«جيش المعاطف البيضاء» الكوبي... بين التضامن الإنساني والرَفد المالي

أطباء كوبيون يحملون صورة فيدل كاسترو قبل توجههم إلى إيطاليا عام 2020 للمساعدة في التصدي لجائحة «كورونا» (أرشيف رويترز)
أطباء كوبيون يحملون صورة فيدل كاسترو قبل توجههم إلى إيطاليا عام 2020 للمساعدة في التصدي لجائحة «كورونا» (أرشيف رويترز)
TT

«جيش المعاطف البيضاء» الكوبي... بين التضامن الإنساني والرَفد المالي

أطباء كوبيون يحملون صورة فيدل كاسترو قبل توجههم إلى إيطاليا عام 2020 للمساعدة في التصدي لجائحة «كورونا» (أرشيف رويترز)
أطباء كوبيون يحملون صورة فيدل كاسترو قبل توجههم إلى إيطاليا عام 2020 للمساعدة في التصدي لجائحة «كورونا» (أرشيف رويترز)

قد يفاجأ البعض عندما يقرأ أن كوبا الفقيرة سترسل أطباء إلى دولة أوروبية هي عضو أساسي في الاتحاد الأوروبي، بسبب نقص حاد تعانيه في الجسم الطبي.
497 طبيباً كوبياً سيتوجهون إلى إقليم كالابريا في جنوب إيطاليا في إطار برنامج لإرسال فائض الجزيرة من الأطباء إلى البلدان المحتاجة.
الواقع أن منطقة كالابريا تشهد نقصاً في أعداد الأطباء منذ العام 2010 في إطار أزمة تواجه قطاع الرعاية الصحية في جميع أنحاء إيطاليا، ولم تتمكن السلطات المحلية في هذه المنطقة الفقيرة، مقارنة بمناطق إيطالية أخرى، ولا الحكومة المركزية في روما من سد هذا النقص بأي وسيلة متاحة، خصوصاً أن أفراد الجسم الطبي في إيطاليا من أطباء وممرضين وسواهم يتجنبون العمل في الجنوب حيث الدخل متدنٍّ.
قال حاكم كالابريا روبرتو أوكيوتو: «كل الأقاليم تبذل قصارى جهدها لتوظيف أطباء لكنها لا تجد أيا منهم... وهذه المشكلة أكثر حدة في كالابريا».
منذ ثورة فيدل كاسترو والأرجنتيني إرنستو تشي غيفارا ورفاقهما الشيوعيين عام 1959، اعتمدت كوبا التركيز على الجهاز الطبي والرعاية الصحية وأطلقت لاحقاً ما يسمّى «الدبلوماسية الطبية». وفي 1963 أرسلت أولى طلائع «جيش المعاطف البيضاء» إلى الجزائر، ثم كرّت السبحة وشمل التدخل الطبي الكوبي مواقع الكوارث وتفشي الأمراض في جميع أنحاء العالم تحت شعار التضامن الإنساني.
عام 2007 كان لدى كوبا أكثر من 30 ألفاً من العاملين الصحيين، من بينهم 19 ألف طبيب، يقدّمون العون في 103 دول. ثم ارتفع عدد الكوادر الطبية الكوبية العاملة في الخارج قبل أن يتراجع من 50 ألفًا عام 2015 إلى 28 ألفًا عام 2020، وفق أرقام رسمية في هافانا.
وعلى سبيل المثال، يعمل 16 طبيباً كوبياً حالياً في المالديف بموجب اتفاق وقّعته وزارتا الصحة في البلدين عام 2021، على أن يرتفع العدد بالتدريج. وفي المكسيك يعمل 500 طبيب كوبي ذوي اختصاصات مختلفة في 15 من ولايات البلاد، بموجب عقود بين الدولتين.
وفيما تنتقد الإدارة الأميركية البرنامج الكوبي وتعتبر أن فيه استغلالاً لمهارات الجسم الطبي الكوبي بغية تأمين مورد من العملات الصعبة للبلاد في موازاة عدم منح الأطباء ما يستحقونه من مداخيل، تؤكد هافانا أن هذا العمل ينطلق من أسس إنسانية قائمة على فلسفة التضامن بين البشر في كل أصقاع الأرض.
جدير بالذكر أن نحو 40 دولة في القارات الخمس، بما في ذلك إيطاليا، استفادت في ذروة جائحة «كوفيد - 19» من خدمات مسعفين كوبيين. وقد أثنت شخصيات عالمية على ذلك الجهد، ومن هؤلاء المخرج الأميركي مايكل مور الذي رسم صورة سلبية للنظام الصحي الأميركي في فيلمه الوثائقي «سيكو» Sicko، مشيداً في المقابل بالنظام الصحي في كوبا.
في أي حال، لا يمكن الإنكار أن كوبا تملك جهازاً طبياً متطوراً ونظام رعاية صحية متقدماً. وربما يكفي القول إن في كوبا التي تضم 11.33 مليون نسمة أكثر من 100 ألف طبيب، بواقع 9 أطباء لكل ألف نسمة تقريباً، وهي أكبر نسبة في العالم. وعلى سبيل المقارنة، كان في فرنسا 266 ألفاً و470 طبيباً بواقع 6.5 لكل ألف نسمة عام 2018. وفي الولايات المتحدة كان هناك مليون و18 ألف طبيب بواقع 2.6 لكل ألف نسمة عام 2020.
في العام 2019 تخرج أكثر من 10 آلاف طالب في تخصصات طبية من جامعات هافانا وحدها، منهم 1535 أجنبياً. ومن بين من بين أكثر من 485 ألف شخص يعملون في نظام الصحة الوطني الكوبي، هناك حوالي 243 ألفاً من الاختصاصيين في مختلف فروع العلوم الطبية الذين يعملون في أكثر من 13 ألف مؤسسة صحية في البلاد.
يقدّر خبراء أميركيون بسبعة مليارات دولار ما يوفره سنوياً الجسم الطبي الكوبي العامل في الخارج، وبالتالي ينتقدون وصف المهمات الكوبية بالـ«إنسانية»، ويعتبرون أن الدافع الذي يقف خلفها هو رفد خزينة الدولة بالعملات الصعبة. ويُذكر في السياق أن الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو انتقد وجود أطباء كوبيين في البرازيل بُعيد انتخابه عام 2018، معتبراً أن النظام الكوبي يستغلهم ليرفد نفسه بالمال. وقد أمرت هافانا آلاف الأطباء يومذاك بتوضيب أمتعتهم والعودة إلى بلادهم، علماً أن 8300 من هؤلاء عملوا في البرازيل خلال عهد الرئيسة ديلما روسيف، وكانوا يحصّلون سنوياً 350 مليون دولار حسب مجلة «تايم» الأميركية.
لا شك في أن الدبلوماسية الطبية التي اعتمدتها كوبا فتحت لها أبواب العلاقات والتبادل مع دول كثيرة، فيما كانت البلاد ترزح تحت عبء العقوبات الأميركية القاسية. وإذا كانت هذه الدبلوماسية قد درّت على الخزينة الكوبية أموالاً، فإنها في الوقت نفسه قدّمت خدمات حيوية لدول أصابتها كوارث، وأخرى تعاني أنظمتها الصحية ضعفاً. وفي النهاية يبقى العون الطبي السليم مفيداً من أي جهة أتى...


مقالات ذات صلة

منع طبيب متهم في قضية وفاة ماثيو بيري من ممارسة الطب

الولايات المتحدة​ الممثل ماثيو بيري في مركز «بالي للإعلام» في بيفرلي هيلز بكاليفورنيا بالولايات المتحدة في 15 مارس 2017... توفي بيري في 28 أكتوبر 2023 (رويترز)

منع طبيب متهم في قضية وفاة ماثيو بيري من ممارسة الطب

أصدر قاضٍ بمحكمة اتحادية في الولايات المتحدة حكماً بمنع طبيب متهم في قضية وفاة ماثيو بيري نجم مسلسل «فريندز» بسبب جرعة زائدة من مادة الكيتامين، من ممارسة الطب.

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
تكنولوجيا كيسي هاريل رجل يبلغ من العمر 45 عاماً يعاني من التصلب الجانبي الضموري (UC Davis Health)

تحويل الأفكار إلى كلام... بارقة أمل لمرضى التصلب الجانبي الضموري

تعتمد التقنية على تحويل الإشارات العصبية في الدماغ إلى نصوص منطوقة ما يمكّن المرضى من «التحدث» بأفكارهم بدقة تصل إلى 97.5 في المائة.

عبد العزيز الرشيد (الرياض)
صحتك أنابيب اختبار تحمل علامة «فيروس جدري القردة إيجابي وسلبي» في هذا الرسم التوضيحي الملتقط في 23 مايو 2022 (رويترز)

«الصحة العالمية»: الحاجة ملحة إلى لقاحات مضادة لـ«جدري القردة»

ذكرت رئيسة مجموعة استشارية أفريقية للتحصين من الأمراض، تابعة لمنظمة الصحة العالمية، أن هناك حاجة ملحة إلى لقاحات مضادة لـ«جدري القردة».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
صحتك اللقاح مصمم لعلاج سرطان الرئة ذي الخلايا غير الصغيرة (رويترز)

سرطان الرئة: لقاح مبتكر قد يحسن معدلات النجاة

يختبر العلماء لقاحاً جديداً لمكافحة سرطان الرئة لأول مرة على المرضى في المملكة المتحدة، وفقاً لصحيفة «إندبندنت».

«الشرق الأوسط» (لندن)
صحتك شابة تجري فحصاً لدى طبيبة أمراض جلدية (أرشيفية - رويترز)

ملاحظة هذه العلامة على بشرتك قد تعني مشكلة في القلب

إذا ظهرت لدى شخص «بقع حمراء أو زرقاء اللون على الجلد الأبيض، أو بقع داكنة أو بنية اللون على الجلد الأسود والبني، فربما يكون يعاني من مشكلة في القلب».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

كاراكاس تنتقل من الدفاع عن «فوز» مادورو إلى شن هجوم واسع على قادة المعارضة

رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)
رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)
TT

كاراكاس تنتقل من الدفاع عن «فوز» مادورو إلى شن هجوم واسع على قادة المعارضة

رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)
رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو (أ.ف.ب)

بعد مضي شهر على الانتخابات الرئاسية الفنزويلية التي ما زالت نتائجها موضع خلاف عميق، وتسببت في أزمة تهدد بانفجار اجتماعي جديد، يبدو النظام واثقاً من قدرته على الصمود في وجه الضغوط الإقليمية والدولية، بعد أن انتقل من الدفاع عن «فوز» نيكولاس مادورو إلى شن هجوم واسع على قادة المعارضة والجهات الخارجية التي تدعمها.

مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية في فنزويلا إدموندو غونزاليس يتحدث إلى مناصريه 30 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

آخر الخطوات التصعيدية التي أقدم عليها النظام كانت استدعاءً يتعلق بتحقيق جنائي وجهته النيابة العامة، الخميس، إلى مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس للمثول أمام القضاء من أجل استنطاقه حول تهم التآمر والتحريض على التمرد، وتحذيره من أنه في حال عدم مثوله سوف تصدر في حقه مذكرة جلب بوصفه فاراً من وجه العدالة. وتعيد هذه الخطوة إلى الأذهان الإجراءات التي كان يلجأ إليها النظام في السابق لملاحقة قيادات المعارضة ورموزها، إذ كان يعتقل بعضاً منهم، ويدفع آخرين إلى اللجوء في السفارات أو مغادرة البلاد سراً.

وقال مكتب المدعي العام إنه أصدر أمر استدعاء ثالث بحق غونزاليس، وفقاً لمنشور عبر حسابه على موقع «إنستغرام». وتم استدعاء غونزاليس ليمثل أمام مكتب المدعي العام في الساعة العاشرة صباح اليوم (الجمعة).

جانب من مظاهرة داعمي الرئيس نيكولاس مادورو في كاراكاس 17 أغسطس (إ.ب.أ)

وفيما لا يزال غونزاليس متوارياً عن الأنظار في كاراكاس، أكّدت زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي ما زال مكان إقامتها مجهولاً، أن مرشح المعارضة لن يمثل أمام المدعي العام طارق صعب؛ لعدم استقلالية السلطة القضائية التي تتحرك بتوجيهات النظام، وقالت في شريط فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي: «المدعي العام يواصل التصرف بتوزيعه الاتهامات السياسية وإصدار الإدانة مسبقاً».

من التهم الموجهة إلى المعارضة أنها نشرت وثائق فرز أقلام الاقتراع التي تبقى في حوزة السلطات الانتخابية، والأجهزة الأمنية التي تتولى حماية مراكز الاقتراع ومندوبي الأحزاب السياسية. وكانت المعارضة قد نشرت 83 في المائة من هذه الوثائق التي تبيّن فوز مرشحها بنسبة 67 في المائة من الأصوات، وذكّرت أن الحزب الاشتراكي الموحد الذي ينتمي إليه مادورو كان قد نشر وثائق فرز انتخابات عام 2013 التي فاز فيها بفارق ضئيل على مرشح المعارضة إنريكي كابريلي الموجود حالياً في المنفى، إضافة إلى غيره من زعماء المعارضة مثل خوان غوايدو الذي تحدّى مادورو عام 2019 بإعلانه «رئاسة مؤقتة» بعد أن رفضت الأسرة الدولية الاعتراف بنتائج عام 2018 التي منعت المعارضة من المشاركة فيها. وكرر مادورو في الخطب التي ألقاها مؤخراً أنه يتوقع لغونزاليس مصير غوايدو نفسه، واتهمه بأنه يحاول الهرب من البلاد.

مظاهرة حاشدة لمعارضي حكومة مادورو في كاراكاس يوم 17 أغسطس (أ.ف.ب)

وكانت الأجهزة الأمنية الفنزويلية قد بدأت منذ مطلع هذا العام حملة اعتقالات شملت عدداً من مساعدي زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، فيما لجأ آخرون إلى السفارة الأرجنتينية التي أصبحت الآن في عهدة البرازيل بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين فنزويلا والأرجنتين.

في غضون ذلك، يواصل مادورو صولاته الانتخابية ضد المعارضة والجهات الخارجية التي يتهمها بالتواطؤ معها، وقال إن ماتشادو قد أبرمت «ميثاقاً شيطانياً مع أيلون ماسك»، واتهم مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بورّيل، بأنه يخطط مع المعارضة لقلب النظام في فنزويلا.

وفي بروكسيل قرر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، مساء الخميس، نزولاً عن طلب إسبانيا، عدم الاعتراف بشرعية رئاسة مادورو كونها تفتقد الشرعية الديمقراطية. وقال وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل آلباريس، إن الاتحاد الأوروبي نفد صبره بعد إصرار النظام الفنزويلي على عدم نشر وثائق الفرز رغم مرور شهر على الانتخابات.

زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو قادت مظاهرة المعارضة في كاراكاس 17 أغسطس (أ.ف.ب)

وبعد أن تواصل الوزراء الأوروبيون مع مرشح المعارضة الفنزويلية إدموندو غونزاليس عبر الفيديو، قال بورّيل: «سيبقى مادورو رئيساً بحكم الأمر الواقع، لكننا لن نعترف بشرعيته».

ويأتي هذا التشدد في الموقف الأوروبي، الذي اكتفى حتى الآن برفض النتائج التي أعلنها النظام من غير أن يرفض الاعتراف برئاسة مادورو، تجاوباً مع إصرار الحكومة اليسارية الإسبانية.

مادورو يحيِّي أنصاره خلال مظاهرة في كاراكاس 17 أغسطس (إ.ب.أ)

وكانت مدريد قد طلبت فرض عقوبات على النظام الفنزويلي في حال إصراره على عدم نشر وثائق الفرز للتحقق من النتائج، لكن تعذر التوصل إلى اتفاق حول هذا الطلب، علماً أن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على 55 شخصية فنزويلية، من بينها نائبة الرئيس، ووزيرة النفط في الحكومة الجديدة، ووزير الداخلية. ودعا المجلس الأوروبي إلى إيجاد الوسائل الكفيلة بالتوصل إلى «حل سلمي بين الفنزويليين لا يُفرض عليهم من الخارج، ويسمح بالتفاوض بين النظام والمعارضة».

لكن، على غرار ما حصل في السابق مع «الرئيس المؤقت» خوان غوايدو، استبعد المجلس الأوروبي الاعتراف بإدموندو غونزاليس رئيساً منتخباً، رغم أن البيان الأخير المشترك الذي صدر عن الدول الأعضاء في الاتحاد، يشير إلى أنه «استناداً إلى الوثائق المنشورة، يبدو أن إدموندو غونزاليس هو الفائز في الانتخابات بفارق كبير».