«ورشة» لدانيا بدير: الخلاص تجده قريباً من السماء

لن تملّ من مشاهدة فيلم دانيا بدير القصير، «ورشة» ومدته 15 دقيقة. ففي كل مرة تشاهده تستمتع بحركة كاميرتها السوريالية، كما تستوقفك مشاهد تطل على بيروت من موقع مرتفع لم يسبق أن رأيته من قبل. تستمتع بأداء صامت لبطل الفيلم محمد الخنسا، وهو فنان متعدد المواهب. حتى التقنية السينمائية التي تعتمدها بدير في فيلمها تخرج عن المألوف. فهي لجأت إلى واحدة غير موجودة إلا في أحد استوديوهات السينما في جنوب فرنسا، فاستخدمتها لتزود متابع الفيلم بواقعية الحدث مع أن هذه المشاهد التي نتحدث عنها بالتحديد هي مركبة ضمن نمط سينمائي جديد.
حصد «ورشة» حتى اليوم نحو 30 جائزة عالمية، كان أحدثها الجائزة الأولى خلال «مهرجان الأفلام القصيرة وآسيا» 2022، الذي استضافته طوكيو، وكذلك جائزة الدراما العالمية عن فئة الأفلام القصيرة في مهرجان «صندانس» الأميركي. وقريباً سيتوج الفيلم بجائزة عالمية أخرى في مهرجان سينمائي إيطالي.
يروي الفيلم قصة عامل بناء تقهره تقاليد الواقع من التعبير بحرّية عن شغفه بفنه. يبحث عن فضاء مُتحرّر بعيداً عن عيون تنتقد الاختلاف، وعن تفكير تقليدي سجنه هو الفنان، وراء قضبان التفت حوله بفعل مجتمع منغلق. يفلت من كل هذه القيود ليلحق بشغفه ويحلق به عالياً في فضاء بيروت مدينة الثقافة والنور.
ولأن لكل مهنة سرّها، فإن كمية الإبداع الذي تطالعك به بدير إضافة إلى عين ثاقبة ترى الأمور من زوايا فنية غير مألوفة، تترجم تلقائياً سبب نجاح هذا الفيلم، الذي لم يأتِ من العبث، إذ جال في نحو 80 بلداً واستضافته مهرجانات عالمية في المكسيك والبرازيل وفرنسا ولوس أنجليس وأستراليا وغيرها.

                                                           دانيا بدير مخرجة فيلم «ورشة»  (الشرق الأوسط)
وتعلّق دانيا بدير لـ«الشرق الأوسط» قائلة: «في صناعة السينما لا يمكن العيش على التوقعات، لذلك لم أكن أنتظر لفيلمي كل هذا النجاح. مسيرتي معه كانت طويلة وشائكة على جميع الأصعدة، مادية وتقنية وتكنولوجية وغيرها. وعندما حصد جائزة (صندانس) الأميركية أدركت أن مشوار النجاح معه بدأ. فهي جائزة لها تقدير كبير عند السينمائيين وتفتح أمام العمل أبواباً وآفاقاً واسعة».
وترى بدير التي راودتها فكرة الفيلم من مشهد تلقفته من شرفة منزلها الجبلي في لبنان، عندما شاهدت أحد العاملين على رافعة في ورشة بناء، «خفت عليه للوهلة الأولى، ولكني أدركت بعدها بأنه وهو على هذا العلو الشاهق، يؤدي الصلاة. ومن هناك بدأت أتعمق بفكرة عمال الـ(ونش) ومهنتهم المحفوفة بالمخاطر. فتخمرت عندي الفكرة ونضجت في ذهني وطورتها لتصبح فيلماً سينمائياً قصيراً».
تفرح دانيا في كل مرة تكتشف فيها ردود فعل الناس على فيلمها. «من الممتع جداً أن تقدمي رسالة معينة يستوعبها الجمهور ويتفهم مغزاها مباشرة. تخيلي في الهند كما في فرنسا والبرازيل وغيرها، تلقيت تعليقات إيجابية أسعدتني. الجهد الذي بذلته في مشوار صناعة الفيلم لمسته تجاوباً من قبل الناس، وهو ما أعده مكافأة لي».
لوحات تتراقص بين السماء والأرض ضمن كوريغرافيا حاكتها لها سماء بيروت من ناحية، وموهبة الخنسا من ناحية ثانية، تشدك لمراقبة قصة الفيلم باهتمام. فعالم الـ«ونيّشة»، كما تسميه دانيا يختلف عن غيره على سطح الأرض. فهو عالم يكون الحلم فيه أقرب إلى السماء وأكثر وضوحاً. وفي الهواء الطلق وعلى هذا العلو الشاهق، تختلط المشاعر عندك، فتحس بخطورة الموقف، يدق قلبك وتحبس أنفاسك من شدة الإثارة التي تمارسها كاميرا دانيا بدير عليك. ومن جهة ثانية، تأخذك حركات الخنسا الإيقاعية التعبيرية إلى «شو» فني لم يسبق أن رأيت مثله معلقاً بين حبال السماء والأرض.
الرسالة التي يحملها الفيلم موجعة صحيح، ولكنها تولد الأمل عند من يبحثون عن طريق شائكة وطويلة، توصلهم إلى السلام مع الذات. بطل الفيلم ومن خلال لجوئه إلى ورشة بناء كان يبحث عن لقمة العيش، والهروب إلى ملاذ يريحه نفسياً. فهو كغيره من زملائه في العمل من حاملي الجنسية السورية، كانوا يعانون من رجمهم باستمرار بكلام عنصري يؤذيهم. والأذية كانت تطاله مضاعفة كون موهبته تنتمي إلى المجتمع الأنثوي. فهناك في مقصورة الـ«ونش» يترك المرء سطح الأرض، والضجيج، والزحمة، والعالم الذكوري المفروض عليه ويتحرر من مجتمع لفظه.
الصعود إلى الـ«ونش» كان حلماً يراود المخرجة، وعندما حققته عرفت أنه كان يستحق الجهد المطلوب. «عندما تترجمين فكرة معينة في فيلم سينمائي، لا يكون بإمكانك فهم أسباب تناولك فكرة ما إلى حين خروجها إلى الضوء. هناك شيء ما في داخلي يحثني على الابتعاد عن كل هذا الصخب على الأرض. هي رغبة مدفونة فيّ، لم أكن أدركها إلى حين انطلاق الفيلم. استنتجت أن الخلاص موجود في السماء فقط. هناك، لا فرق بين عامل ورئيسه، وبين رجل وامرأة، وبين بشرة سوداء أو بيضاء. كما أن القواعد الاجتماعية المفروضة علينا بالتواتر تغيب كلياً. كل ذلك لمسته عند صعودي إلى الـ(ونش)، حيث شعرت بأني على بعد أميال قليلة عن السماء. رأيت مدينتي على طريقتي هادئة وساكنة وقوية لا شيء يهزها».
تحضّر دانيا بدير لفيلم جديد روائي طويل، هذه المرة، تدور قصته على سطوح بيروت، وتطال حكايات عن «كشاش الحمام». نجاح فيلمها القصير أسهم في تواصلها مع شركات إنتاج أجنبية اهتمت بموهبتها مخرجة. «ساعدني انتشار فيلمي القصير مادياً وتقنياً. وقّعت اتفاقاً مع شركة (أنونيمس كونتنت) في لوس أنجليس، وهي داعمة لمواهب السينما، ومحظوظ من يتعامل معها. وكل الديون التي تكبدتها لإنجاز فيلمي، استطعت تسديدها بفضل الجوائز التي حصدها».