الزائر إلى باريس هذه الأيام لن يفوته أن معلمة حديثة أضيفت إلى معالمها المهمة: ألا وهي 30 أفينو مونتين. عنوان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدار «ديور» منذ تأسيسها، وهو ما سيجعل البعض يقول إنه ليس جديداً بحُكم أنه يعود إلى الخمسينات من القرن الماضي، أي منذ أن جعله كريستيان ديور مقره الرئيسي في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1946 تحديداً.
بيترو بيكاري رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ{كريستيان ديور كوتور} وخلفه تحفة فنية على شكل وردة بارتفاع 26 قدماً للفنانة إيسا جينزكن (تصوير: بريجيت لاكومب)
لكن شتان بين هذا العنوان بالأمس وصورته اليوم. فالزائر إليه هذه الأيام لا بد أن يصاب بالحيرة ما إذا كان المبنى بمساحته التي تُقدر بنحو 12 ألف متر مربّع، «بوتيك» فخم للتسوق أم هو متحف للغوص في تاريخ الدار أم فندق مصغر لقضاء بعض الوقت والانغماس في عالم ديور، أم ماذا؟
رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة كريستيان ديور كوتور بيترو بيكاري يجيب على هذه الأسئلة في لقاء خاص مع «الشرق الأوسط» قائلاً إنه كل هذا وأكثر... إنه الوجه الجديد للتسوق بكل ما يحمله من مشاعر وإثارة لكل الحواس وترفيه». لم ينس أن يُشير إلى أنه تبلور كمضاد لعالم الميتافيرس رغم أن فكرته جاءت قبل أن يولد هذا المفهوم بالأساس. يشرح لي بحماس: «إنه يُلخص كل معاني الفن والثقافة لأن الموضة لم تكن يوماً عن الأزياء والإكسسوارات فحسب، بل هي ثقافة تعكس المجتمعات وتسجل تطوراتها كما تؤثر عليها. لدينا الآن 40 مليون متابع على «إنستغرام»، مما يجعلنا نأخذ دورنا وصورتنا بجدية حتى يكون تأثيرنا إيجابياً».
من البداية إلى النهاية يوفر البوتيك صوراً رائعة تُغذي كل احتياجات الجيل الجديد لالتقاط صور على إنستغرام
عندما اقترح بيكاري فكرة توسيع المبنى وإحداث تسهيلات جديدة فيه على المجموعة والمسؤولين بعد شهرين فقط من التحاقه بها، كان من الطبيعي أن يراها البعض مجازفة غير محسوبة النتائج. فإن يُغلق محل رئيسي يقع في موقع استراتيجي ويدر الملايين على الدار، ولأمد غير معروف، لا يُمكن أن يخطر على بال سوى شخص جامح أو عبقري أو يمتلك بلورة يقرأ بها ما سيأتي به المستقبل. لم يكن مفهوم الميتافيرس قد وُلد بعد، ولم يكن بيكاري جامحاً أو مُجازفاً، لأنه كان يعرف أن داراً بقيمة وحجم «ديور» قامت بشتى التطويرات التي يمكنه أن يُفكر فيها، لكنه كان يريد أن يترك بصمته وأثره فيها. لم يكن قد مر سوى شهرين على التحاقه بها عندما ألح عليه إحساس بأنه يجب أن يقدم شيئاً غير تقليدي لم يسبقه إليه أحد. لكن كيف يمكنه أن يُحقق ذلك كرئيس مجلس إدارة ورئيس تنفيذي فيها بشكل يستبق المستقبل ويبنى على ما تركه من كانوا قبله؟ زيارة لتفقُد حجرة كان المصمم الراحل كريستيان ديور يستعملها لأخذ قياسات التصاميم وتجربتها على العارضات، ثم تحولت فيما بعد إلى مستودع لوضع الكراكيب، ألهمته بإعادة تصميم المقر ككل واستغلال مساحة هذا المستودع الذي كان في يوم من الأيام مطبخ الأفكار والتصاميم وفي الوقت ذاته رد الاعتبار لمكان كان المؤسس يقضي فيه الكثير من الوقت. «في هذه المساحة ولدت الفكرة في فبراير (شباط) من عام 2018 وبدأت مناقشتها فعلياً في شهر مايو (أيار) من العام نفسه، أي قبل الجائحة. شعرت أننا نحتاج إلى مساحة أكبر، وهذا المُستودع الذي كانت تولد فيه أفكار المؤسس جعلني أشعر بأن من حقه علينا أن نحتفل به وبكل جوانب حياته، من حبه للطبخ إلى رغبته في أن يكون مهندساً معمارياً قبل أن يتحول إلى تصميم الأزياء مروراً بعشقه لزراعة الورود وباقي أنواع الفنون». كان المكان بالنسبة لبيكاري تاريخياً تكاد تشعر في كل ركن منه بروح كريستيان ديور تحوم حوله، لهذا عززه بتفاصيل يفهمها الزائر أكثر بعد مروره على متحف مصغر، «لاغاليري ديور» ملاصق للمكان تُعرض فيه تصاميم من خط الـ«هوت كوتور» منذ تأسيس الدار إلى اليوم، وفي الوقت ذاته قصاصات تتبع بدايات التأسيس وكل ما يتعلق بالراحل كريستيان ديور، بما في ذلك حبه لفن العمارة. هناك مثلاً قصاصة معروضة في القاعة تعود إلى عام 1955 قال فيها أثناء محاضرة ألقاها في جامعة السوربون: «كنت أرغب في أن أصبح مهندساً معمارياً؛ لهذا أجد نفسي الآن وبصفتي مصمم أزياء أحترم قوانين ومبادئ الهندسة المعمارية»... أصبح هذا التصريح بمثابة مانيفستو للدار، وفتح الباب أمام بيكاري ليقوم بتجميل المبنى بأدوات العصر وحسب متطلباته. فهو و«ديور» يعرفان أن طريقة نسج القصص وحكيها في غاية الأهمية. ورغم أن «30 أفينو مونتين غني بالتاريخ والقصص فإن طريقة إعادة نسجها بلغة العصر مستمرة لا تتوقف سواء في عروضها التي تتضمن شعارات نسوية واجتماعية والآن في معمارها وديكوراتها التي تستهدف إدخال الزائر إلى عالمها الخاص».
تمنح «لا غاليري ديور» للبوتيك زخماً ثقافياً يعبر عن إرثها المتوارث عدا عن سينوغرافيا سرديّة فريدة تؤكد فنيتها
ثم أن ثقافة التسوق في العالم الرقمي بالنسبة لبيكاري ولدت سلوكيات جديدة يتطلبها العصر، لم تنجح كلها في التعويض عن العاطفة التي يثيرها اكتشاف منتج جديد. «وهذا تحديداً ما شجعني على خلق فضاء يُجسد مفهوم الترف والفخامة، ويلعب في الوقت ذاته دوراً مضاداً لعالم الميتافيرس والتجارب الرقمية والافتراضية. فالتسوق أولاً وأخيراً ترف يوقظ أجمل المشاعر بعد لمس قطعة من الحرير أو الكشمير، أو شم رائحة عطر يستحضر ذكريات جميلة، كما أنه متعة اجتماعية تجمع الأصدقاء بشكل أو بآخر» حسب قوله. هذه المتعة أو المشاركة الجماعية يُوفرها المكان بشكل معاصر وحديث. فهناك جناح فخم في الطابق الرابع مُهيأ لكي يقضي فيه الزبون المهم بضعة أيام يستمتع فيها بكل تفاصيل الدار بعد أن يتسلم مفاتيح أبوابها المُغلقة. بإمكانه مثلاً التسوق في المساء بكل حرية بعد الإغلاق، أو دعوة أصدقاء على حفل عشاء كما كان المؤسس يعمل في حياته. «قد لا يكون الجناح بمساحة جناح في فندق كبير» حسب قول بيترو بيكاري «لكنه حميم ويتوفر على كل التسهيلات التي يحلم بها عاشق للموضة».
غرفة خاصة بالسيّد كريستيان ديور كانت تُستعمل في أيامه لأخذ المقاسات وتغيير الأزياء قبل خروج العارضات إلى منصّة العرض.
يشرح بيكاري بالكثير من الحماس أنه في الوقت الذي يجمع فيه المكان تناقضات شتى فإنه أيضاً يُروضها. فهو مثلاً ديمقراطي يمكن أن يحتسي فيه الزائر فنجان قهوة مع قطعة حلوى أو يزور فيه «لاغاليري ديور» بسعر 12 يورو فقط، ونخبوي يمكن أن يطلب فيه الزبون قطعة من «الهوت كوتور» أو يقتني قطعة مجوهرات تقدر بالملايين. كلما تم الصعود إلى الطوابق العلوية زادت خصوصيته وتفرده.
كان بيكاري يُدرك عند تقديمه فكرته للمسؤولين، أن تسويقها لهم يحتاج لتغلفيها بشكل مُغرٍ ومُربح من كل الجوانب. كان اقتراحه بأن يحتضن العنوان كافّة عوالم الدار وأوجهها المُتعدّدة، وأن يخاطب الجيل الجديد بتوفيره خلفية رائعة على «إنستغرام»، وأن يكون أيضاً متنوعاً وحميماً إلى جانب كونه معلمة تاريخية... والأهم من هذا أن يحقق النجاح التجاري المطلوب. وهو ما تحقق له: «فبعد ثلاثة أيام فقط من افتتاحه حققنا الكثير من المبيعات من بينها قطعة مجوهرات من الماس يُقدر سعرها بـ12 مليون يورو». بيد أن أكثر ما أثلج صدره رؤية ردود أفعال المنافسين الذين لم يتأخروا عن زيارة المكان لاستكشافه وكأنه مدرسة يأخذون منها أفكاراً للمستقبل «أكد لي هذا أننا كنا على صواب في اتخاذ هذه الخطوة الجريئة»، حسب قوله.
تستعرض «لا غاليري ديور» La Galerie Dior، المهارات الإبداعية لـ«كريستيان ديور» والمُصمّمين الستّة الذين خلفوه: إيف سان لوران ومارك بوهان وجيانفرانكو فيري وجون غاليانو وراف سيمونز وماريا غراتسيا كيوري
لم يكن هذا وحده مصدر اعتزازه. فعملية البناء والترميم استغرقت رقماً قياسياً لا يتعدى 18 شهراً تقريباً. «بدأنا العمل في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 وافتتحناه في مارس (آذار) 2022 وهذا رقم قياسي». يقول بيكاري هذا وهو يستعرض مُبتسماً رسمات هندسية تبُين تطور تحول المبنى من مجرد هيكل فارغ بعد أن هُدم كل شيء بداخله إلى معلمة تاريخية وفنية وثقافية مُربحة. يُعيد الفضل في هذا إلى تعاونه مع مهندس الديكور العالمي بيتر مارينو، قائلاً إنه كان تعاوناً مُثيراً رغم الصعوبات التي شكلها البُعد الجغرافي واختلاف التوقيت بين باريس ونيويورك، مكان إقامة مارينو وطبعاً عدم القدرة على السفر خلال جائحة «كوفيد»، وهي الفترة الذي أنجز فيها العمل. «كانت هناك العديد من اللقاءات عبر (زووم) ولحسن الحظ كان بيننا انسجام وتفاهم. كنت أقضي الكثير من الوقت في عين المكان وأنا أحمل (آيباد) لكي أطلعه على تطورات العمل ونتبادل الأفكار والاقتراحات عن كل ركن وزاوية...كان الأمر في غاية المتعة لأنه كان جدلاً فكرياً مثيراً لا يمكن أن يتحقق سوى بين شخصيين بنفس العقلية ويفكران على نفس الموجة والمستوى».
جانب من لاغاليريا حيث تُعرض تحف نسجتها أنامل المؤسس والمصممون الستة الذين توالوا على الدار من إيف سان لوران إلى ماريا غراتزيا كيوري
أما عن حُلمه في ترك بصمته على الدار، وما إذا كان قد تحقق، فلم تكن هناك حاجة لطرح هذا السؤال لأن الأرقام الأخيرة تُشير إلى أن ديور قد انتقلت من المرتبة 12 في عام 2021 إلى المرتبة الأولى كأقوى ماركة أزياء حالياً.