الصحافي مستهدف من أطراف عدة تتقاتل على أرض العراق

عصابات الإجرام قتلوا شقيقي الأكبر وأجبرونا على الرحيل من العاصمة

مراسل «الشرق الأوسط» على خط النار
مراسل «الشرق الأوسط» على خط النار
TT

الصحافي مستهدف من أطراف عدة تتقاتل على أرض العراق

مراسل «الشرق الأوسط» على خط النار
مراسل «الشرق الأوسط» على خط النار

لم أكن أتوقع أبدا أن يأتي يوم تكون فيه «صاحبة الجلالة» التي أحببتها وعشقتها أن تكون وبالاً على حياتي وتفقدني أحد إخوتي وتتسبب في فقدان الكثير من الزملاء والأحبّة.
كنت أسمع قبل أن أخوض غمار تجربتي فيها بأنها مهنة المتاعب، وبعد دخولي عالمها الساحر في عام 1992 أدركتُ أنها ميزان للحق وقول الفصل الذي يعبّر عن رأي الحق دون أن ينظر إلى رأي الناقل (الصحافي)، حيث تعلمت من خلالها أن أنقل آراء الناس بأمانة تامة، الأمر الذي أعدمني رأيي أمام آراء ما يتم نقله من همومهم ومعاناة الناس.
وجدت العمل في الصحافة عالما يشبه ما يقال عن مهنة التمريض (ملائكة الرحمة)، عالما ملائكيا يساهم بشكل فعّال في بناء المجتمع العظيم.
أحببت عملي جدًا، وأعطيته وأعطاني، وكانت الأمور تسير على ما يرام إلى حين دخول القوات الأميركية لغزو العراق في 2003، حيث انقلبت أوضاع البلد تمامًا، وتغيّرت كل ملامح الدولة العراقية بالتغيير الجديد، وبدت ملامح الخراب تظهر في كل مشهد من مشاهد الحياة في العراق، بنوك مسروقة، ودوائر حكومية منهوبة ومحروقة، والفوضى تعم بلادا كانت تتطلع إلى أن تكون في مصاف الدول المتحضرة.
كل مفاصل الحياة تأثرت وتراجعت نحو الأسوأ في العراق بعد التغيير إلا الصحافة والإعلام، فرغم قرار حل وزارة الثقافة والإعلام في العراق من قبل سلطة الاحتلال الأميركي فإن هذا المفصل المهم ازدهر بشكل لافت للنظر، فبعد أن كانت الصحافة في العراق مقتصرة على المؤسسات الحكومية، بواقع خمس إلى عشر صحف، أصبح يطبع في العراق مئات الصحف اليومية، كما أصبحت عشرات القنوات الفضائية العراقية والإذاعات تتنافس في نقل ما يجري في العراق إلى العالم بعد أن كان العمل يقتصر على قناتين تلفزيونيتين، وأخرى فضائية، وإذاعتين في بغداد، وأخريين في البصرة والموصل.
توالت الأيام، وبدأ الصراع المسلح يشتد بين قوات الاحتلال والرافضين لوجوده وظهرت عشرات العصابات التي انتشرت في مدن العراق، والتي كانت تعمل على قتل الكفاءات العراقية كالأطباء والمهندسين وأصحاب الشهادات العليا، واستهدفوا أيضا شريحة الصحافيين الذين كانوا يفضحون ممارسات كل من يسيء للعراق وشعبه، فكان الصحافي العراقي مستهدفا من أطراف عدة تتقاتل على أرض العراق كتنظيم القاعدة والقوات الأميركية وعصابات مسلحة وتنظيمات طائفية، فكان العمل الصحافي هو الأخطر، وكان العراق البقعة الأخطر في العالم على هذه الشريحة.
العصابات تلك استهدفت الكثير من زملائي، وكنت أنا من بين هؤلاء فبعد أن هددوا عائلتي وأجبرونا على الرحيل من العاصمة قامت العصابات بقتل أخي الأكبر محمد طالب الدراسات العليا في كلية الإعلام جامعة بغداد في خضم تدهور الأوضاع الأمنية سنة 2006، كونه كان يعمل معي في الصحافة، هذا الحال ينطبق على الكثيرين من زملاء مهنتي.
وفي نفس سنة 2006 وقبل نهايتها بأيام كنت أنا من بين العشرات من الزملاء الصحافيين ننقل أحداث المعارك في مدن الأنبار ونواكبها ميدانيًا، ونقلنا لمؤسساتنا الصحافية والإعلامية ما كان يدور، وفي إحدى المعارك التي كانت تدور بين قوات الاحتلال الأميركي ومقاومين من أبناء البلد في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار تعرضت إلى إطلاق نار وأصبت في صدري وتم نقلي إلى مستشفى الرمادي، وبعد أشهر تعافيت وعدت إلى مهنة المتاعب.
فقدت الكثير من الأصدقاء والأحبة على مدى السنوات العشر الماضية وجرح عدد كبير منهم وتسببت بعض الإصابات في إعاقة العشرات من الزملاء.
واليوم، لن يتغير شيء من المشهد المؤلم، بل ازدادت المخاطر والصعوبات في العمل الصحافي في ضل تطور الإرهاب المتمثل بتنظيم داعش وظهور بعض الميليشيات وسقوط مدن بكاملها بيد التنظيم المتطرف.
واليوم، أنا أواكب المعارك التي تشتد بين القوات العراقية ومسلحي تنظيم داعش، وها أنا أنقل ما يجري من داخل أرض المعركة في مدن صلاح الدين والأنبار وديالي والموصل.
وأتذكر في إحدى معارك تحرير مدينة تكريت بقينا محاصرين لمدة يوم كامل بلا طعام أو شراء أنا وزميلي المصور آدم مهدي هادي والزميل علي فرحان ونيران قناصة داعش تستهدف المكان الذي كنا محاصرين به في منطقة الفتحة لحين أن تم تحرير المنطقة وتحريرنا أيضا من استهداف المسلحين.
وفور عودتنا كل إلى مدينته أبلغني زميلي آدم بأن جماعة مسلحة هددوه بالرحيل من محافظة ديالي فورًا وإلا تعرض للقتل وقد أبلغني بأن نفس الجماعة تستهدفني وهذا الأمر يتجدد في كل حين وفي كل مدينة أعمل بها.
مؤيد اللامي، نقيب الصحافيين العراقيين والنائب الأول لرئيس اتحاد الصحافيين العرب وعضو المكتب التنفيذي للاتحاد الدولي للصحافيين، قال في حديث لمراسل «الشرق الأوسط»، إن «العمل الصحافي في العراق هو في غاية الخطورة، خصوصا في مدن الأنبار وصلاح الدين والموصل، حيث تمت عمليات قتل واختطاف مورست ضد الصحافيين العاملين في تلك المناطق، إضافة إلى عمليات النزوح التي شملت الصحافيين وعوائلهم في تلك المناطق، وكذلك في مدن ديالي وكركوك، فهناك عدد كبير من الصحافيين الذين نزحوا من مناطقهم إلى مناطق وسط وجنوب العراق وإلى إقليم كردستان بعد أن سيطر مسلحو تنظيم داعش على مدنهم، وتم تهديدهم بشكل مباشر وغير مباشر. ورغم ما قدمناه للصحافيين من مساعدات قد تكون متواضعة بحكم إمكانياتنا في نقابة الصحافيين العراقيين فإننا نتابع ما يعانيه زملاؤنا النازحون الذين تعرضوا للخطر، وكذلك قضايا المختطفين، وقد تمكنا من إطلاق سراح عدد من الزملاء المختطفين، وأيضا اتفقنا مع وزارة الهجرة والمهجرين على معاملة الصحافيين كمعاملة بقية أهلنا من النازحين، والإسراع بتقديم المساعدات المادية، وتوفير السكن البديل لهم، وأيضا تم الاتفاق مع ممثلة منظمة أطباء بلا حدود، وهي مواطنة يمنية جاءت مبعوثة من قبل مقر المنظمة في سويسرا، لتقديم العون والمساعدة الطبية والعينية للصحافيين، خصوصا في الظروف القاسية التي يمر بها زملاؤنا من النازحين وما يعانونه في المخيمات».
وأضاف اللامي: «نحن نطالب الجميع في العراق باحترام العمل الصحافي والصحافيين وعدم إيذائهم، وعلى الجهات المتصارعة أن تعلم أن الصحافيين هم أناس مدنيون يعملون على توصيل صورة واضحة وحقيقية للرأي العام عما يجري في مناطق النزاع. لقد قدمت الأسرة الصحافية في العراق أكثر من 400 (شهيد)، وجرح المئات من الصحافيين، وما زالت الخطورة قائمة». وأوضح: «سنبدأ بفتح دورات للسلامة المهنية بالتنسيق مع الاتحاد الدولي الذي مقره بروكسل، وخلال أيام قليلة ستبدأ تلك التدريبات، فعلى الأقل سيتمكن صحافيونا من كيفية التعامل مع الأوضاع في المناطق الساخنة.. والنقابة تحاول بشتى الطرق توفير حماية للصحافيين في مناطق النزاع ومساعدتهم فنيا وتدريبيا وحتى في جوانب أخرى».



هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
TT

هل تنجح مساعي دمج صُنّاع المحتوى داخل غُرف الأخبار؟

صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)
صحف سعت لاجتذاب صُنّاع المحتوى (متداولة)

يبدو أن ثمة تطوراً جديداً ربما يظهر داخل «غرف الأخبار»، بعدما سعت صحف بارزة، مثل «واشنطن بوست»، لاجتذاب صُنّاع المحتوى بهدف «تعزيز التواصل مع الجمهور»، في حين أثارت مساعي دمج صُنّاع المحتوى (المؤثرون) داخل غُرف الأخبار تساؤلات بشأن «ضمانات التوازن بين المعايير المهنية والتكيّف مع تطلّعات الجمهور».

ووفق تقرير معهد «رويترز لدراسة الصحافة»، العام الماضي، فإن «الجمهور من الفئات الأقل من أربعين عاماً يعيرون اهتماماً أكبر لصُنّاع المحتوى، أو ما يطلقون عليهم لقب (مؤثرون)، بوصفهم مصدراً للمعلومات وكذلك الأخبار».

كما أشارت دراسة استقصائية ضمن مبادرة «بيو-نايت» الأميركية، المعنية برصد التغيرات في كيفية استهلاك الأخبار والمعلومات، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إلى أن أكثر من خُمس البالغين في الولايات المتحدة يعتمدون بانتظام على «المؤثرين» للحصول على الأخبار.

ومع ذلك، فإن معظم هؤلاء «المؤثرين» الذين ينشرون الأخبار لا ينتمون إلى مؤسسات إخبارية ولا يخضعون لتدريب صحافي. وحسب دراسة أجرتها منظمة «اليونيسكو» ونُشرت نتائجها، نهاية نوفمبر الماضي، فإن غالبية هؤلاء المؤثرين (62 في المائة) لا يتحقّقون من صحة المعلومات التي يشاركونها مع جمهورهم، ما يُثير مخاوف من انتشار «المعلومات الزائفة».

ومعروف أن ثمة تجارب بدأت تخوضها أخيراً غرف الأخبار للدمج بين الصحافي المدرب وصانع المحتوى صاحب الكاريزما والجمهور. وظهرت، في هذا الإطار، نماذج؛ مثل: «واشنطن بوست»، والمنصة الأميركية «مورنينغ بيرو» التي أطلقت بالفعل مبادرات يقودها صُنّاع محتوى على منصات التواصل الاجتماعي، غير أن الاتجاه لا يزال قيد التجربة والتقييم، حسب ما يبدو.

الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا»، مهران كيالي، رهن نجاح تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار بـ«تنظيم العلاقة بين الطرفين»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إنه «على غرف الأخبار أن توفّر لصُنّاع المحتوى أدوات؛ مثل: التحقق من المصادر، والالتزام بأخلاقيات الصحافة، في حين يقدّم صُنّاع المحتوى خبراتهم في الإبداع الرقمي وفهم الجمهور على المنصات الحديثة». وأضاف: «كما يجب تقنين العلاقة من خلال وضع إطار واضح يحدّد المسؤوليات وأسلوب العمل».

غير أن كيالي أشار إلى «تحديات أمام تجربة دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار»، قائلاً: «هناك نظرة سلبية من قِبل بعض الصحافيين التقليديين تجاه صُنّاع المحتوى، بل هم يعدونهم دخلاء على المهنة، رغم امتلاكهم جمهوراً واسعاً وتأثيراً كبيراً». وأضاف: «بعض المؤسسات الصحافية تعاني صعوبة التكيّف مع أسلوب المحتوى السريع والبسيط الذي يتناسب مع منصات التواصل الاجتماعي، خشية خسارة الصورة الوقورة أمام الجمهور».

وعدّ كيالي أن غرف الأخبار قبل أن تستعين بصُنّاع المحتوى، هي بحاجة إلى «التجهيزات والإجراءات التي تمكّن الصحافيين من إنتاج ونشر محتوى رقمي جذاب بسرعة».

وعن الحلول لتجاوز هذه التحديات، أوضح الخبير في إدارة وتحليل بيانات «السوشيال ميديا» أنه «يجب على المؤسسات تحديث سياساتها وتوفير الدعم الفني والتدريب اللازم للصحافيين، مع تغيير النظرة السلبية تجاه صُنّاع المحتوى والبحث عن تعاون».

وأشار كذلك إلى أهمية تحقيق التوازن بين المهنية والتطوير، قائلًا: «بعض غرف الأخبار تحتاج إلى تعزيز مصداقيتها بالالتزام بمبادئ الصحافة، من خلال تجنّب المصادر غير الموثوقة وتدقيق المعلومات قبل نشرها»، و«لجذب الجمهور، يجب تقديم محتوى يلامس اهتماماته بأسلوب مبسط مع استخدام أدوات حديثة مثل الفيديوهات القصيرة؛ مما يضمن الجمع بين الدقة والجاذبية لتعزيز الثقة بعصر المنافسة الرقمية».

المحاضرة في الإعلام الرقمي بالجامعة البريطانية في القاهرة، ياسمين القاضي، ترى أن بعض المؤسسات الإخبارية لا تزال تعتمد الاستراتيجيات «القديمة» نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «منذ سنوات تبنّت بعض وسائل الإعلام مفهوم (التحويل إلى منصات) من خلال جمع المعلومات وتدقيقها، وهو الدور الأصيل للصحافة، ثم نشرها بأسلوب يحاكي وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن هذا الاتجاه ربما لن يكون كافياً في ضوء احتدام المنافسة مع صُنّاع المحتوى، مما أفرز اتجاه الاستعانة بـ(المؤثرين)».

وأوضحت القاضي أن «الغرض من دمج صُنّاع المحتوى في غرف الأخبار، هو تقديم المعلومات المدققة بأسلوب مبتكر». وأضافت أن «الاستعانة بشخصية مؤثرة لنقل المعلومات لا تعني بالضرورة المساس بمصداقية المحتوى ودقته، فالأمر يعتمد على مهارة كُتّاب المحتوى، فكلما كان الكُتاب صحافيين محترفين يسعون لتطوير أدواتهم ضمنت منصة الأخبار تقديم معلومات دقيقة وموثوقة».