الأسئلة القلقة حول مصير الأقليات.. في مرحلة ما بعد الأسد

3 «سيناريوهات» مختلفة للمستقبل السوري

الأسئلة القلقة حول مصير الأقليات.. في مرحلة ما بعد الأسد
TT

الأسئلة القلقة حول مصير الأقليات.. في مرحلة ما بعد الأسد

الأسئلة القلقة حول مصير الأقليات.. في مرحلة ما بعد الأسد

مع توسّع سيطرة المعارضة السورية على معظم مناطق محافظة إدلب بما فيها مدينة جسر الشغور ومدينة أريحا، ثم الاعتداء الذي ارتكبه مسلحو «جبهة النصرة» بقرية درزية في ريف المحافظة، وكذلك بعد إنجازات المعارضة في حوران (بجنوب سوريا)، دبّ الخوف في قلوب أهل اللاذقية، وهم بأغلبيتهم من الطائفة العلوية التي يتحدر منها رئيس النظام السوري بشار الأسد، متخوّفين من ردة فعل عنيفة ودموية من مقاتلي فصائل المعارضة جراء حملات القمع التي نفذها النظام، سواء ضد المقاتلين أو المدنيين على حد سواء. إلا أنه وإن كان من أي فرصة لبقاء سوريا على قيد الحياة كدولة موحدة، فلا بد من إعطاء ضمانات للعلويين وكذلك للأقليات الأخرى لتسهيل التوصل إلى حل سياسي، احتمالٌ يصبح يومًا بعد يوم بعيد المنال.

في مقابلة نشرت على موقع «سيريا ديبلي» Syria Deeply، اعترف أمجد، وهو من اللاذقية، بأن سكان المدينة الساحلية يشعرون بالخوف من النجاحات التي يحققها «جيش الفتح» في المحافظات الشمالية من سوريا.
ومع تحول الحرب إلى صراع طائفي بين النظام المدعوم من العلويين والميليشيات الشيعية الأجنبية من جهة، وبين مقاتلي المعارضة، وجلهم من السنة، من جهة أخرى، زادت أعداد القتلى من المدنيين من كلا الطرفين وسط انتشار عمليات الاغتصاب والنهب وقطع الرؤوس والحرق.
أضف إلى ذلك أن الفظائع التي ارتكبها نظام الرئيس السوري بشار الأسد بدّدت أي أمل في تحقيق انتقال سلمي للسلطة. وفي هذا الشأن يشير آرون لوند، رئيس تحرير «سوريا في الأزمة»، وهو موقع تابع لمؤسسة كارنيغي للأبحاث، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى «أن المشاعر المعادية للعلويين التي تسيطر على معظم المقاتلين تنبع من وحشية الحرب والتفجيرات المستمرة وقصف المدن السنّية من قوات بشار الأسد. يجب ألا ننسى أن معظم القتلى واللاجئين في سوريا هم في الواقع من المناطق السنّية، وبالطبع هذا يؤدي إلى رد فعل شعبي وشعور بالكراهية ودعوات إلى الانتقام (ضد العلويين) - هذا أمر يحدث في كل حرب، للأسف. لكن، على عكس المقاتلين العاديين، فإن الإسلاميين داخل صفوف الثوار لديهم أهداف أخرى تحرّكها دوافع دينية بحتة». وبالتالي، يعتقد الخبير أن عددا من الأصوليين الذين يهيمنون على «جيش الفتح»، «يبدون عازمين على تدمير العلويين لأسباب دينية».
كذلك تصر جماعات متشدّدة مثل «جبهة النصرة»، على أنه يجب على العلويين التخلي عن اعتقاداتهم الدينية لكي يتلقوا المعاملة التي يحظى بها باقي المواطنين العاديين. وحقًا، صرح أبو محمد الجولاني، قائد «جبهة النصرة»، في مقابلة تلفزيونية بثت أخيرًا على قناة «الجزيرة» الإخبارية بـ«أن العلويين كانوا جزءا من الطائفة التي تحرّكت خارج دين الله والإسلام». كما دعا عبد الله المحيسني، المقرب من «جبهة النصرة» ومن «القاعدة» والذي كان جزءا من الهيئة الشرعية في جيش الفاتح، لإبادة العلويين، وفق لوند.
من ناحية ثانية، يعبِّر البروفسور الأميركي جوشوا لانديس، الخبير بالشؤون السورية والمتزوج من سيدة سورية علوية، أيضا عن الخطر الذي يهدد العلويين خلال حديث أدلى به إلى «الشرق الأوسط»، معتبرا أن الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي الذين تخلوا عن سوريا لن يستطيعوا حماية العلويين، «فكل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يهتم في المقام الأول باحتواء العنف في سوريا»، متوقّعا ثلاثة سيناريوهات محتملة لإنهاء الأزمة.
يتمثل الخيار الأول في تشكيل دولة يقودها السنّة من شأنها أن تتسلم الحكم بعد سقوط بشار الأسد، بقيادة «الإسلاميين»، وهنا لن يترك أي مجال للعلويين والمسيحيين والأقلية الدرزية. وفي حال عدم إدراج الأقليات أو ضمان مشاركتهم بصورة فاعلة، فإن مثل هذه الدولة لا شك ستقوم برد فعل على الفظائع التي ارتكبها الأسد وتوجه انتقامها نحو الطائفة العلوية التي تعتبر عنصرا أساسيا في المذابح التي ارتكبها النظام. وستحرص هذه التركيبة الجديدة على تطهير الإدارات والجهاز الأمني من الموالين للأسد السابقين، ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من أعمال الاضطهاد وتفكيك مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الأسد، مع تكرار سوريا أخطاء عراق ما بعد صدام وما بعد القذافي في ليبيا.
احتمال آخر، وفق لانديس، يقوم على ضمان بقاء الدولة السورية وحماية الأقليات فيها كالعلويين، عبر التوصل إلى اتفاق، على غرار «اتفاق الطائف» اللبناني الذي يقسم السلطة ويوزعها بين الطوائف، غير أن هكذا خيار لا يمكن أن يتبلور إلا برعاية قوى إقليمية. وبالطبع، يحتاج هذا الخيار أولا إلى تدمير «داعش»، وثانيا إلى أن تسير «جبهة النصرة» مع التيار السائد، وهو أمر يصعب تحقيقه، بحسب لوند، الذي يرى «أن (النصرة) تحاول التقرّب ممن تبقى من المتمردين لتجنب العزلة، وهي تنأى بنفسها عن الممارسات المتطرفة التي ينفذها (داعش). ولكن هذا لا يعني أبدا أن قيادة (النصرة) تخلت عن آيديولوجيتها التي تدعو إلى إخضاع الأقليات، ومنع النشاط الديمقراطي ومهاجمة الدول العربية، كما الغربية. وبطبيعة الحال، فإن الكثير من المقاتلين لن تجذبهم هذه الأهداف الجديدة، وقد يتخلون عن الجماعة إذا سارت في هذا الاتجاه». أما للتوصل إلى اتفاق سياسي على غرار «اتفاق الطائف»، فعلى المجتمع الدولي التحرك والقيام بما يتعدى الدعوات إلى المصالحة وإشراك الأقليات السورية. فالأقليات، وبخاصة العلويون، يحتاجون إلى ضمانات أمنية وإذا لزم الأمر، إلى قوة دولية لحفظ السلام، ما سيصعب على المجتمع الدولي تأمينه.
أضف إلى ذلك أن المعارضة السورية بحاجة إلى التوصل إلى تفاهم وإعادة هيكلة تدريجية وأكثر واقعية لمؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية، لتجنّب تجربة العراق، حيث أدى إبعاد حزب البعث إلى انهيار الأمن. ويرى لانديس، هنا، أن هذه الإمكانية تبقى أيضا بعيدة المنال، شارحًا أنه لاستمرار الدولة السورية ككل يجب أن تكون هناك «قوة احتلال» مثل ما حدث في العراق (مع الاحتلال الأميركي) أو في لبنان (مع الاحتلال السوري)».
والاحتمال الأخير الذي يرى لانديس أنه على الأرجح سيجري اعتماده يقوم على إنشاء «تجمّع علوي». وعلى الرغم من أن هذا السيناريو قد يكون الخيار الأفضل للطائفة العلوية، فإنه خيار كارثي إذا ما أخذنا في الاعتبار بقاء الدولة السورية على المدى البعيد، «فهذا يعني انسحاب النظام إلى المناطق الساحلية التي يسيطر عليها العلويون مع إبقاء السيطرة على العاصمة دمشق»، وفق لانديس. ويتابع الخبير الأميركي فيقول: «إن إيران تحبذ هذه الاستراتيجية بما أنها تريد أن تحافظ على ما تعتبره (مناطق سورية حيوية) تشمل المدن الساحلية والمدن الكبرى على غرار دمشق». وفي هذا السياق أوردت صحيفة «الديلي ستار»، اللبنانية الصادرة باللغة الإنجليزية، أن إيران أرسلت 15 ألف مقاتل إلى سوريا محاولة التعويض عن الخسائر الأخيرة التي لحقت بقوات النظام، وهي تسعى إلى رؤية نتائج ملموسة لدعمها هذا بحلول نهاية الشهر، وفق ما كشف للصحيفة مصدر سياسي لبناني. وحسب المصدر فإن الميليشيات التي تتألف من الإيرانيين والعراقيين والأفغان وصلت إلى منطقة دمشق وإلى محافظة اللاذقية الساحلية.. كما أن الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني، كان في اللاذقية هذا الأسبوع لدعم الاستعدادات للحملة الجديدة، وفق المصدر نفسه. مع ذلك، فإن محاولة تأمين «دولة علوية» ستؤدي لا محالة إلى تهجير قسري وحتى تطهير عرقي. ومحاولات الانفصال العلوية لضمان بقائها، ستؤدي إلى نوع جديد من الحرب العرقية مشابهة لـ«حرب البوسنة» الطائفية، حرب يبدو أنها قد بدأت بالفعل مع المزيد من القصف بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية التي أطلقها الأسد ضد المدنيين في المناطق المتنازع عليها.
أخيرًا، ومن أجل بقاء الدولة ككل، على المعارضة السورية أن توضح كيف تعتزم حماية العلويين والأقليات الأخرى بعد سقوط بشار الأسد من أجل بناء دولة مستقبلية من شأنها أن تشمل جميع الجماعات الدينية في سوريا. ولكن في خضم المعارك الضارية الحالية على الأرض، لأسباب معروفة جيدا، يبدو أن هذه المهمة ستكون صعبة جدًا على المعارضة السورية المتشرذمة أصلا، وصعبة أكثر على المجتمع الإقليمي الذي يشهد على نحو متزايد استقطابا على أسس دينية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.