ينهي «شاهد» عرض 30 حلقة يتضمنها مسلسل «من إلى»، بطولة قصي خولي المؤدي شخصية «وليد حمدان» بلمعان. تستطيع الحياة أن تقسو بما يفوق تصور العقل. ذات ليلة، وبينما يحضر حلوى عيد ميلاد ابنه، يدخل منزله ليجد المدعوين من راشدين وأطفال جثثاً. ارتكاب المجزرة في عقر داره يسلبه «براءته» ويحوله متعطشاً للثأر.
هذه باختصار قصة الكاتب السوري بلال شحادات، يخرجها بإتقان التونسي مجدي السميري. ينام المرء على حال ولا يدري على أيها يصحو. الإنسان مضرج بالمباغتات. اعتاد وليد السير جانب الحيط برأس لا يتطلع يميناً أو شمالاً. «اللهم السترة»، شعار أستاذ رياضيات يعد أياماً روتينية يمضيها في تصحيح الامتحانات وإعطاء الدروس المجانية لأولاد الحي المحتاجين إلى دعم. بلمح البصر، يتغير كل شيء، وذلك «الآدمي الدرويش» يمتحنه قدره بما يفوق تعقيد المعادلات الرياضية، فيجرده من طبعه المسالم ويدس فيه أظفاراً تحفر الصخر لاستخراج العدالة.
تموت النسخة القديمة من وليد بموت عائلته، وتنبثق منه نسخة جديدة هو نفسه يشعر بغرابتها فيتدرب على اعتيادها. إنه صورة طبق الأصل عن إنسان ليس لديه ما يخسره بعدما خسر كل شيء. باستعمال عقل بارع في ابتكار المخارج، يدخل وليد عالماً قذراً يحكم «الكبار» على قبضته. تورطه في طريق لا عودة فيها إلى الوراء يقود جرحه إلى الالتئام.
يصور المسلسل (إنتاج «الصباح إخوان») الروح المقتولة برحيل الأحبة. يجد وليد نفسه أمام زوجة كاذبة (رواد عليو) تكلفه موتاً جماعياً لأشخاص أبرياء. لا يختار المرء قدره. ثمة يد خفية تتدخل فتبدل الاتجاهات. فإن شاء حياة عادية، ناكفته بدروب مجنونة من دون استئذان. لدحض فظاعة الدنيا، يدير السميري كاميرته ومعه ممثلون بارعون كناهد الحلبي وجوزيف بو نصار وفادي أبي سمرا وعلي منيمنة ومحمد ياغي وإلياس الزايك، إلى فاليري أبو شقرا الحاضرة بهدوء يكاد المشاهد لا يشعر به.
تفتح الطينة الطيبة مصراعيها للشر الخارجي وتقف في وجهه. يطرأ التغيير كاملاً على الرجل المعذب بموت عائلته ولعبة الأكاذيب البائسة من بطولة زوجته المحملة بماضٍ مظلم، فيشكل ما يشبه العصابة ويحمل السلاح. بوجه محقون بالغضب، ملوع بالوجع، يمسك قصي خولي بواحدة من أصدق شخصياته في الدراما اللبنانية السورية، يسير بها على الشوك والنار، وفي أفواه وحوش تنفث السم والجريمة.
بأداء عذب للأمومة، تمتهن ناهد الحلبي بدور «أم وليد» التألم على تحولات الأبناء. على مفترق يفصل بين طينة الخيرين وطينة الأشرار، تنتظر ابناً يخطط وثانياً (إيهاب شعبان) يساعد في تنفيذ الخطة، معهما جار أصابته مصيبة المجزرة فخسر عائلته (إلياس الزايك بدور تميم). لكن وليد ببركة هذه الأم، يغرق في التورط من دون أن يسمح له بمس معدنه الصافي. يبقى نزيهاً وسط المجرمين وإن اضطر إلى الضغط على الزناد. الأم بنقائها تنقذه.
أمام أنظار الشرطة، وبما ضمن أداء تمثيلياً سليماً شكل إضافة لمحمد ياغي بدور المحقق «سامر» وعلي منيمنة بدور زميله «حسام»، معهما ألكسندرا قهوجي بدور الملازم «ريتا»؛ يفصل وليد خططه على طريقة المعادلات الرياضية، فلا يساوي الواحد زائداً واحداً اثنين بالضرورة، إذ قد تؤدي عملية ضرب بسيطة إلى تغيير العملية الحسابية. بعقله الذكي، يلعب الأب المنكوب والزوج الجريح الجهاز الأمني، ليتوصل إلى القيام بدوره في عقاب المجرمين.
يعطي فادي أبي سمرا كل ما عنده لشخصية «خليل العسل» المحصنة بنفوذ من داخل السلطة وخارجها، فيحرك عمليات الاحتيال وتبييض الأموال، محدثاً بأمر منه فظاعة المجزرة في منزل وليد ثأراً من زوجته المتسببة بحريق فحم أولاده. الأفظع من «خليل» رجل ظاهره بارد الأعصاب هو «إيهاب الأسود» بشخصية يحبك خيوطها جوزيف بو نصار. يقف أمام إهراءات مرفأ بيروت ليلعن من أوصل المدينة إلى خرابها، «ولو كنت واحداً منهم». كان ليظل مفلتاً من العقاب لولا تحايل وليد عليه وجره إلى القصاص.
هدوء شخصية «مي» قلص بعض حضور فاليري أبو شقرا. عودتها حاملاً بعد انقطاع أخبارها لأشهر عن وليد، وإن كان قصده تأكيد مقولة «ما أصعب العيش لولا فسحة الأمل»، فتلك لحظة تحمل هشاشة الرسائل المباشرة. يغلب العطف على شخصيتها وإن ارتكبت جريمة. وفاؤها لوليد وحبها لأبيها يحليان الدور، وإن لمح فارق طفيف بين أدائها له كبطلة وأداء أي ممثلة أخرى.
رامز الأسود وإيهاب شعبان نالا تألقاً أكبر في «شتي يا بيروت»، فأتى دوريهما أقل وهجاً مما سبق، كحال وسام صليبا الأكثر تمكناً في مسلسلي «عشرين عشرين» و«رقصة مطر». مروى خليل بشخصية المحامية الفاسدة، أدت دوراً جيداً اقتصر على مشاهد في الحلقات الأخيرة. في خانة اللافتين، يمكن وضع عمر ميقاتي، بياريت قطريب، ميا علاوي، وخصوصاً سلمى شلبي بشخصية «لجين». مشهد القميص المغطى بالدم مع الأداء الساحر لقصي خولي في المحكمة، وصوت وائل كفوري في غناء الشارة، تأكيد لعظمة الموهبة وما يتميز به فرد دون سواه.
«من إلى»... الروح المقتولة بالرحيل
مسلسل من بطولة قصي خولي عن تحولات الإنسان
«من إلى»... الروح المقتولة بالرحيل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة