، مما دفع العالم بأسره إلى التساؤل عما سيحصل للبنوك السويسرية في ظل لبنان كمنافس عملاق لها! هنا نشأت كيفية تخليص ما تبقى من التخصيص السويسري في مجال الصناعة المصرفية، لأن سويسرا كانت مركز المصارف الرائدة، خصوصاً بعد اكتشاف النفط في البلدان العربية عام 1950.
لذا كان جوهر المؤامرة ضد لبنان العمل على جعل المصارف الأجنبية تبتعد عنه، إما بالنزوح عن لبنان وإما بجعلها تستثمر أموالها في مجال آخر غير القطاع المصرفي. وحيث إن «بنك أنترا» كان يتمتع بمكانة عالية في القطاع المصرفي، فقد تدفقت الأموال العربية، كما ذكرنا سابقاً، عليه محدثةً فائضاً مالياً هائلاً في هذا المصرف الذي يستثمر في فرنسا وفي غيرها من البلدان، وفي قطاع التملك تحديداً، مما جعله أحد أهم المؤسسات المالية في العالم القديم (أوروبا، آسيا، أفريقيا) والجديد (أميركا).
كان الاعتقاد السائد أنه إذا تم تدمير «بنتك أنترا» فإن الودائع العربية لن تتوقف عن التدفق على لبنان فحسب، بل إن القطاع المصرفي سيبدأ في الانهيار، تلك كانت بداية المؤامرة بمجملها.
وفي الواقع، لقد خططت السفارات الأجنبية المختلفة لنشر إشاعات ومكالمات هاتفية ورعب اقتصادي في أول يوم (الاثنين) من أسبوع الجمعة الأسود، وذلك لتحذير المودعين وحضهم على سحب ودائعهم من «بنك أنترا» لأن رائحته بدأت تفوح إلى العلن. واستمرت المأساة أيام الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من عام 1966 (الذي سُمي فيما بعد «الجمعة الأسود»). وعندما فتح المصرف أبوابه في التاسعة والنصف، تدفق جمهور المودعين مطالبين بسحب ودائعهم. ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى المصرف السيولة المالية الكافية، فأُعطي المودعون شيكات (حوالات) للبنك المركزي الذي رفضها.
وسرعان ما امتد هذا الوضع بسرعة إلى كل أرجاء العالم، متسبباً بسحوبات من الودائع لا نهاية لها، وبخاصة ودائع الأثرياء العرب. واتصلت إدارة «بنك أنترا» بالبنك المركزي عارضةً رهن كل استثمارات مصرفها في فرنسا، إضافةً إلى سندات الملكية لديه كحصته في شركة «طيران الشرق الأوسط»... إلخ، إلا أن البنك المركزي رفض بصراحة تامة العرض المقدم له. وهكذا لم يكن «بنك أنترا» قادراً على حل هذه المعضلة، فوجد نفسه ملزماً بأن يقفل أبوابه نهائياً. وفعلاً توقف المصرف عن الوجود عند الساعة الحادية عشرة وكانت تلك الخطوة الأولى على طريق نجاح المؤامرة المدبرة ضد لبنان.
الهدف الثاني ضد المصارف كان البنك البريطاني للشرق الأوسط، ثاني أكبر مصرف في لبنان بعد «أنترا». وبدأ مودعوه، بعد تأثير الرعب الذي سببه «أنترا» يطالبون بسحب ودائعهم منه، إلا أن إدارة البنك اكتشفت اللعبة وأوعزت إلى مكتبها الرئيسي في هونغ كونغ فسارع إلى إرسال الأموال وأعلن المصرف أن أبوابه ستُفتح 24 ساعة يومياً بما فيه السبت والأحد. لكنه حذر المودعين بأن كل من يسحب ودائعه سيتوقف إلى الأبد عن كونه زبوناً لدى البنك البريطاني للشرق الأوسط. ومن البدهيّ القول إنه نتيجة لانهيار «أنترا» تم حث الاستثمارات الأجنبية والمحلية على ترك لبنان والذهاب إلى أي مكان آخر، أكانت المصارف السويسرية أو الأجنبية أو غيرها.
وهكذا نجح المخططون في مخططهم. لكن الزمن كان كفيلاً ببلسمة الجراح. ونتيجة لذكاء اللبنانيين، بدأ العرب يتناسون الأزمة التي سبّبها «بنك أنترا» وعادت الأموال تتدفق وتصب في المصارف اللبنانية ثانية. على مر سبعة وأربعين عاماً، استمر التدخل الأجنبي واستمر المخطط في مؤامراته على المصارف في لبنان منذ الحرب الأهلية 1975، كما ذكرنا سابقاً، حتى تاريخه، بأشكال مختلفة وطرق متنوعة حتى تمكن من تحقيق الهدف أخيراً ونجاح المؤامرة ولكن، ويا للأسف، ليس على يده بل على يد سياسيين ومسؤولين وموظفين ومتواطئين لبنانيين، فانهار القطاع المصرفي بسرعة فائقة وبكل سهولة وتم تدميره بالكامل تقريباً ما أدى إلى سحب المودعين الأجانب والعرب وحتى اللبنانيين ودائعهم إلى المصارف الأجنبية. والآن يبحث المسؤولون في الدولة اللبنانية موضوع «الكابيتال كونترول» المنقوص والسرية المصرفية الملتوية بعد أن خسر لبنان ثقة العالم أجمع بنظامه المصرفي وهو الآن يتخبط بفوضى عارمة ويُظهر عدم معرفة، أو بالأحرى عدم إرادة في كيفية إدارة هذا القطاع.
إن الوضع الراهن، وبسبب الأحداث والظروف المؤلمة من ضائقة اقتصادية ومعيشية خانقة وفقدان أبسط سبل العيش الكريم للبنانيين من ماء وكهرباء واتصالات وبنى تحتية وفقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية (حيث كانت 2. 25 ل.ل توازي دولاراً أميركياً قبل الحرب الأهلية، أصبح الآن الدولار الواحد الأميركي يوازي أكثر من 35000 ل.ل) وغيرها من المشكلات الاجتماعية والصحية والتربوية، لا يزال البنانيون يعانون ويتحملون ويعملون جاهدين كي تكون فترة الانتظار قصيرة حتى يتقدموا نحو الحل النهائي، ومَن يدري؟! ربما تتغير تسمية «سويسرا الشرق» إلى «هونغ كونغ الشرق».
يقول البوذيون: «إن الثيران بطيئة الحركة، لكن الأرض صبورة جداً».
* باحثة لبنانية



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».