كان أمراً غريباً - أو صادماً لو شئتُ التوصيف الدقيق - عندما قرأتُ خبراً يفيدُ بنشر الترجمة العربية لرواية «دعابة لا نهائية (Infinite Jest)» للروائي الأميركي الراحل ديفيد فوستر والاس David Foster Wallace. كيف يمكنُ أن يتوقع المرء إقدام دار نشر عربية على نشر ترجمة عربية لرواية ضخمة تجاوزت الألف صفحة في نصها الإنجليزي، وتنطوي موضوعاتها على خلطة غريبة من أحاديث عن الفلسفة واللغة ولعبة التنس والطبيعة الرياضياتية لمفهوم اللانهاية والألعاب الكومبيوترية و...و...و...؟ صحيح أن هذه الرواية حققت مبيعات قاربت تخوم النصف مليون نسخة في أميركا وحدها؛ لكنها ظلت رواية إشكالية حتى في العالم الغربي من حيث تجنيسها وطبيعة موضوعاتها؛ فالقارئ الغربي في نهاية الأمر ليس كائناً مصنوعاً من عقل خالص، بل يسعى - مثل سواه - إلى قدر غير قليل من التشويق فيما يحب قراءته من أعمال روائية أو غير روائية، ورواية مثل رواية والاس قد لا تكون خياراً مناسباً له، خصوصاً أنها ضخمة تستقطعُ قدراً ليس بالقليل من وقت القارئ وماله، ثم إن الرواية الموسوعية تستلزمُ - بالضرورة - قارئاً موسوعياً أو ذا ميل قرائي يستطيب النزعة الموسوعية ولا ينفر منها، وهذا النوع من القراء نادر للغاية. هذا في العالم الغربي؛ أما في عالمنا العربي فالمعضلة أكثرُ تعقيداً؛ لأن القارئ العربي ليس معتاداً على قراءة المطولات الروائية، ثم إن ترجمة مثل هذه الأعمال ليست موضوعاً يسيراً من الناحيتين العملية والإجرائية. قاربت الترجمة العربية تخوم ألفي صفحة، وهذا يفرضُ عبئاً تسويقياً ثقيلاً على دار النشر، فضلاً عن أن كثرة من المترجمين يفضلون ترجمة 5 أو 6 كتب، وربما أكثر، في موضو ليست بالمفهوم السائد في الأدب الروائي عربياً وعالمياً عات مختلفة بدلاً من ترجمة عمل واحد مفرط الطول تشتبك موضوعاته بطريقة غريبة وغير معهودة في الفن الروائي السائد.
عاش ديفيد فوستر والاس (1962 - 2008) حياة مضطربة عبث بها الاكتئاب المرضي، وربما من المفيد للقارئ أن يقرأ تفاصيل عن هذه الحياة التي كانت دراما حقيقية كاملة الجوانب. امتلك والاس عقلاً رياضياتياً وفلسفياً لامعاً، وهو ما نجد آثاره منعكسة في أعماله؛ منها: «كل شيء وأكثر: تاريخ مختصر للانهاية» (2003)، وقد تُرجم إلى العربية. يستطيع القارئ الشغوف مراجعة حوار مع والاس عنوانه: «العالم في دعابته اللانهائية» ترجمتُهُ ونشرته في كتابي «فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة» ضمن حوارات مع نخبة من الروائيات والروائيين.
يمكن أن تكون رواية «دعابة لا نهائية» عملاً فلسفياً، أو رواية موغلة في نزعتها ما بعد الحداثية. قد نختلف في تجنيسها؛ لكننا لا أظن سنختلف في توصيفها «رواية موسوعية (Encyclopedic Novel)».
ليست الرواية الموسوعية بالمفهوم السائد في الأدب الروائي عربياً وعالمياً. لو تصفح أحدنا - مثلما فعلتُ - القارة الغوغلية بحثاً عن الرواية الموسوعية فلن يجد الكثير: سيعرف أن الرواية الموسوعية مفهوم أدبي كتب عنه وروج له إدوارد ميندلسون Edward Mendelson أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وقد جاءت مساهمته التأصيلية عبر مقالتيْن كتبهما عام 1976؛ الأولى بعنوان «السرد الموسوعي»، والثانية بعنوان «موسوعة الجاذبية». باستثناء هاتين المقالتين لم أعثر على مادة حيوية بشأن الرواية الموسوعية ما خلا رسالة دكتوراه في جامعة منيسوتا أتاحها كاتبها للنشر المجاني، وفصل عنوانه: «الرواية باعتبارها موسوعة» في كتاب: «دليل كامبردج المرجعي في الرواية» المنشور عام 2018.
الموضوعة الرئيسية في رواية «دعابة لا نهائية» (أو «دعابة لا تنتهي» كما وردت في الترجمة العربية) هي العودة المتواترة، وهذا مصطلح تقني نوعاً ما ويُستخدم بكثرة في المنطق والرياضيات.
كان ديفيد فوستر والاس مولعاً أشد الولع بفكرة العودة المستديمة، وهو يعالج في روايته موضوعات عدة أرى أن أهمها الألعاب المختلفة التي نلعبها في حياتنا، وأغلب تلك الألعاب من النوع الذي يعتمد مفهوم العودة المتواترة، مثل الكيفية التي نتيه بها مع أنفسنا ونحن نلعب الألعاب الكومبيوترية التي يُراد منها أن تُغرِق إحساسنا بالعزلة والوحدانية والبؤس، وقد تشعرنا هذه الألعاب بأننا نحرز تقدماً في حياتنا؛ ولأن هذه الألعاب تنزع نزوعاً لا نهائياً؛ فقد يكون إحساسنا بالتقدم وهماً خالصاً!!؛ ولكن ربما على المستوى البشري؛ فإن هذه الألعاب لا تعدو وهماً بصورة لا يمكن نكرانها، وقد وظف والاس هذا المنحى المزدوج بشأن النظر إلى هذه الألعاب. هذا جانب فحسب من جوانب نظرة والاس إلى الحياة البشرية المعاصرة، وربما نرى فيها ارتكاناً إلى فرضية علمية ترى أن الحياة البشرية ليست أكثر من محاكاة كومبيوترية!!.
وظف والاس في عمله الملحمي الضخم هذا كل أنواع الحبكات المختلفة والمتقاطعة، ثم ينتهي في آخر الأمر بتقديم شيء ما لنا، ويطلب إلينا أن نعمل على تفسيره بحسب ما نراه. لا يفرض والاس على القارئ رؤية مسبقة؛ بل يتيح لكل قارئ النظر إلى ما يقرأ ومساءلته من وجهة نظره الخاصة ومرجعياته الفكرية الشخصية. إن رواية والاس تقارب موضوعة الوحدة اللانهائية، وهو يرى أن واحدة من أهم الألعاب التي نلعبها (وهي اللغة) يُراد منها في الأساس أن تساعدنا ليفهم أحدنا الآخر ولكي نخفف من غلواء عزلتنا المستكينة؛ ولكن اللغة بوصفها لعبة محكومة بقواعد محددة تبدو واهنة تماماً وعاجزة عن إنجاز تلك المهمة. إن هذه اللعبة ونظائرها يمكن أن تكون نوعاً من إدمان؛ أي بمعنى طريقة للعب الجماعي معاً كما لو كنا جماعة فعلاً غير أننا في واقع الحال لسنا كذلك!! وتبقى الوحدانية والحزن سمتين مُعَلمتين في قلب تلك اللعبة. إن حقيقة عزلتنا الصارخة موضوعة جوهرية في أغلب الأدب المتداول، وهذا أمر يبعث على الإمتاع (مثلما نظن جميعنا)؛ لأن الأدب عندما يعمل على تعميم الإحساس بأكثر تجاربنا الإنسانية مشاعية فإنه يرتقي بهذا الإحساس بالعزلة نحو مديات أبعد؛ غير أن والاس يصرح في روايته بنزوعه الشكوكي تجاه هذه الإشكالية. إن رواية والاس في المقام الأعلى رواية عن اليأس المطبق، وإن اليأس فيها يحمل شحنة من الإمتاع بقدر ما يبعث على القنوط، ولكن لا بد من القول إن المتعة المطلوبة في هذه الرواية ليست أكثر من عنصر صغير من العناصر التي أرادها والاس حاضرة في روايته. قد يرى بعضُ القراء أن رواية والاس الموسوعية تنتمي إلى جنس «أدب اليأس»، وقد يكون لهم ما يسوغ نظرتهم؛ لكن تبقى الرواية باعثة على الإمتاع لكل من يمتلك شغفاً فلسفياً ورؤية تستكشف الخيوط الخفية بين الأشياء والأفكار.
ماذا عن الرواية الموسوعية في عالمنا العربي؟ أظنها نادرة غير شائعة على مستوى الروائيين والقراء؛ لكن لو شئتُ تسمية روائي عراقي ذي نزعة موسوعية في رواياته فسأختارُ برهان شاوي، ولا أظن أن روائياً عربياً ينازعه في مقدرته الروائية الموسوعية التي تجلت بأفضل تجلياتها في سلسلة «المتاهات»، ولعل السبب في تميز شاوي الموسوعي خلفيته المعرفية التي تجمع بين العلم والأدب والفلسفة والسينما والرواية والترجمة. يختلف شاوي عن والاس بأن موسوعيته ذات طبيعة فكرية - فلسفية تتناول المعضلات الوجودية المتواترة منذ البدايات الأولى لوجود الكائن البشري؛ أما موسوعية والاس فهي موسوعية موضوعاتية قد تبدو يومية شائعة (بل وحتى مبتذلة)؛ لكن والاس يمتلك المهارة في ربطها فلسفياً برباط أشبه بحبل نيتشوي غير مرئي. شخوصُ شاوي هم نسخٌ متعددة بالآلاف من آدم وحواء؛ أما شخوص والاس فمشخصون معروفون بأسمائهم؛ قد يكون بينهم لاعب تنس أو مقدم برامج ترفيه أو عامل توصيل للبيتزا أو...
يصف شاوي في سلسلة «المتاهات» مرجعياته الأدبية بأنها «متعددة، وهي كل ما قرأه وعاشه وخبره وجربه في حياته، ومرجعياته مصنفة فكرياً، فلسفياً، أدبياً، فنياً، نفسياً، تاريخياً، وعلمياً، وهو لا يخفيها كما يفعل البعض؛ فهو يستشهد بالكتب والكُتاب والأفلام والأغاني والموسيقى واللوحات التشكيلية ونظريات العلم والكون وطروحات المفكرين وعلماء النفس، ويتوقف محاوراً مشاهد وشخصيات من أعمال أدبية لكُتاب تتلمذ على أعمالهم...».
وصف دي. إج. لورنس الرواية بأنها «كتاب الحياة المشرق»، وأظن - على خلاف الرأي السائد - أن الرواية الموسوعية ستكون الصفحة الأكثر إشراقاً في «كتاب الحياة المشرق» هذا في العقود المقبلة.
ماذا عن الرواية الموسوعية؟
ليست بالمفهوم السائد في الأدب الروائي عربياً وعالمياً
ماذا عن الرواية الموسوعية؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة