شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

كتاب يلقي الضوء على إنجازات أونغاريتي وسابا ومونتالي

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية
TT

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

شعراء إيطاليا الكبار في القرن الـ20... ملامح من سيرهم الفنية والذاتية

يختار أستاذ الأدب الإيطالي المقيم بفلورنسا محمود سالم الشيخ في كتابه الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب «أهم شعراء الطليان في القرن العشرين» الشعراء: «جوزيبي أونغاريتي» و«أمبرتو سابا» و«يوجنيو مونتالي»، مبرزاً ملامح من سيرهم الفنية والذاتية باعتبارهم الثلاثة الكبار - برأيه - الذين أثروا في مسيرة الشعر الإيطالي في ذلك القرن. قدم للكتاب المترجم وأستاذ الأدب الإيطالي د. حسين محمود، مشيداً بالجهد الذي بذله المؤلف فيه، مما يجعله إضافة للمكتبة العربية.

جوزيبي أونغاريتي
عن «أونغاريتي» يذكر المؤلف أنه ولد بمدينة الإسكندرية في 8 فبراير (شباط) 1888 لأبوين إيطاليين وقضى بها فترة طفولته وشبابه، حيث كان والداه يديران مخبزاً. درس أونغاريتي في المدرسة السويسرية «سويس جاكو». أشهر مدارس الإسكندرية آنذاك ولم يغادرها متجهاً إلى إيطاليا عام 1912 بل إلى فرنسا ليتم دراسته بالسوربون، وهناك تتلمذ على يد كل من: «بيديه» و«بيرجسون» و«لانسون» و«ستروفسكي» وغيرهم من كبار أساتذة «كوليج دو فرانس». وفي تلك الفترة ارتبط بصداقة وثيقة مع أدباء الطليعة مثل «بول فور» و«أبوللنير» وتعرف على «بيكاسو» و«دي كيريكو». وتشرّب بالثقافة والشعر الفرنسي من «جوران» إلى «لافورج» إلى «ريفردي» و«أبوللونير» و«سندرارس»، الأمر الذي ساعده على اقتحام التراث الشعري الإيطالي التقليدي بروح ثورية متمردة وواثقة.
تمثلت هذه الثورة في تجديد بيت الشعر الإيطالي بإدخال البيت الحر. وهو ما يتضح مثلاً في ديوانه «البهجة»، حيث نجد أن بيت الشعر الجديد محطم، مفكك، منقسم إلى عدة أبيات قصيرة، كما أن كلمات هذا الديوان مستقاة من قاموس اللغة الدارجة. وقد أعطى «أونغاريتي» هذه الكلمات الدارجة قوة رمزية واسعة النطاق تبرزها فترات السكون والفراغ الأبيض، ويجمعها إزالة علامات الترقيم أسوة بأسلوب الشاعر الفرنسي أبوللونير، وبذلك اكتسبت الكلمة قوة تعبيرية عميقة بعكس الشعر التقليدي.
ويورد المؤلف عدة مقاطع قصيرة كنماذج من أشعار أونغاريتي، التي اتسمت بالقصر الشديد، فنقرأ على سبيل المثال في قصيدة «ملل»:
«ستمر أيضاً هذه الليلة
هذه الوحدة مع تأرجح
ظلال أسلاك الترام المضطربة
على الإسفلت الرطب
أنظر إلى رؤوس الحوذية
في غفوتها تتأرجح»
وهناك قصيدة أخرى بعنوان «بيتي» يقول فيها:
«فاجأني بعد زمن طويل
بحب
ظننت أنني بعثرته
في أرجاء العالم»
اشترك أونغاريتي في الحرب العالمية الأولى متطوعاً ثم انضم مبكراً في عام 1919 إلى الحزب الفاشي في بداية نشأته وظل مخلصاً للفاشية حتى سقوطها وقد قدم لديوانه «الميناء المغمور»، الذي نشر عام 1923 «بنيتو موسوليني» وفي الفترة من عام 1919 حتى 1921 عمل مراسلاً من باريس لصحيفة «بوبولو ديتاليا» صحيفة الحزب الفاشي، حيث كان يعمل في الوقت نفسه في السفارة الإيطالية. وبعد عودته إلى إيطاليا في عام 1921 شغل منصباً مرموقاً في وزارة الخارجية الإيطالية لأكثر من عشر سنوات.

أمبرتو سابا
ترجع شهرة وأهمية أمبرتو سابا أولاً إلى نشأته في مدينة «تريسته»، وإلى إيمانه الشديدين بموازين وقوانين الشعر التقليدي، بخاصة تجارب القرنين الثامن والتاسع عشر، وثانياً كان أول شاعر إيطالي يضيف البعد النفسي إلى أشعاره حتى وصفه أكبر النقاد الإيطاليين المعاصرين «جانفرانكو كونتيني»، بأنه محلل نفسي قبل اكتشاف علم النفس.
كانت «تريسته» مدينة تجارية لا تتسم بعراقة ثقافية وتمتلئ بالأجناس المختلفة والعادات الكثيرة كما أنها كانت تحت حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية، لذا كان من يريد الارتباط بالثقافة الإيطالية أو الكتابة باللغة الإيطالية يجد نفسه في موقف غاية في الصعوبة والحرج
ولد أمبرتو في 9 مارس (آذار) 1883 من أم يهودية وأب مسيحي وترك أبوه أمه قبل ولادته فلم ير والده قبل سن العشرين ورفض أن يسمى باسمه «بولي»، رغم أنه يعود إلى عائلة من العائلات النبيلة في البندقية ليتخذ الاسم المستعار «سابا» تكريماً لأصل أمه اليهودية. وهو يعني في اللغة العبرية الخبز، كما استهدف أمبرتو» كذلك تكريم اسم مرضعته اليوغسلافية «ببت سابا»، وهنا تبدأ مآسي ومعاناة الإنسان والشاعر، فيبدأ انقسام سابا النفسي الذي نقرأه في إحدى قصائده:
«مدخل وهروب آه يا قلبي المشطور منذ الولادة
كم من آلام عانيت لأجعل منك قلباً واحداً
كم من ورود احتجت لإخفاء الهاوية»
أم قاسية أو شديدة القسوة والأب غير موجود، من هنا تبدأ المعركة والصراع النفسي ويزداد تعقيداً باختلاف جنس وأصل الوالدين. يصف هذا الصراع في إحدى قصائده الشهيرة بعنوان «سيرة ذاتية»:
«كان أبي بالنسبة إلي القاتل
حتى عرفته في سن العشرين
كان مرحاً وخفيفاً وكانت أمي
تتحمل كل أعباء الحياة
لقد أفلتت من يده كالكرة
(لا تشابه والدك) كانت تحذرني
وأخيراً فهمت:
كانا جنسين في صراع أزلي»
وتعتبر حضانة أمبرتو في كنف «ساباتز» أسعد فترات الطفولة في حياة «سابا» لدرجة أنه اعتبر منزل المرضعة «الجنة الخضراء عدن»، كما يصفه في «ثلاث قصائد إلى مرضعتي»:
«أرقد على صدر من لا تزال تسميني برتو
أرقد على الصدر الأول
لم يستسلم سابا لأجواء «تريسته» الخانقة، فتمكن من تحويل ما يسميه «الخطيئة الأصلية»، أي التخلف الثقافي لمدينته إلى فضيلة شخصية حيث وطد علاقات مع المجتمع الثقافي النمساوي والألماني بخاصة مع الفيلسوف نيتشه ومع المهتمين بدراسة علم النفس. وكان لمعرفة «نيتشه» و«فرويد» في حياة سابا كإنسان وشاعر أثر كبير، كما يشير في نهاية قصيدته «مقتضبات»:
«أصل المقتضبات نيتشه وفرويد»
وعن مدينة «تريسته» يقول:
«مدينتي حيث ولدت بها
كنت اكتشفتها طفلاً أكثر من أي شخص آخر
ويافعاً بالشعر زوجتها إيطاليا إلى الأبد».

يوجينيو مونتالي
بينما كان أونغاريتي منغمساً في تجديد بيت الشعر وتغيير شكله وتركيز موسيقى شعره على النطاق الضيق للكلمة، وبينما كان سابا عاكفاً في عزلته النائية يرتب ديوانه في شعر تقليدي وينادي بتخليد نفسه كشاعر العصر، كان يوجينيو مونتالي (1896 - 1981) يمثل الضمير الحي ليس فقط للحياة الأدبية والثقافية، بل كذلك السياسية في إيطاليا. فرغم وجود شخصية كبيرة ووقورة ومؤثرة في الفكر الإيطالي في ذلك الوقت مثل الفيلسوف «بنديتو كروتشي» فإن «مونتالي» تحمل عبء مآسي وقلق ورعب طبقة المفكرين والمثقفين ليس فقط في إيطاليا، بل في العالم أجمع أثناء الفترة الغامضة، التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي فترة التعمير التي تلت الحرب. ويرجع ذلك لسببين، أولهما أن مونتالي كان يعتبر الشعر النشاط الحر الوحيد للروح الذي يسمح للإنسان بمزاولة حريته دون تدخل أو ضغط خارجي. الثاني أن حياة مونتالي نفسها ليست إلا مرآة صادمة لشاعريته ومبادئه الأخلاقية بما ترتب عليه استقلاله في مختلف أنشطته: شاعراً وناقداً وباحثاً.
ويذكر الكتاب أنه كان متحفظاً خجولاً، لكن نظرته الحادة المنتبهة وبصيرته وحكمة التقدير التي كانت تنبثق من عينيه، كانت تزيد من وقار شخصيته، وتفسر مبدأه الأخلاقي الشهير: «أنظر وأناظر»، الذي كان له أثر عميق وفعال في المجتمع الأدبي، بخاصة لدى الشباب الذين كانوا يتقربون إليه.
ويلفت المؤلف إلى أن اهتمام مونتالي يرتكز على وظيفة الشعر كوسيلة للاتصال وللدلالة على شخصية الشاعر ليس بمفهوم الساحر لكن بمفهوم العاقل والحكيم المجرد من الفتنة والسحر كما يؤكد لنا نفسه في يرتكز مقالته «طراز وتقليد» التي نشرها في مجلة «باريتي» في 15 يناير (كانون الثاني) 1925. وإذا قارننا هذا المفهوم بما صرح به الشاعر في رسالة إلى «جلاوكو جامبون» نشرت في مجلة «أوت أوت» عام 1962: «أنا أبدأ دائماً من الحقيقة لا أخترع شيئاً»، فسندرك أن شعر مونتالي يحتوي في أساسه على رغبة الشاعر في المعرفة، حيث يعتبر القصيدة وسيلة لفهم الحقيقة وترجمتها على عكس الكتاب الرومانتيكيين الذي يعتبرون الشعر «خلقاً أو ابتكاراً» لحقيقة أخرى مستقلة ومختلفة عن الحقيقة المألوفة.
ولد يوجينيو مونتالي في مدينة جنوا وبعد انتهاء المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة الإعدادية، ولكنه لم ينه هذه المرحلة بسبب مرضه وبعد شفائه تابع الدراسة بنفسه بمساعدة أخته ماريانا. وبرغم هشاشته وضعف صحته التحق بعهد «فيكتوريو إيمانويلي» التجاري وحصل منه عام 1915 على المؤهل، ثم واصل القراءة والدراسة بالمكتبات العامة بمدينة جنوا.
وفي 1916 تخلى مونتالي عن فكرة أن يصبح مطرباً وتفرغ كلية للشعر، حيث ظهرت في ذلك العام أول قصيدة كتبها الشاعر بعنوان «استهلال» التي يقول فيها:
«استمتعي فالريح التي تدخل البستان
تعيد إليه موجة الحياة:
هنا حيث تغوص لفافة
الذكريات الميتة
لم يكن بستاناً بل ضريح».


مقالات ذات صلة

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

العالم باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

باريس «تأمل» بتحديد موعد قريب لزيارة وزير الخارجية الإيطالي

قالت وزارة الخارجية الفرنسية إنها تأمل في أن يُحدَّد موعد جديد لزيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني بعدما ألغيت بسبب تصريحات لوزير الداخلية الفرنسي حول سياسية الهجرة الإيطالية اعتُبرت «غير مقبولة». وكان من المقرر أن يعقد تاياني اجتماعا مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا مساء اليوم الخميس. وكان وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانان قد اعتبر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني «عاجزة عن حل مشاكل الهجرة» في بلادها. وكتب تاياني على «تويتر»: «لن أذهب إلى باريس للمشاركة في الاجتماع الذي كان مقررا مع الوزيرة كولونا»، مشيرا إلى أن «إهانات وزير الداخلية جيرالد دارمانان بحق الحكومة وإي

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

ألمانيا تشن حملة أمنية كبيرة ضد مافيا إيطالية

في عملية واسعة النطاق شملت عدة ولايات ألمانية، شنت الشرطة الألمانية حملة أمنية ضد أعضاء مافيا إيطالية، اليوم (الأربعاء)، وفقاً لوكالة الأنباء الألمانية. وأعلنت السلطات الألمانية أن الحملة استهدفت أعضاء المافيا الإيطالية «ندرانجيتا». وكانت السلطات المشاركة في الحملة هي مكاتب الادعاء العام في مدن في دوسلدورف وكوبلنتس وزاربروكن وميونيخ، وكذلك مكاتب الشرطة الجنائية الإقليمية في ولايات بافاريا وشمال الراين - ويستفاليا وراينلاند – بفالتس وزارلاند.

«الشرق الأوسط» (برلين)
يوميات الشرق إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

إيطاليا ترفع الحظر عن «تشات جي بي تي»

أصبح برنامج «تشات جي بي تي» الشهير الذي طورته شركة الذكاء الاصطناعي «أوبن إيه آي» متاحا مجددا في إيطاليا بعد علاج المخاوف الخاصة بالخصوصية. وقالت هيئة حماية البيانات المعروفة باسم «جارانتي»، في بيان، إن شركة «أوبن إيه آي» أعادت تشغيل خدمتها في إيطاليا «بتحسين الشفافية وحقوق المستخدمين الأوروبيين». وأضافت: «(أوبن إيه آي) تمتثل الآن لعدد من الشروط التي طالبت بها الهيئة من أجل رفع الحظر الذي فرضته عليها في أواخر مارس (آذار) الماضي».

«الشرق الأوسط» (روما)
العالم إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

إيطاليا في «يوم التحرير»... هل تحررت من الإرث الفاشي؟

في الخامس والعشرين من أبريل (نيسان) من كل عام تحتفل إيطاليا بـ«عيد التحرير» من النازية والفاشية عام 1945، أي عيد النصر الذي أحرزه الحلفاء على الجيش النازي المحتلّ، وانتصار المقاومة الوطنية على الحركة الفاشية، لتستحضر مسيرة استعادة النظام الديمقراطي والمؤسسات التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم. يقوم الدستور الإيطالي على المبادئ التي نشأت من الحاجة لمنع العودة إلى الأوضاع السياسية التي ساهمت في ظهور الحركة الفاشية، لكن هذا العيد الوطني لم يكن أبداً من مزاج اليمين الإيطالي، حتى أن سيلفيو برلوسكوني كان دائماً يتغيّب عن الاحتفالات الرسمية بمناسبته، ويتحاشى المشاركة فيها عندما كان رئيساً للحكومة.

شوقي الريّس (روما)
شمال افريقيا تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

تعاون مصري - إيطالي في مجال الاستثمار الزراعي

أعلنت الحكومة المصرية عن عزمها تعزيز التعاون مع إيطاليا في مجال الاستثمار الزراعي؛ ما يساهم في «سد فجوة الاستيراد، وتحقيق الأمن الغذائي»، بحسب إفادة رسمية اليوم (الأربعاء). وقال السفير نادر سعد، المتحدث الرسمي لرئاسة مجلس الوزراء المصري، إن السفير الإيطالي في القاهرة ميكيلي كواروني أشار خلال لقائه والدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، (الأربعاء) إلى أن «إحدى أكبر الشركات الإيطالية العاملة في المجال الزراعي لديها خطة للاستثمار في مصر؛ تتضمن المرحلة الأولى منها زراعة نحو 10 آلاف فدان من المحاصيل الاستراتيجية التي تحتاج إليها مصر، بما يسهم في سد فجوة الاستيراد وتحقيق الأمن الغذائي». وأ

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»