الرسم بالضوء لاصطياد اللحظات الهاربة

صدر عن دار «Pres Stop» في لندن كتاب جديد للشاعر والمصور الفوتوغرافي فاضل عباس هادي يحمل عنوان «ولا تنسَ بأن السيدة لايكا تنتظرك بالبيت». يتضمّن هذا الكتاب 263 مقالة عن الفوتوغراف كتبها بين عامي 1987 و2009 وهي تغطي مساحة 1120 صفحة من القطع الكبير.
لا بد من الإشارة إلى أن لايكا هي الكاميرا التي صممها المهندس الألماني أوسكار بارناك وتعلّق بها كل محبي التصوير الضوئي ومريديه الذين يعتقدون بإمكانية الارتقاء بالصورة الفوتوغرافية إلى مستوى الأيقونة أو التحفة الفنية النادرة. لايكا لا تخون المصور بسبب طريقة صنعها المتينة ودقتها وسرعتها في الاستعمال وعدم اعتمادها على البطارية.
لم يعد المصور الفوتوغرافي المبدع يسأل إن كان التصوير الضوئي علمًا أم فنًا؟ خصوصًا بعد أن تحوّل التصوير من هواية برجوازية إلى فن ديمقراطي يستطيع أن يمارسه الجميع ليصطادوا اللحظات الهاربة من الزمن الذي لن يعود إلى الوراء إلاّ من خلال الصور الفوتوغرافية والاستعادات الذهنية المضببة.
مثلما يرسم الفنان التشكيلي لوحته بالفرشاة يرسم المصور الفوتوغرافي أيقونته البصرية بالضوء معتمدًا في الأعم الأغلب على كاميرات قديمة مثل لايكا وروليفلكس وهاسلبلاد ونيكون وغيرها من الكاميرات التي ينظر إليها المحترفون بعين الحُب والإعجاب.
لم يكن طريق التصوير الضوئي مفروشًا بالورود فلقد قال بودلير إن «التصوير الفوتوغرافي إهانة لفن الرسم» متناسيًا أن المصور يتعامل مع الصورة الفوتوغرافية مثلما يتعامل الرسّام مع لوحته أو النحّات مع منحوتته، وقد يبذل جهدًا مُضاعفًا في دراسة ثيمة الموضوع، وثنائية الضوء والظل قبل أن يضغط على زر المغلاق.
ثمة مقالات متعددة على اكتشاف التصوير الضوئي عام 1839 من قِبل الفرنسي لوي داجير والبريطاني فوكس تالبوت وتطور الكاميرات من مراحلها التقليدية الأولى حتى عصر الديجيتال والأتمتة التي تقدّم لنا صورة بمعنى الـImage وليس الـPhoto وثمة فرق كبير بين الاثنين كما يذهب الفنان الفوتوغرافي فاضل عباس هادي.
لا يفضِّل بعض المصورين التقاط ما يسمى Candid shots، أي اللقطات المصورة من دون إذن الشخصية المُستهدفة على الرغم من توفر هذه اللقطات على العفوية وعدم الافتعال، فلا غرابة أن يؤسس هذا البعض نوعًا من العلاقة الحميمة التي تتيح لهم التعرّف على الشخصيات التي يبتغون تصويرها، وبعضهم يذهب أبعد من ذلك مثل المصور الأرمني المبدع يوسف كارش الذي يقرأ غالبية أعمال الكاتب قبل أن يبدأ بتصويره، أو يستمع إلى موسيقاه إذا كان موسيقارًا، أو يشاهد أفلامه إذا كان فنانًا لكي يكون على معرفة وثيقة بالشخص الذي سوف يصوره. وقد حدث هذا الأمر مع همنغواي ومورياك وتشرشل وصوفيا لورين مع الأخذ بنظر الاعتبار أن كارش كان يعطي الأولوية للجانب البصري والإنساني ولا يجد ضيرًا في إهمال الجانب العقائدي.
لا شك في أن كتاب «لايكا»، كما سنسميه منذ الآن فصاعدًا، هو كتاب متخصص في فن الفوتوغراف، بل هو موسوعة فوتوغرافية لعدد كبير من المصورين الفوتوغرافيين الأوروبيين والأميركيين واليابانيين والعرب. ونظرًا لسعة هذه المادة كان بالإمكان تقسيم مواد هذا الكتاب الموسوعي إلى ثلاثة كتب في أقل تقدير يتناول أولها التصوير الفوتوغرافي في أوروبا، والثاني في أميركا، والثالث في العالم العربي مع وضع المواد المتفرقة كاليابان وغيرها كملحق في أحد الكتب الثلاثة وبواقع 370 صفحة لكل كتاب سوف يسهّل بالتأكيد حمل الكتاب وقراءته بطريقة مريحة جدًا. كما يتيح للقارئ أن يتعرف مليًا على المصورين الفوتوغرافيين في كل قارة أو فضاء جغرافي على انفراد.
لا يمكن تغطية كتاب بهذا الحجم، لذلك سوف نتوقف عند أبرز المعالم الفوتوغرافية ومن بينها المصور المجري روبرت كابا الذي غطى خمس حروب وهي الحرب الأهلية الإسبانية، والحرب اليابانية الصينية، والحرب العالمية الثانية، وحرب فلسطين، والحرب الهندوصينية الأولى التي فقد حياته فيها إثر انفجار لغم تحت قدميه. لا بد من الإشارة إلى الرحالة البريطاني ولفريد ثيسجر الذي أصدر كتابي «الرمال العربية» و«عرب الأهوار» اللذين رصّع صفحاتهما بأروع الصور التي التقطها في تلك المضارب المدهشة. ارتبط اسم المصور الفرنسي هنري كارتيه بريسون بمبدأ «اللحظة الحاسمة» التي تعني التقاط الصورة في الوقت المناسب، وأنها لن تتكرر من ناحية التركيب أو العناصر المؤلفة لهذه اللقطة على وجه التحديد. مصور فرنسي آخر هو روبير دوانو الذي لُقب بمصور الشارع اكتسبت صوره صفة الأيقونة مثل صورة «خبز بيكاسو» أو صورة «الأطفال في ساحة هيبر».
لا يمكن أن نغمط حق المصورين الأميركيين وعلى رأسهم مان راي الذي أثّر في السريالية وتأثر بها وهو الفنان الأصيل الذي أدرك أن «التقاط الصورة هو نصف العمل، أما نصفه الثاني فيُنجز في الغرفة المظلمة».
المصور الهنغاري براساي أو يولا هولاز بروشو كما يلفظ في الهنغارية يقف ضد مبدأ «اللحظة الحاسمة» ويريد من الشخصيات المُصورَة أن تعرف بالتقاط الصورة كي تتواطأ معه.
ثمة نماذج إشكالية في التصوير الفوتوغرافي وعلى رأسهم المصورة الألمانية البارعة ليني ريفنستال التي صورت صعود النازية وأشهر أفلامها «أولمبياد برلين».
لا بد من الإشارة إلى المصور الإيطالي تازيو سيشيارولي الذي لاحق المشاهير والرؤساء ونجوم السينما الأوروبيين والأميركيين وصورهم خلسة ومن دون موافقتهم وهو نفسه الذي أوحى إلى المخرج الإيطالي القدير فيدريكو فيلّيني بشخصية الباباراتزي في فيلم «الحياة حلوة».
لا بد أن نخصص دراسة منفردة للتصوير في العراق والعالم العربي، ذلك لأن هناك أسماء فوتوغرافية في العالم العربي على درجة كبيرة من الأهمية وبسبب ضيق المساحة فإننا سنتوقف عند أبرز الأسماء العراقية التي كرست جزءًا كبيرًا من حياتها للتصوير الفوتوغرافي وعلى رأسهم الأستاذ كامل الجادرجي، مؤسس الحزب الوطني الديمقراطي الذي ترك لنا آلاف الصور الفوتوغرافية. وفي السياق ذاته لا بد من الإشارة إلى فنان الفوتوغراف مراد الداغستاني وجان جاكوسيزيان وناظم رمزي وجاسم الزبيدي وفؤاد شاكر وفايق حسين وهيثم فتح الله وسفيان حسين وعقيل صالح وسعد الزبيدي إضافة إلى رحيم حسن وعلي عيسى ونبيل الشاوي وفالح خيبر وكريم صاحب وعلي عيسى ونبيل الشاوي وأسماء كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المجال الضيق.
هناك كتب كثيرة صدرت عن التصوير الضوئي ولعل أبرزها «عن التصوير الضوئي» لسوزان سونتاغ لسوزان سونتاغ و«الغرفة المضيئة» لرولان بارت. قال جاك ديريدا إن «الفلسفة تبدأ من خلال تأمل الصورة الفوتوغرافية».
ربما من المفيد أن نتوقف عند مقولة المصور الأميركي المبدع مان راي الذي قال ذات مرة: «أنا أرسم ما لا يمكن تصويره، وأصور ما لا يمكن رسمه». وأضاف موجهًا خطابه لأي متلقٍ آخر: «فسِّر لي كيف تمشي امرأة في الشارع أفسِّر لك أعمالي».
فاضل عباس هادي بذل جهدا كبيرا في إنجاز هذا الكتاب الذي استغرق عقدين من الزمن.