من التاريخ: «فريديريك العظيم» مؤسس ألمانيا

فريديريك العظيم
فريديريك العظيم
TT

من التاريخ: «فريديريك العظيم» مؤسس ألمانيا

فريديريك العظيم
فريديريك العظيم

كثيرًا ما يخطئ البعض بالقول إن مؤسس ألمانيا كان القائد العبقري بسمارك، في القرن التاسع عشر، ولكن حقيقة الأمر أن المؤسس الحقيقي لبروسيا، التي أصبحت النواة الحقيقية للكيان الألماني فيما بعد كان فريديريك العظيم، وهو الشخصية التي كثيرًا ما نتناساها لصالح من هم أقرب زمنًا، وليس بالضرورة أكثر فعلاً، وهي ظاهرة تاريخية متكررة، ولكنها غير منصفة، فهذا الرجل العظيم هو الذي وضع دولة بروسيا في شرق أوروبا على طريق المجد، وجعل منها قوة أوروبية لا يستهان بها، بعد فترة حكم دامت 46 عامًا انتهت بوفاته في عام 1786، وهو جالس على كرسيه عجوزًا وحيدًا شأنه شأن الكثير من العظماء الذين دفعهم الحكم إلى الوحدة والتعاسة النسبية.
لقد كان فريدريك الثاني «العظيم» الابن الأكبر لوالده فريديريك فيلهلم الأول، وكان والده رجلاً صارمًا لا يتمتع بأية مرونة أو ليونة في تعامله مع الابن، وهو ما تسبب في كثير من المناسبات بإهانة الأمير الصغير بشكل فج أمام الحضور، وكان والده متشددًا في تربيته حيث فرض عليه نوعًا من العسكرية المتشددة، شأنه شأن باقي أمراء أوروبا، باعتباره سيرث الحكم فيما بعد، ويدير حروب الدولة وسياستها على حد سواء، وكان الرجل غير مقتنع بالتيارات الفكرية والثقافية التي كانت تسود العواصم الأوروبية الكبيرة في ذلك الوقت، خصوصا الفرنسية منها، نظرًا لكرهه الشديد لفرنسا وسياساتها التوسعية، وهو ما دفع الأمير الصغير لتجرع الفكر والفن والثقافة سرًا بعيدًا عن نفوذ والده، فتعلم الموسيقى، وكان يعزف الفلوت بشكل تلقائي إلى الحد الذي سمح له فيما بعد بتأليف الموسيقى التي تُعزف اليوم منسوبة له في الأوركسترات العالمية، كما أنه كان شديد الولع بالأدب، خصوصا كتابات «فولتير»، وهو ما دفعه إلى استضافته لثلاث سنوات في قصره بعدما توليه العرش.
ومع ذلك، فإن الأمير كان منعزلاً بسبب قسوة والده عليه، خصوصا عندما رفض الأب زواجه من إحدى الإنجليزيات، فقرر الأمير الشاب الهروب إلى لندن، ولكن رجال الملك استطاعوا القبض على الأمير الشاب مع صديقه، وقام الأب بسجن ابنه لمدة شهرين، وكان ينوى إعدامه بتهمة الخيانة العظمى، ولكنه صب جم غضبه على صديق الأمير، وأمر بإعدامه في القصر أمام أعين ابنه في قسوة مفرطة كان من شأنها التأثير نفسيًا على الأمير الشاب طيلة حياته، وقد أعقب ذلك قرار الملك تزويج الأمير من إحدى أميرات أسرة الهابسبورج النمساوية لأسباب تتعلق بإدارة الحكم في البلاد، واتقاءً لشر النمسا، التي كانت من القوى الأوروبية الكبرى التي يُحسب لها ألف حساب، وهكذا اكتمل مربع التعاسة لولى العهد، ولكنه لم يمنع استمراره في تحصيل الفكر والفن والعلوم العسكرية، التي بدأ يدرسها بشكل متعمق.
شاءت الأقدار وفاة الملك، فتم تتويج الأمير «فريديريك الثاني» ملكًا خلفًا لوالده في عام 1740، ومنذ البداية، وضع الرجل بصمته المباشرة على الدولة البروسية ونظام الحكم فيها، فعلى الرغم من أنه ورث دولة لا بأس بها على المستوى الأوروبي، فإنها لم تكن غنية سواء في الموارد أو الفكر أو العسكرية، ولكن الملك الجديد كانت له رؤيته المستنيرة، حيث ركز جهده على ثلاثة محاور أساسية؛ الأول تطوير الجيش وتحريكه لخدمة قضايا الدولة، والثاني جعل بلاده مركزًا للفكر والثقافة والثالث حسن الإدارة، وفي الإطار الأخير، فإنه وضع كتابه الشهير «ضد ميكيافيلي»، الذي عارض فيه سياسات المفكر الإيطالي الشهير، واستعاض بمفهوم الدولة الحديثة ذات المؤسسات بدلاً من المؤامرات ومراكز القوة المختلفة فيها، فضلاً عن حسن الأداء الإداري في البلاد وإعادة بنائها.
على الصعيد الدولي، فإنه لم يكن قانعًا بالظروف السياسية التي تحيط بها، وكان يرى ضرورة جعل بروسيا دولة عظمى لا تقل قيمة وقوة عن النمسا وفرنسا وإنجلترا، كما أنه كان يكره بشكل كبير النمسا ويعتبرها العدو الأول لبلاده وله شخصيًا، خصوصا أن علاقته مع زوجته كانت فاترة منذ البداية، ولم ينجب منها أو يعاشر نساءً غيرها، بل ركز كل جهده لوطنه وعظمته، فبدأ أولى خطواته الخارجية ضد كل النصائح بالاستيلاء على إقليم سيليستريا (جنوب غربي بولندا)، وهو ما دفعه لحرب مع النمسا، محركًا جيشه القوي المكون من 27 ألفًا بحركة انسيابية وسلسة، فاستطاع ضم الإقليم بأسرع مما توقع الجميع، بعدما هزم النمساويين في معركة مولويتز الشهيرة في عام 1741، ولكنها لم تكن حاسمة، فعاود النمساويون الهجوم على الأراضي البروسية، ولكنه استطاع صدهم في سلسلة من المعارك الممتدة، حتى استسلمت النمسا لقدرها، وتنازلت عن إقليم سليسيا تمامًا لصالح بروسيا، خاصة أنها كانت منهمكة في جبهات أخرى.
لم تكن هذه الحملات دون تكلفتها على الخزانة البروسية، ولكن الرجل رأى ضرورة تأمين بلاده خارجيًا بضم أقاليم غنية تضيف لقوة بروسيا، وقد انتهز فريديريك الفرصة، من أجل العمل على دعم الجيش والإصلاحات الداخلية في بلاده، كما بدأ في بناء قصر «سان سوسيه» الشهير في مدينة بوتسدام على الطراز المعماري الفرنسي، وكان هذا مقره لسنوات طويلة، حيث وجد السلام والصفاء الداخلي الذي سمح له بتطوير قدراته الموسيقية والعسكرية والإدارية لصالح البلاد، ولكن السياسة الخارجية دفعته مرة أخرى إلى الحرب في عام 1756، عندما تحالف مع إنجلترا، وهو ما فتح الباب أمام سلسلة من الحروب الممتدة ضد بلاده من قبل فرنسا والنمسا وروسيا، التي عرفت بـ«حرب السنوات السبع»، وبدلاً من استخدام الدبلوماسية والحنكة السياسية، فإنه قرر مواجهة الدول الثلاث في حركة مشابهة لما لجأ إليها نابليون بونابرت بعد ذلك في عام 1805 ضد النمسا وبروسيا.
واقع الأمر أن قوات فريدريك لم تكن كبيرة، وإمكانياته لا تقارن بالتحالف، ولكنه حرك جيوشه بسرعة مذهلة معتمدًا على قوة المشاة، التي كان يشرف على تدريباتها بنفسه ويدرك قدراتها الواسعة في ساحة القتال، وقد بدأ الرجل بالاستيلاء على سكسونيا مرة أخرى، واشتبك مع القوات النمساوية في معركة «كولين»، التي خسرها تكتيكيًا، ولكنه تعلم منها الكثير، بالتالي عندما اندلعت معركة روسباخ الشهيرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1757، فإن الرجل استطاع أن يطبق تكتيكات عسكرية جعلته الجنرال الأول في أوروبا، فهزم القوات الفرنسية التي تفوقه في العدد والعتاد، وأعقب ذلك معركة أخرى معروفة باسم لاوتن جلبت له المجد في كل أوروبا عندما استطاع هزيمة النمساويين هزيمة نكراء.
ورغم هذين الانتصارين الحاسمين، فإن الحرب الضروس استمرت بلا هوادة، فاتسع مسرح العمليات، فأصبح واسعًا للغاية وممتدًا زمنيًا وجغرافيًا، وهو ما اضطره للتنقل بجيشه من الغرب إلى الشرق لمواجهة المارد الروسي على الأبواب، الذي كان يأمل في التلاحم مع الجيوش الفرنسية لدخول برلين، وهو ما كان الرجل يسعى لمنعه بأي وسيلة، مما أدخله في معركة دامية للغاية والمعروفة باسم زاندورف، التي راح ضحيتها الآلاف، ولكنها استطاعت وقف الزحف الروسي وقطعت الطريق أمام التلاحم مع الجيوش الفرنسية، ولكنها استنزفت الجيش البروسي، فكان وضع فريدريك حرجًا للغايةً خلال السنوات الثلاث التالية إلى أن تدخل القدر مرة أخرى عندما ماتت الإمبراطورة الروسية إليزابيث، فورث العرش الروسي بطرس، الذي كان شديد الإعجاب بفريدريك العظيم، مما دفعه لوقف الحرب والانسحاب منها بعد توقيع السلام مع بروسيا، وهو ما أنقذ فريديريك بكل تأكيد، وهنا لعب القدر دوره مرة أخرى في صناعة العظماء والدول العظيمة.
وقد استغل هذا الملك الموهوب فترة السنوات الثلاث والعشرين السلمية التي أتت بعد هذه الحرب لتحريك الدبلوماسية والتحالفات لإضافة المزيد من القوة لبلاده، وواقع الأمر أنه استطاع أن يضم بالسلم أراضي أكثر مما ضمها بالحروب، وعلى الرغم من أنه كان صاحب المقولة الحربية الشهيرة «إن الشخص الذي يسعى للدفاع عن كل شيء لن يستطيع الدفاع عن أي شيء»، فإنه في مجمل حياته تناقض تمامًا مع هذه المقولة، فلقد استطاع هذا الشخص أن يدافع عن كل أفكاره وأهدافه مستغلاً ربع قرن من السلم لوضع اللبنة السياسية والإدارية والثقافية والمعمارية والفكرية والقانونية لبروسيا، التي جعلت منها الدولة العظمى التي كان الرجل ينشدها، ولعل من أعظم إنجازاته كان توحيد القوانين في البلاد ووضع الجميع تحت طائلته، ومع ذلك فإن صيته في أوروبا ظل مرتبطًا بإنجازاته وابتكاراته العسكرية، ولهذا حديث آخر.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.