ذات يوم، كانت الانتخابات موسماً لتحقيق ربح تجاري كبير في وسائل الإعلام الإسرائيلية. وكان هناك مَن يُصدر صحفاً خصيصاً للمعركة الانتخابية، إذ إن الصحف التقليدية لا تكفي لنشر الإعلانات الانتخابية. أما اليوم، فعندما تُجرى الانتخابات للمرة الخامسة على التوالي في غضون ثلاث سنوات ونصف السنة، يتعذر على الصحافة إيجاد ترياقها.
السبب ليس لأن الأحزاب ما عادت بحاجة إلى تواصل مع جمهور الناخبين لكسب أصواتهم. فالواقع أنه، حسب الاستطلاعات، ثمة ما يعادل 20 في المائة من الناخبين لا يقررون لمَن سيقترعون إلا في الأيام والساعات الأخيرة، وهذا بينما تسعى الأحزاب جاهدة للوصول إليهم وإقناعهم بالتصويت لها.
ما حدث، هو أن مكانة الصحافة تراجعت على صعيد التواصل مع الجمهور، وبالتالي، التأثير عليه. وحسب استطلاع أجراه «المعهد الإسرائيلي للديمقراطية» فإن 54 في المائة من الجمهور الإسرائيلي يتغذى اليوم من شبكات التواصل الاجتماعية وليس من الصحافة. ولكن، مع هذا، لا تتنازل الأحزاب عن وسائل الإعلام في دعايتها الانتخابية، بل تستخدمها في الإعلانات التجارية، وكذلك في المادة الصحافية... وإن بشكل محدود، أقل كثيراً عن الماضي.
«الجيروزاليم بوست»
البداية أيام الانتداب
نشأت الصحافة الإسرائيلية في زمن الانتداب البريطاني قبل ولادة إسرائيل بعشرات السنين. وفي البدايات كانت موالية لقيادة الحركة الصهيونية، وجزءاً لا يتجزأ من أدواتها اللازمة لتأسيس دولة يهودية في فلسطين. وبعد قيام إسرائيل ناورت هذه الصحافة بين طابع «الصحافة الاشتراكية» على النمط السوفياتي، وبين النمط الغربي للصحافة الحرة. وتحولت هذه المناورة بمرور الوقت إلى صراع بين طريقين، حُسم لصالح الصحافة الغربية.
بنيامين نتنياهو
ومن ثم، تحولت الصحافة في إسرائيل إلى «سلطة رابعة» ترتكز على الاستقصاء والتحقيق وتحارب الفساد وتكابد الحكومة، أي حكومة بغض النظر عن هويتها السياسية، وتطيح أرضاً بمسؤولين كثيرين. وكمثال، أدت تحقيقات الصحافة الجريئة إلى زج رئيس الدولة موشي قصاب في السجن بعد إدانته بالاعتداء الجنسي على موظفاته، وكذلك سجن رئيس الوزراء إيهود أولمرت بعد إدانته بالفساد، ووزير المالية أبراهام هيرشنزون بتهمة فساد، إلى جانب قائمة طويلة من رؤساء البلديات وكبار الموظفين. وبجانب هذا دفعت تحقيقات الصحافة رئيس الدولة عيزرا فايتسمان إلى الاعتزال بعد كشف فضيحة تلقيه أموالاً من جهات فلسطينية.
لكن اليوم، بعد 12 سنة من عهد بنيامين نتنياهو، هبطت مكانة الصحافة في إسرائيل إلى أدنى مستوى ممكن. طبعاً من أسباب ذلك ما تعانيه الصحافة كلها في العالم، جراء انتشار الشبكات الاجتماعية. ولكن أحد أهم الأسباب لتراجع مكانة الصحافة في إسرائيل يعود إلى الحرب الانتقامية التي يخوضها ضدها نتنياهو. وهذه الحرب تخيم اليوم على المعركة الانتخابية الجديدة، كما حصل في الجولات الأربع التي أجريت خلال السنوات الثلاث الماضية.
نتنياهو، ورغم أنه يتباهى بالانتماء إلى «العالم الحر» وبنقل إسرائيل إلى أعلى درجات السلم في عالم التكنولوجيا، يعتبر محافظاً جداً في التعاطي مع حرية الصحافة. وهو يخوض حرباً ضروساً لتقليص أجنحتها، ولا يحتمل منها أبسط الانتقادات. وخلال السنوات الماضية، دأب نتنياهو في خطابه السياسي على تحريض الجمهور ضد الصحافة، واضعاً إياها في حزمة واحدة مع الشرطة والنيابة والجهاز القضائي «الذين يتعاملون - حسب زعمه - باستعلاء مع الشعب ويحاولون الإطاحة بالقادة المحبوبين الذين انتخبهم الشعب».
اختبار آخر للصحافة الإسرائيلية
عداء نتنياهو للصحافة
في هذه «الحرب» اتخذ نتنياهو إجراءات عملية لضرب تأثير الإعلام، فأسس صحيفة يومية مجانية هي «يسرائيل هيوم» تُعد منذ عام 2010 الأكثر انتشاراً. هذه الصحيفة يملكها الزوجان المليارديران الأميركيان - الإسرائيليان شيلدون وميريام أدلسون، اللذان يخسران 6 ملايين دولار في الشهر للصرف عليها، وتُعتبَر ناطقة بلسان زعيم الليكود ورئيس الحكومة السابق. ثم إن رئيس تحريرها بوعز بوسموت أصبح مرشحاً في مكان مضمون في قائمة مرشحي الليكود للانتخابات المقبلة. وأسس، أيضاً، قناتين تلفزيونيتين (القناة 20 والقناة 14) يمينيتين تعتبران بوقاً لنتنياهو، كما أطلق عدة مواقع إخبارية، وحاول احتواء صحيفة «يديعوت أحرونوت» وعقد صفقة معها (بسبب ذلك يُحاكم نتنياهو في قضايا الفساد) واحتواء موقع «واللا» الإخباري (وهذا أيضاً موضوع آخر في محاكمته).
في الحقيقة ما عاد سراً أن الصحافة في إسرائيل تدخل المعركة الانتخابية الجديدة وهي في موضع الدفاع عن النفس. فهي من جهة تريد أن تتخلص من عهد نتنياهو، ومن جهة ثانية تخشى أن تنجح دعايته الانتخابية ويعود إلى الحكم مزهواً بانتصاره وأكثر شراسة في عدائه لها.
وفي هذه الأثناء، يختل التوازن المطلوب للصحافة في خوض الانتخابات العامة. وبدلاً من أن يكون دورها «مهنياً»، فتفرض على الساسة المتنافسين دعاية انتخابية راقية يوضحون فيها مواقفهم من القضايا الأساسية ويتعاطون معهم بشفافية، ويكشفون الحقائق حول تصرفاتهم وصفقاتهم وحقيقة مواقفهم، باتت غالبية الصحافة تعمل كما لو أنها من الأمم المتحدة. إذ إنها تنشر للجميع ما يريده الجميع. وتدافع عن نفسها أمام الهجمات، التي صار يطلقها ليس نتنياهو وحده... بل جميع السياسيين في اليمين. بل إن بعضها يحاول إرضاء هذا التيار، حتى على حساب المهنية الموضوعية. كذلك صارت الصحافة تتعرض لانتقادات أيضاً من اليسار الذي يتهمها بالرضوخ لنتنياهو ومعسكره اليميني.
أكثر من هذا، فإن الصحافة الإسرائيلية تتعرض أيضاً للانتقاد من المواطنين العرب (فلسطينيي 48)، الذين يشكلون نسبة 19 في المائة من السكان و15 في المائة من الناخبين، لكنهم لا يظهرون في الصحافة الإسرائيلية إلا بنسبة بين 3 في المائة و4 في المائة فقط. وفي خضم هذه الصراعات مع كل الجهات، تتنافس الصحافة فيما بينها على حصة كل منها من كعكة ميزانية الدعايات الانتخابية للأحزاب. فوفق «قانون تمويل الأحزاب» الإسرائيلي هناك ميزانية تخصص من خزينة الدولة لكل نائب بقيمة نحو نصف مليون دولار، في كل معركة انتخابية. هذا يعني أن حزباً مثل الليكود، الذي يقوده نتنياهو، يحصل على نحو 16 مليون دولار في هذه الانتخابات، كونه ممثلاً في الكنيست (البرلمان) بثلاثين نائباً. ولقد خصص من هذه الميزانية فقط 800 ألف دولار للدعاية في الصحافة، في إطار حربه عليها، مع العلم بأن حزباً صغيراً مثل «العمل» أو «القائمة العربية الموحدة» للحركة الإسلامية أو «القائمة المشتركة للأحزاب العربية»، خصصت كل منها أربعة أضعاف ميزانية الليكود.
تقصير... أمام تحدي الشبكات الاجتماعية
بالطبع، الصحافة أيضاً تبادل نتنياهو «مشاعره». فهي وإن كانت تتعامل معه بحذر شديد، فهي لا ترحمه عندما تتاح لها الفرصة.
صحيح أنها تحرص كثيراً على إعطائه منصة، كي لا يُقال إنها غير موضوعية، لكنها في المقابل تتابع خطواته بالمليمتر، وتكشف حبائله ضد الجهاز القضائي وضد المحكمة العليا وضد الشرطة وأجهزة نفاذ القانون الأخرى وتتابع محاكمته في قضايا الفساد وتهتم بنشر صورته وهو في قاعة المحكمة كمتهم.
من ناحية ثانية، المشكلة في هذه المعركة أن المهمات الأساسية للصحافة في الانتخابات تضيع بين الكراسي. فالمعروف أن كثيرين من الساسة يمارسون في دعايتهم الانتخابية الكذب والتضليل وإطلاق الوعود الطنانة وتشويه الخصم وتجميل الرفيق وتبييض الصفحات السوداء وإضاعة المواضيع الأساسية. ومهمة الصحافة - كما هو مفترض - هي إظهار الحقيقة للجمهور. وهنا نجد التقصير الفاحش للإعلام الإسرائيلي. ففي كثير من الأحيان يتبع الإعلام موقفاً متحيزاً إلى جانب خصوم نتنياهو (في الصحافة المستقلة) أو ضد خصوم نتنياهو (في الصحافة اليمينية). والساسة يدركون أن الشبكات الاجتماعية تحتل أكبر حيز في اهتمام الجمهور، فيبتعدون عن الصحافة ويركزون دعايتهم في هذه الشبكات. وحقاً، ينشر نتنياهو وساسة كثيرون ثلاثة وأربعة أشرطة مصورة وعشرات المنشورات في الشبكات الاجتماعية في كل يوم، في حين تتسم المعركة الانتخابية أكثر فأكثر بشيء من السطحية. وفي هذه الحالة تفقد الصحافة ليس المال فحسب بل ثقة الجمهور أيضاً.
وأخيراً، على صعيد القضايا الكبرى، مع أن الانتخابات جاءت لتفرز قيادة ستواجه تحديات في قضايا كبرى مصيرية، نجد أن هذه القضايا تغيب عن المشهد الانتخابي. الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مثلاً، يبدو في الانتخابات الإسرائيلية كأنه موضوع «خيانة» لدى اليسار و«قضية وطنية» لدى اليمين... والصحافة لا تتطرق إليه. أيضاً موضوع العلاقة مع الولايات المتحدة يصبح كرة في ملعب تتناقلها الأرجل بين «ساحة» الحزب الجمهوري و«ساحة» الحزب الديمقراطي، بعدما كانت إسرائيل بكل أحزابها في فريق واحد مع الحزبين الأميركيين. وأخيراً، فيما يخص قضية إيران، فهي غدت سباق «جمع نقاط» حزبية، مع أن النشاط الأساسي هنا يقوم به الجيش ومجتمع الاستخبارات.