ميخائيل غورباتشوف... بين التقديس والشيطنة

ضحية تاريخ خرج عن السيطرة

صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
TT

ميخائيل غورباتشوف... بين التقديس والشيطنة

صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)
صعود يلتسين ... وافول غورباتشوف (أ.ف.ب)

«لا نستطيع متابعة العيش على هذا النحو». هذه العبارة التي همس بها ميخائيل غورباتشوف لوزير الخارجية الجديد إدوارد شيفارنادزه، قد تُلخص الفلسفة التي أملت على الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي والرئيس الأول والأخير للاتحاد الشاسع المساحة المتعدد القوميات واللغات والمعضلات. لم يكن غورباتشوف ساذجاً، كما اتهمه الرئيس فلاديمير بوتين، ولا غافلاً عن حقائق العالم على ما ذهبت تحليلات صحافية... بل كان مدركاً أن إصلاح الاتحاد السوفياتي قد ينتهي بخروج الحزب الشيوعي الذي يتزعمه من السلطة ومجيء قوى جديدة إلى الكرملين. تردده وإحجامه عن اللجوء إلى القوة في تسوية الخلافات مع رفاقه (على الرغم من أنه لم يكن على ذات السوية من السلمية في مواجهة التحركات الاحتجاجية في الجمهوريات المضطربة في جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان وحوض البلطيق)، وتمسكه بالخطاب الرسمي للسلطة الذي يُنكر ما يحصل وراء الأبواب الموصدة لمصلحة رسم صورة وردية ومتفائلة للأحداث، أعطى كل ذلك انطباعاً عنه بأنه أطلق عملية تتجاوز قدراته على السيطرة على مسار الأمور.
يمكن الجزم بتفهم ميخائيل غورباتشوف صعوبة ما تواجهه بلاده - الاتحاد السوفياتي، يومذاك - وقصورها عن أداء الدور الذي أناطته بنفسها ابتداءً من الخمسينات، من خلال إبلاغه جميع الحلفاء والأصدقاء بضرورة الاعتماد على أنفسهم وعدم انتظار المساعدة السوفياتية.
قال هذا الكلام لزعيمي تشيكوسلوفاكيا غوستاف هوساك وألمانيا الشرقية أريك هونيكر، وقاله أيضاً لفيديل كاسترو ولحافظ الأسد.
كل واحد من هؤلاء أبدى رد فعل مختلفاً. زعماء أوروبا الشرقية المشاركة في حلف وارسو لم يصدقوا أن الاتحاد السوفياتي قد يتخلى عنهم في حال اضطرب حبل الأمن عندهم. موقعهم الاستراتيجي في مواجهة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وانتشار قوات سوفياتية ضخمة في بلادهم، شكلا مبرراً للاعتقاد أن «الرفاق السوفيات» سيتدخلون، بلا شك، إذا برز خطر على الحكومات الشيوعية الأوروبية الشرقية. وكانت هذه تدين بالكثير للاتحاد السوفياتي الذي صنعها عملياً ووفر لها الحماية وأشرف على توليها السلطة في الأعوام التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
بولندا وحدها كانت تعلم أن الموجة أعلى من قدرات الأحزاب الشيوعية الحاكمة على تجاوزها. فالشيوعيون البولنديون الذين كانوا يواجهون تحركات تتراوح بين المطالب النقابية والرفض الجذري للحكم الشيوعي منذ إضرابات حركة «تضامن» في 1980 وفرض الحكم العسكري لتجنب اجتياح سوفياتي شبيه بما جرى في المجر وتشيكوسلوفاكيا في عامي 1956 و1968، كانوا أول من سلّم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً في 1989.
- الاستثناء الكوبي
أما الزعيم الكوبي كاسترو، فلم يشعر أنه مدين بمنصبه للسوفيات. ذلك أن الثورة التي قادها أواخر الخمسينات، انتصرت بجهود مناضلين كوبيين (وبعض الأمميين مثل ارنستو «تشي» غيفارا). وبالتالي، فالسلطة في هافانا نتاج وطني محض وإن كانت تلتقي مع السوفيات في العداء للإمبريالية وفي الصراع ضد الولايات المتحدة. كذلك، الكوبيون اختاروا الاشتراكية بإرادتهم الحرة وليس لممالأة السوفيات ولا غيرهم.

شيفاردنادزه (غيتي)  -  ياكوفليف

هكذا عبّر كاسترو في خطاب طويل وغاضب ألقاه في مناسبة عودة القوات الكوبية من الحرب في أنغولا. «مع الدرع أو عليه» قال كاسترو مستعيداً كلمات الأمهات الأسبرطيات أثناء توديعهن أولادهن المتوجهين إلى الحرب. ومثلما عاد الجنود الكوبيون من أنغولا «مع الدرع أو عليه»، أي حاملين دروعهم أو منقولين كجثث عليها بعد موتهم في قتال الأعداء، هكذا ستحارب كوبا في سبيل خيارها. «الاشتراكية أو الموت» ختم كاسترو بالشعار الذي ظل مرفوعاً في الجزيرة بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي بسنوات طويلة.
أما الرئيس السوري حافظ الأسد، فيقال، إنه عاد من زيارة له إلى موسكو سنة 1987 بقناعة أن غورباتشوف، وعلى الرغم من وعوده بمواصلة تزويد سوريا بالمعدات العسكرية والمساعدة الاقتصادية، بدأ بالانكفاء عن الشرق الأوسط ولن يتابع سياسة أسلافه في مساندة السياسات السورية في المنطقة، وأن لدى السوفيات وجهات نظر جديدة بضرورة التوصل إلى سلام متفاوض عليه مع إسرائيل. وثمة من يعتقد أن الزيارة تلك مهّدت الطريق أمام تحسن العلاقات السورية مع الولايات المتحدة وصولاً إلى مشاركة دمشق في التحالف الدولي لطرد الاحتلال العراقي من الكويت.
التخفيف من أعباء القضايا الدولية تأسس على تقييم أجراه غورباتشوف وفريقه تضمن مقارنة بين ما يفرضه الالتزام «بمطاردة الإمبريالية» في العالم وبين ما يجنيه الاتحاد السوفياتي من التزاماته الأممية. حقائق تراجع الإنتاج الزراعي وقلة كفاية صادرات النفط والغاز لتلبية الحاجات المتزايدة، خصوصاً بعد إطلاق الولايات المتحدة «مبادرة الدفاع الاستراتيجية» المعروفة باسم «حرب النجوم»، والمصممة أصلاً لإنهاك الاتحاد السوفياتي وامتصاص موارده في سباق تسلح لا قدرة له على مجاراة الغرب فيه، كانت من الوضوح بحيث لا تخفى على أي مسؤول في الكرملين. يضاف إلى ذلك، أن العقوبات التي فرضها الغرب بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وحرب الاستنزاف التي تورط فيها هناك، من المسائل التي أرخت بثقلها على قيادة غورباتشوف.
- الاقتناع بالاشتراكية
من جهة ثانية، لم يتخل غورباتشوف عن اعتقاده بأفضلية النظام الاشتراكي في تأمين الاستقرار الاجتماعي والسلم بين المكونات القومية والدينية السوفياتية الشديدة التباين. وظل على قناعته بأن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية هو الإطار المناسب للعلاقة بين القوميات المختلفة حتى بعد توالي إعلان الجمهوريات سيادتها فيما يشبه الانفصال عن الاتحاد السوفياتي الذي أبدى 80 في المائة من مواطنيه رغبتهم في الحفاظ عليه في استفتاء جرى في مارس (آذار) 1991.
وبحلول عام 1990، وصلت العملية التي أطلقها غورباتشوف قبل خمس سنوات إلى مأزقها. لقد بات الاتحاد السوفياتي جسداً خالياً من الأعضاء التي راحت تعلن استقلالها وانفصالها وسيادتها. وبدا كأن كل واحدة من الجمهوريات السوفياتية الـ15 باشرت تاريخها الخاص بما في ذلك حروبها الأهلية وصراعاتها الحدودية مع جيرانها وتحالفاتها الخارجية وبرامجها الاقتصادية. وظل الجسد هذا يبحث عن دور إلى أن وقع انقلاب 19 أغسطس (آب) 1991، بقيادة «لجنة الدولة للحالة الطارئة» التي أعلنت تسلمها السلطة بسبب «مرض» أصاب غورباتشوف أثناء تمضيته إجازته في منتجع سوتشي.
الانقلاب الذي أفشله نزول المواطنين الروس إلى شوارع موسكو يتقدمهم رئيس جمهورية روسيا الفيدرالية وخصم غورباتشوف العنيد بوريس يلتسين، أنهى عملياً فرص إنقاذ الاتحاد السوفياتي بعدما ظهر أن النخبة الحزبية والعسكرية والأمنية لن تتخلى عن أساليبها القديمة، وأنها على استعداد لاستخدام العنف والقتل، ولو ضد رئيس الاتحاد السوفياتي في سبيل البقاء في السلطة.
تصلّب النخبة القديمة ورفضها الإصلاح على الرغم من كل ما شهدته البلاد في الأعوام السابقة، كان عنصراً رئيسياً في نهاية عهد غورباتشوف الذي أعلن في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991 نهاية الاتحاد السوفياتي كدولة... كان هو نفسه مصمماً قبل سنوات ست على إنقاذها وإحيائها.
بعد ذلك التاريخ، أصبح غورباتشوف شخصية من الماضي. يكرّمه الغرب بأكثر العبارات تعظيماً، ويتهمه مواطنوه بالتسبب في تدهور أوضاعهم المعيشية وصولاً إلى المسؤولية عن أزمة التسعينات الخانقة.
وليس من شك في أن الرجل سيبقى في هذا الموضع الملتبس، بين التقديس والشيطنة، والذي لم يختره بإرادته، بل دفعته إليه قوة التاريخ العاتية.
يلتسين... وياكوفليف
الخصم الأشهر لميخائيل غورباتشوف كان، من دون شك، بوريس يلتسين. مسؤول منطقة سفيردلوفسك (يكاترينبورغ حالياً) في الحزب الشيوعي السوفياتي الذي جاء غورباتشوف به لتولي مسؤولية الحزب في العاصمة موسكو، ضمن الدفعة الأولى من تبديلات المناصب التي أجراها الأمين العام الجديد فور تسلمه منصبه في 1985.
اعتقد غورباتشوف أن يلتسين الديناميكي والإصلاحي سيكون سنداً له في المنصب الحساس على رأس الحزب في موسكو بعدما نجح في إبعاد منافسه على الأمانة العامة، المسؤول السابق للحزب في العاصمة فيكتور غريشين المتشدد والتقليدي. يبد أن ظن غورباتشوف لم يكن في مكانه وبات يلتسين على رأس الخصوم «من الجهة الإصلاحية» التي تطالب بتغييرات أسرع وأعمق في الحزب والدولة.
ولم يكن لحركة إصلاحية كبرى مثل التي أطلقها الأمين العام غورباتشوف إلا أن تفرز الشيوعيين السوفيات بين مؤيد ومعارض. وفي بنية تفتقر إلى آليات التغيير الديمقراطي مثل الحزب السوفياتي، كانت المعارضة تتخذ شكل مؤامرات في الغرف المقفلة وتكتلات بين أصحاب الآراء المتشابهة. وبلغت المعارضة ذروتها في انقلاب 19 أغسطس 1991 الذي قضى عملياً على آخر فرصة لإنقاذ الاتحاد السوفياتي كدولة.
أما الموالاة، وإذا أبعدناً جانباً تلك التي تقف إلى جانب صاحب أي سلطة في كل مكان وزمان طمعاً في الامتيازات والمناصب والحماية والجاه، فلم تكن متماسكة لا سياسياً ولا فكرياً. لقد أدى ألكسندر ياكوفليف، المثقف والمطّلع على الثقافة الغربية، دور المرجع الايديولوجي لغورباتشوف ولعملية «إعادة البناء والشفافية» (البيريسترويكا والغلاسنوست). وإليه تُنسب فكرة التخلي عن الشيوعية السوفياتية التقليدية والانخراط في بناء «اشتراكية ذات وجه إنساني» أو «اشتراكية أخلاقية» من دون إغفال احتمال تفكّك الاتحاد السوفياتي وخسارته جبروته العسكري ومكانته العالمية. والمفارقة هنا، أن «الاشتراكية ذات الوجه الإنساني» شعار رفعه الشيوعيون التشيكوسلوفاكيون بقيادة ألكسندر دوبتشيك فيما عُرف بـ«ربيع براغ» الذي انتهى تحت جنازير الدبابات السوفياتية في صيف 1968.
مسار ياكوفليف صوب المكتب السياسي للحزب الشيوعي، قمة السلطة آنذاك، لم يكن استثنائياً؛ إذ إنه انخرط في السلك الحزبي مبكراً. لكنه خصّص وقتاً كبيراً للاطلاع على الأسس النظرية للفلسفة الماركسية - اللينينية وأصولها في الفكر الألماني. وثمة مَن يقول، إن جولته الفكرية انتهت به إلى تبني أراء رافضة لكل المقولات الماركسية الرئيسية باعتبارها غير قابلة للتطبيق من دون لي ذراع المجتمع البشري واللجوء إلى القمع والقسر الذي عاينه شخصياً من خلال تخفيض رتبته الحزبية بعد انتقاده تصاعد النزعة القومية الروسية في الحزب.
آراء ياكوفليف وأثرها على غورباتشوف سرعان ما أثارت انتباه «صقور» الحزب الذين تناولوا الرجل بالقدح والذم وبالتذكير بأصوله اليهودية التي تحوّلت منذ عهد جوزيف ستالين إلى سبّة يتوجب أن تُخفى، بعد أحياء تقاليد العداء للسامية العميقة في التاريخ الروسي. وحقاً، تُنسب إلى ياكوفليف فكرة «استخدام آليات النظام الشمولي لتفكيك النظام الشمولي» بمعنى لجوء قيادة إصلاحية إلى طريقة الأمر والنهي لفرض نوع من التحول الديمقراطي داخل الحزب.
... وأفكار شيفارنادزه
إدوارد شيفارنادزه الآتي إلى موسكو مثل غورباتشوف من مكان بعيد، كان الذراع الخارجية لمشروع «الإصلاحات». وباستثناء الرغبة في تغيير الوضع المتهالك، كانت خلفية شيفارنادزه تختلف اختلافاً واضحاً عن تلك التي أنتجت الأمين العام.
فهذا الرجل الجورجي الذي لم تختفِ لهجته المحلية عند تحدثه بالروسية، كان مسؤولاً في وزارة الداخلية الجورجية، وبصفته هذه أشرف على حملات مكافحة الفساد؛ ما أهّله لتولي زعامة الحزب في الجمهورية. ومن هنا غلبت سمعته كإصلاحي وعُدّ من الفريق المحيط بغورباتشوف.
ومقابل يلتسين، المعارض من الجهة الإصلاحية، ظهر إيغور ليغاتشيف «المحافظ» الذي انتقل من دعم غورباتشوف وتنظيم حملته للوصول إلى الأمانة العامة بعد وفاة يوري أندروبوف، ثم قسطنطين تشيرنينكو عامي 1983 و1985، وصل إلى التصدي لإصلاحات حليفه السابق... بعدما تبين أن مسار الأمور لا يمكن أن يقف عند مكافحة الفساد المستشري بين كبار المسؤولين الحزبيين وتغيير زعماء الجمهوريات السوفياتية البعيدة عن المركز.
غير أن ليغاتشيف نأى بنفسه عن العداء السافر لغورباتشوف. الموقف ذاته اتخذه أناتولي لوكيانوف، صديق غورباتشوف وزميله السابق في كلية الحقوق بجامعة موسكو ثم معارضه واحد المحذرين من أن سياسات صديقه ستقود إلى انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن العداء لغورباتشوف داخل الحزب شمل حلفاء سابقين مثل نائبه غيناري ياناييف ورفاقه الذين انضووا في «لجنة الدولة للحالة الطارئة» التي نظمت الانقلاب على غورباتشوف واخفقت في قيادته إخفاقاً هزلياً/ مأساوياً.
- أعوام «البيريسترويكا» في عيني طالب عربي
> وصلتُ إلى الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى في سبتمبر (أيلول) 1985، بعد ستة أشهر تقريباً من تولي ميخائيل غورباتشوف الأمانة العامة للحزب الشيوعي. وغادرته للمرة الأخيرة في ربيع 1990 في ذروة التغييرات التي شهدتها أوروبا الشرقية. بذلك أكون أمضيت القسم الأكبر من عهد الرئيس السوفياتي الأول والأخير كطالب في الاتحاد السوفياتي، وفي عاصمته الثقافية ومهد ثورته لينينغراد (سانت بطرسبورغ، قبل الثورة البلشفية وبعد الانهيار السوفياتي).
خرجت السيارة التي أقلتنا من بيروت المقفل مطارها إلى دمشق، وكنا ثلاثة طلاب، ليلاً عبر ما كان بـ«طرق الكرامة» لنتمكن من الوصول إلى مطار العاصمة السورية صباحاً واللحاق بالطائرة الروسية المتوجهة إلى موسكو. وكان استحدِث الطريق المذكورة كبديل عن طريق بيروت - دمشق الذي كان يسيطر عليه الجيش اللبناني، بهدف إمداد الضاحية الجنوبية والشطر الغربي من العاصمة بالذخيرة والسلاح أثناء «انتفاضة الضاحية» و«انتفاضة 6 فبراير (شباط)» وخروج القسم الغربي من بيروت على سيطرة السلطة التي كان يقودها الرئيس أمين الجميل.
الطريق المظلمة التي تضيئها طلقات القنص من مواقع اللواء الثامن في الجيش اللبناني (الموالي للجميّل) والحفر التي تجعل من المرور أشبه ما يكون بالقفز على أرجوحة مطاطية، كانت كلها على تناقض مع الدروب العريضة المفضية إلى «موقف بيروت» الذي يستقبل السيارات الآتية من لبنان. فيما بدت نظافة وترتيب الطرق العريضة التي تقود إلى مطار دمشق الدولي، أشبه بمشهد من فيلم سينمائي مقارنة بالدمار والأنقاض اللذين يكتنفان المدن اللبنانية، وخصوصاً العاصمة بعد سبع سنوات من الحروب والاقتتال.
حملتنا طائرة ضخمة من طراز «إيل - 86» من دمشق مروراً بتوقف قصير في لارنكا، ثم إلى موسكو حيث فوجئنا بطقس بارد وممطر في أوائل سبتمبر (أيلول). اتساع طريق مطار دمشق، بدا شديد التواضع أمام الأوتوسترادات التي تصل مطار «شيريميتفو 2» الذي بنته شركات إيطالية لاستقبال المشاركين في أولمبياد موسكو في 1985، بقلب العاصمة السوفياتية (حينذاك).
من الفندق المخصص للطلاب الأجانب الوافدين، كانت تبدو العلامات الأولى «لإصلاحات» غورباتشوف. ذاك أن صفوفاً طويلة من المواطنين تقف أمام مخازن صغيرة. الطلاب الأقدم الذين كانوا يزورون الفندق لاستقبال أقاربهم أو للتعرف على الطلاب الجدد ومساعدتهم، أوضحوا أن الواقفين ينتظرون الحصول على زجاجتين من «الفودكا»، المشروب الكحولي الروسي الشهير والذي كان من بين أهداف «إصلاحات» غورباشوف الأولى.
فالأمين العام الجديد، وبتأثير من سلفه (ويفصل بينهما قسطنطين تشيرننكو) يوري أندروبوف الذي ترك أثراً كبيراً على صعود غورباتشوف سلم المناصب القيادية في الحزب الشيوعي، ويقال أيضاً بتأثير من زوجته صاحبة الشخصية القوية رايسا غورباتشوفا، أبدى استياءه مما يتركه إدمان الخمور على المجتمع السوفياتي وأثره على الإنتاج والانضباط والفاعلية في كل المجالات.
الطلاب الأقدم كانوا يؤكدون أن الإصلاحات ستنطلق بعد المؤتمر السابع والعشرين للحزب الذي عقد في مارس (آذار) 1986. وبالفعل أزاح غورباتشوف عدداً من منافسيه وخصومه السابقين وجاء بالحلفاء والموالين. لكن لم يكد يمضي شهر أو أكثر قليلاً على المؤتمر حتى انفجر مفاعل تشيرنوبيل النووي الذي كانت له آثار متناقضة على السياسة الداخلية للأمين العام الجديد. وبطبيعة الحال، لم نعرف بالانفجار سوى عندما أذاعت وسائل الإعلام الرسمية عنه بعد أيام عدة وقللت من شأنه.
في الأعوام التالية بدأت الأمور تتسارع. صرنا ننتظر خطابات غورباتشوف مع المواطنين السوفيات لنعرف كيف تسير أحوال البلاد التي تستضيفنا ونتلقى العلم فيها. وكان رفع السرية عن ارتكابات العهد الستاليني من المفاجآت التي هزّت وجدان الكثير من المواطنين الذين صار وقوفهم في الصفوف الطويلة يشمل أكشاك المجلات والصحف والمكتبات التي تبيع ما بدأ يُنشر عن جرائم ستالين وزبانيته. غني عن البيان، أن رافضي «شفافية» (غلاسنوست) غورباتشوف لم يصمتوا على كشف الجوانب السوداء من تاريخ الحكم الشيوعي. وظهر مَن يدافع عن ستالين وإنجازاته في بناء الاتحاد السوفياتي وتصنيعه وقيادته إلى النصر في الحرب العالمية الثانية...
بيد أن «الغلاسنوست» لم تترافق مع إنجازات اقتصادية. بل إن النهج الذي أرساه اسلاف غورباتشوف ببيع الموارد الطبيعية الضخمة من نفط وغاز ومعادن ثمينة، إضافة إلى منتوجات زراعية، وشراء السلع الاستهلاكية مقابلها، كان من الأهداف التي سدد غورباتشوف ضرباته إليها باعتبارها تمتص الثروة السوفياتية ولا تخدم الصناعات الوطنية وتعزز النزعة الاستهلاكية. ويمكن تحديد عام 1988 كبداية للتفارق بين «البيريسترويكا» التي نسمع بها لكنها تؤدي إلى اختفاء السلع الغذائية عن الرفوف وبين «الغلاسنوست» التي أصبحت أشبه بتسلية وطنية.
مجتمعنا الطالبي كان منقسماً في شأن تصديق وعود غورباتشوف. بعضنا، ممن انتمى إلى أحزاب وقوى وآلت تقليدياً الاتحاد السوفياتي وسياساته، علق آمالاً كبيرة على غورباتشوف، وكرر ما كانت تقوله الدعاية الرسمية عن أنه «مجدد الاشتراكية» ومنقذها، وأن الصعوبات التي نلمسها في حياتنا اليومية هي بمثابة الممر الإجباري نحو مستقبل اشتراكي «ذات وجه إنساني» مطهر من قسوة البلشفية وغلظة أساليبها وعنفها. والبعض الآخر، مال إلى الاعتقاد أن الأمر مقضٍ وأن الاتحاد السوفياتي يعيش أيامه الأخيرة، ولن يستطيع اللحاق بالسباق الذي زجّ نفسه به مع الغرب المتطور والغني. وأن غورباتشوف هو آخر «أمين عام» يحكم البلاد الشاسعة. ولم يملك هؤلاء أي رؤية لزمن ما بعد الاتحاد السوفياتي، لكننا كنا نلاحظ أن زملاءنا الطلاب الأذريين والأرمن، على سبيل المثال، راحوا يتبادلون النظرات شزراً في المطابخ المشتركة وفي الممرّات. وأن زميلنا من الشركس يزيد من حديثه عن التمييز الذي تتعرض له أسرته التي نفاها ستالين إلى أوزبكستان ولم يُسمح لها بالعودة إلى موطنها في جبال القوقاز. صديقي من تتارستان لم تعنِ له كل هذه الأحاديث شيئاً، فقد كان مشغول البال في كيفية إنهاء الخدمة العسكرية التي استدعي إليها.
ومع مرور الأيام كانت السلع تختفي من المخازن الرسمية لتظهر عند البائعين الذين حصلوا على رخص لإطلاق مشاريع صغيرة. وظهر من يُشجع الطلاب الأجانب على إحضار البضائع المرغوبة التي لم تقتصر، كما يسود الاعتقاد على سراويل الجينز وأدوات التجميل، بل شمل تأمين سفرهم إلى سنغافورة لشراء أجهزة كومبيوتر لمصلحة شركات خاصة ورسمية. ما كان ممنوعاً أصبح في غضون سنوات قليلة هو المطلوب. وقفز سعر الدولار في السوق السوداء إلى أرقام لم تكن في الخيال سنة وصولنا، في الوقت الذي كان التلفزيون الرسمي يتحدث عن الصعوبات التي تتكشف مع تقدم عملية الإصلاح وعن الفساد المستشري في صفوف القيادات الحزبية التي صار تبديلها خبراً ثابتاً في نشرات الأخبار.


مقالات ذات صلة

إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

العالم إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

إسقاط مسيّرة قرب قاعدة جوية روسية في القرم

أعلنت السلطات المعينة من روسيا في القرم إسقاط طائرة مسيرة قرب قاعدة جوية في شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا، في حادثة جديدة من الحوادث المماثلة في الأيام القليلة الماضية. وقال حاكم سيفاستوبول ميخائيل رازفوجاييف على منصة «تلغرام»: «هجوم آخر على سيفاستوبول. قرابة الساعة 7,00 مساء (16,00 ت غ) دمرت دفاعاتنا الجوية طائرة من دون طيار في منطقة قاعدة بيلبيك».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

الاتحاد الأوروبي يحذّر موسكو من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين

حذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل روسيا، اليوم الخميس، من استغلال الهجوم المفترض على الكرملين الذي اتهمت موسكو كييف بشنّه، لتكثيف هجماتها في أوكرانيا. وقال بوريل خلال اجتماع لوزراء من دول الاتحاد مكلفين شؤون التنمي«ندعو روسيا الى عدم استخدام هذا الهجوم المفترض ذريعة لمواصلة التصعيد» في الحرب التي بدأتها مطلع العام 2022. وأشار الى أن «هذا الأمر يثير قلقنا... لأنه يمكن استخدامه لتبرير تعبئة مزيد من الجنود و(شنّ) مزيد من الهجمات ضد أوكرانيا». وأضاف «رأيت صورا واستمعت الى الرئيس (الأوكراني فولوديمير) زيلينسكي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
العالم هجوم بطائرة مسيرة يستهدف مصفاة «إلسكاي» جنوب روسيا

هجوم بطائرة مسيرة يستهدف مصفاة «إلسكاي» جنوب روسيا

ذكرت وكالة «تاس» الروسية للأنباء، صباح اليوم (الخميس)، نقلاً عن خدمات الطوارئ المحلية، أن حريقاً شب في جزء من مصفاة نفط في جنوب روسيا بعد هجوم بطائرة مسيرة. وقالت «تاس»، إن الحادث وقع في مصفاة «إلسكاي» قرب ميناء نوفوروسيسك المطل على البحر الأسود. وأعلنت موسكو، الأربعاء، عن إحباط هجوم تفجيري استهدف الكرملين بطائرات مسيرة، وتوعدت برد حازم ومباشر متجاهلة إعلان القيادة الأوكرانية عدم صلتها بالهجوم. وحمل بيان أصدره الكرملين، اتهامات مباشرة للقيادة الأوكرانية بالوقوف وراء الهجوم، وأفاد بأن «النظام الأوكراني حاول استهداف الكرملين بطائرتين مسيرتين».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم روسيا تتعرض لهجمات وأعمال «تخريبية» قبل احتفالات 9 مايو

روسيا تتعرض لهجمات وأعمال «تخريبية» قبل احتفالات 9 مايو

تثير الهجمات وأعمال «التخريب» التي تكثّفت في روسيا في الأيام الأخيرة، مخاوف من إفساد الاحتفالات العسكرية في 9 مايو (أيار) التي تعتبر ضرورية للكرملين في خضم حربه في أوكرانيا. في الأيام الأخيرة، ذكّرت سلسلة من الحوادث روسيا بأنها معرّضة لضربات العدو، حتى على بعد مئات الكيلومترات من الجبهة الأوكرانية، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. تسببت «عبوات ناسفة»، الاثنين والثلاثاء، في إخراج قطارَي شحن عن مساريهما في منطقة محاذية لأوكرانيا، وهي حوادث لم يكن يبلغ عن وقوعها في روسيا قبل بدء الهجوم على كييف في 24 فبراير (شباط) 2022. وعلى مسافة بعيدة من الحدود مع أوكرانيا، تضرر خط لإمداد الكهرباء قرب بلدة في جنو

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

موسكو: «الأطلسي» يكثّف تحركات قواته قرب حدود روسيا

أكد سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف أن حلف شمال الأطلسي (ناتو) نشر وحدات عسكرية إضافية في أوروبا الشرقية، وقام بتدريبات وتحديثات للبنية التحتية العسكرية قرب حدود روسيا، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك»، اليوم الأربعاء. وأكد باتروشيف في مقابلة مع صحيفة «إزفستيا» الروسية، أن الغرب يشدد باستمرار الضغط السياسي والعسكري والاقتصادي على بلاده، وأن الناتو نشر حوالى 60 ألف جندي أميركي في المنطقة، وزاد حجم التدريب العملياتي والقتالي للقوات وكثافته.


كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.