«دخان المرافئ»... إعادة إنتاج التاريخ بعيداً عن المرويات الرسمية

رواية عن مكابدات مدينة الكوت العراقية أثناء الحرب العالمية الأولى

انسحاب الجيش البريطاني من الكوت عام 1916 بعد هزيمته
انسحاب الجيش البريطاني من الكوت عام 1916 بعد هزيمته
TT

«دخان المرافئ»... إعادة إنتاج التاريخ بعيداً عن المرويات الرسمية

انسحاب الجيش البريطاني من الكوت عام 1916 بعد هزيمته
انسحاب الجيش البريطاني من الكوت عام 1916 بعد هزيمته

رواية «دخان المرافئ» للروائي إسماعيل سكران الصادرة عام 2021 رواية فريدة، لأنها تقتحم عالماً لم تقترب منه الرواية العراقية من قبل بصورة كافية، وأعني به عالم الحرب العالمية الأولى، ومنه سيطرة السلطة العثمانية على مقدرات الناس، من خلال عمليات التجنيد الإجباري التي كانت تسمى بـ(السفر برلك)، فالمدينة هنا هي البطل المركزي، ولذا فهي تفتقد إلى البطل الرئيسي، لكنها تحتضن عدداً من الشخصيات والحبكات الثانوية الفاعلة في أحداث الرواية. وحركة الأحداث والشخصيات تتجه كلها إلى هذه المدينة الصغيرة الوادعة التي تحمل اسم مدينة (الكوت)، المطلة على نهر دجلة، والتي كانت هي الطريق الرئيسي للسفر من البصرة إلى بغداد آنذاك عن طريق السفن. إذ نجد أن السيدة (مكية) وابنتها الشابة (نازك) تضطران إلى الهرب من البصرة باتجاه مدينة الكوت، عندما حاول زوج السيدة مكية الثاني التحرش بابنتها الشابة نازك، فقررت الرحيل إلى الكوت واللجوء إلى دار قريبها (صبري السراج)، الذي يعمل في صناعة السروج. كما أن التاجر قادر باشا قرر أن يسافر إلى الكوت أيضاً، بعد أن طلب من وكيله عبد الفتاح أن يتهيأ للسفر:
«احزم أغراضك، لأننا سنسافر إلى الكوت، هذا اليوم، بالسفينة». (ص 11)
وشرح التاجر قادر باشا طبيعة المهمة التي سيوكلها إلى وكيله عبد الفتاح:
«إنني أحتاجك هناك، عندي خان تجاري وأملاك أخرى، إنني ائتمنك على أموالي، ولا أرغب في تعيين شخص غريب عني». (ص12)
وهكذا أصبحت مدينة الكوت مركزاً لتجمع الشخصيات الروائية التي جاءت من البصرة، وبغداد، لتشهد ما سيحل بالمدينة من خراب وحصار نتيجة الصراع الدموي بين الجيش العثماني الذي استوطن البلاد لمدة 4 قرون، والجيش البريطاني الذي جاء غازياً بعد احتلال البصرة عام 1914 عند اندلاع الحرب العالمية الأولى. ومن سوء حظ المدينة وأبنائها، أن تكون مسرحاً لهذا الصدام بين الجيشين المحتلين، وبشكل خاص عندما أصبحت المدينة تحت الحصار لفترة طويلة، دمرت كافة ملامح الحياة فيها، وشهدت هزيمة الجيش البريطاني بقيادة الجنرال «طاوزند» وانتصار الجيش التركي في الجولة الأولى، وعودة الجيش البريطاني في الجولة الثانية ليسحق الجيش العثماني ويتقدم نحو بغداد.
وسردياً نجد أن بوصلة الأحداث وحركة الشخصيات في نهاية الرواية تتجه ثانياً شمالاً، وتحديداً من مدينة الكوت إلى مدينة بغداد، حيث يخبرنا الروائي على لسان الكاتب الذي قام بجمع وثائق هذه الهجرة، وهي إشارة تؤكد المنحى الميتاسردي للرواية:

«الوثائق التي بحوزتي، وهي غير مؤكدة، تشير إلى أن عائلة السيد حسقيل قد استقرت في محلة التوراة ببغداد... وأن عائلة السيد عبد الفتاح قد استقرت في منزل في منطقة الدهانة يشاركه السكن السيد صبري السراج». (ص 139)
وهكذا تصبح مدينة الكوت التي كان عدد سكانها آنذاك لا يزيد عن 5 آلاف شخص، مركزاً لهذا الحدث الروائي. ومع أن المدينة التي كانت تئن تحت الحصار، هي التي استأثرت بالجزء الأكبر من اهتمام السرد، فإن الحبكات الثانوية الأخرى ظلت حية وفاعلة ومؤثرة في مجرى الحدث الروائي. إذ تبدو حبكة محنة السيدة (مكية) وابنتها الشابة (نازك) من الحبكات المركزية التي ظلت تتداخل على امتداد الحدث الروائي. ونكتشف أن السيدة (مكية)، بعد أن اكتشفت خيانة زوجها الثاني وخسّته ومحاولة اعتدائه على ابنتها نازك، قررت الهرب من البصرة نحو الكوت والاستجارة بقريب لها هو (صبري السراج).
وتستمر هذه الحبكة حتى نهاية الرواية، حيث يتزوج السيد عبد الفتاح، وكيل التاجر قادر باشا، من السيدة مكية، كما يتزوج صبري السراج من ابنتها نازك، ونجدهم، كما أخبرنا الراوي جامع الوثائق، وقد انتقلا إلى بغداد، وأقاما في محلة الدهانة الشعبية في قلب بغداد آنذاك.
ومن الحبكات المؤثرة، تلك المتعلقة بحياة السيد عبد الفتاح، وكيل التاجر قادر باشا الذي يمتثل لطلب الباشا بالسفر إلى الكوت بالسفينة للإشراف على ممتلكاته هناك، وتعيينه وكيلاً عنه، كما نجده يحرص على توفير الراحة والاستقرار للسيدة مكية، ما أسفر عن زواجه منها لاحقاً. وتبدو حبكة علي الهندي، مهرب الأسلحة، من الحبكات المثيرة، لأنه كان يقوم بمغامرات خطيرة لتهريب الأسلحة وبيعها للعشائر بعد أن يشتريها من خليج عُمان وينقلها بالسفن عبر نهر دجلة. وفي الجانب الآخر، نجد حبكة صبري السراج صانع السروج، وقريب السيدة مكية، الذي تزوج من ابنتها نازك لاحقاً. ولا يمكن إهمال حبكة الكولي عباس، وهو حمال يعمل في خدمة السيد عبد الفتاح، لكنه يقدم خدمات هائلة للسيدة مكية وابنتها خلال ظروف الحصار، حيث كان يوفر لهما الدقيق وكل ما يحتاجان إليه من طعام للاستمرار في الحياة، في وقت شحت فيه المواد الغذائية. واختار الروائي حبكة عن عائلة حسقيل الصائغ، وزوجته روز وابنته مارسيل التي أحبت شاباً يهودياً فقيراً اسمه داود، استطاع، قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى، الهجرة إلى بغداد، والسكن في محلة التوراة في بغداد. وكان حسقيل الصائغ قد سبقه إلى الهجرة، لكنه اختار موقعاً راقياً في شريعة قصر شعشوع في بغداد، الخاصة بأغنياء اليهود.
لكن المدينة، كما لاحظنا، تظل هي البطل المركزي، خاصة أنها وقعت تحت الحصار بين كماشة جيشين غازيين، هما الجيش العثماني والجيش البريطاني. إذْ عانت المدينة وسكانها الذين يبلغ عددهم آنذاك 5 آلاف نسمة من الويلات بسبب الصواريخ وقذائف المدافع التي هدمت البيوت على رؤوس ساكنيها، كما أن القوات الغازية، بسبب افتقارها إلى المواد الغذائية، كانت تقوم بغارات على بيوت المواطنين وتنتزع منهم بالقوة ما بقى لديهم من غذاء يسد رمقهم.
لقد نجح الروائي في أن يعيد الحياة إلى هذه المدينة المنكوبة التي وقعت في فخ الحصار بين كماشتين، كما جسّد الساعات الأولى لمحنة المدينة عندما راح دخان المرافئ يغطي سماءها من السفن والبواخر التي بدأت تصل إليها. وها هو السيد عبد الفتاح يتساءل: «هل ستحترق هذه المدينة؟ ويرتفع دخان مرفأها وأشجار بساتينها». (ص 64)
وبدأ الخطر يحدق بالمدينة منذ أن احتلت القوات البريطانية مدينة البصرة وتوجهت نحو مدينة الكوت في طريقها إلى بغداد عن طريق نهر دجلة.
ويعكس المشهد الحالي حالة الرعب بين الناس في هذا الحوار بين عبد الفتاح وصبري:
«_ ها، تبدو، حزيناً، ما الأمر؟
_ الدنيا مقلوبة، يا صبري، فالحرب قادمة إلينا.
_ أعلم جاءني تبليغ من السراي بالالتحاق بصفوف المكلفين بالخدمة العسكرية». (ص70)
ونجد أن المدينة، وقد طحنت طحناً، بسبب يوميات القتال التي نجح فيها الإنجليز في البداية في احتلال المدينة، لكن الجيش العثماني نصب كميناً للجيش الإنجليزي واستنزف قوته، ما دفع بقائده الجنرال (طاوزند) للاستسلام للقائد التركي خليل باشا، وبدأت بعدها مسيرة 10 آلاف جندي بريطاني من الأسرى متجهة إلى إسطنبول. (ص 124)
لقد عمد الروائي في تصويره لعملية استسلام الجيش الإنجليزي بتوظيف التقرير والملخص بدل النقل الفوري للحدث ومسرحته:
«استيقظت مدينة الكوت على عزف جوقة موسيقية عسكرية، بعد استسلام القوات الإنجليزية وإجلائها عن الكوت». (ص 123)
وكان من الأفضل أن يجسد الروائي عملية الاستسلام بطريقة درامية أو سينمائية، لأنها اللحظة التي أدخلت المدينة التاريخ، عندما عدّت الحكومة العثمانية أن انتصارها في الكوت هو واحد من أكبر انتصاراتها في الحرب العالمية الأولى.
لكن الحرب لم تنتهِ عند هذه اللحظة، إذ سرعان ما تقدمت القوات البريطانية ثانية نحو مدينة الكوت وسحقت القوات التركية التي هربت باتجاه بغداد (ص 134). وقد تسبب ذلك مرة أخرى، بمحاصرة المدينة ودكّ بيوتها بالقنابل والمدافع، ما تسبب بمزيد من المعاناة والخسائر لهذه المدينة المنكوبة وأبنائها.
أما من الناحية الفنية، فإن التبئير السردي ظل هو المهيمن، حيث يقدم السرد من خلال وجهة نظر أو وعي الشخصيات الروائية المشاركة في الرواية، في منحى بوليفوني واضح، كما نجد ذلك في هذا الاستذكار المونولوغي الذي يمر عبر شاشة وعي السيد عبد الفتاح:
«لا يتذكر عبد الفتاح كثيراً من طفولته، فليس بمقدوره، وهو الذي أمضى حياته في العمل، أن يستذكر شيئاً». (ص 10)
أو كما نجد ذلك في هذا المونولوغ الداخلي الذي يمر من خلال زاوية نظر عباس:
«اختلس عباس نظره نحو ما تبقى من المنزل، غرفتان وحسب، فيما ابتلع الشارع نصف البيت، لقد حضر بناءً على طلب مكية زوجة صديقه عبد الفتاح». (ص 106).
لكننا من الجانب الآخر وجدنا مقاطع عديدة تقدم عبر «الراوي العليم»، كما نجد ذلك في الاستهلال الروائي:
«تسلل نور الفجر إلى المدينة الصغيرة، المطلة على نهر دجلة، وكأنها جزيرة تغفو وسط نهر مترع بالماء». (ص 5)
أو كما نجد ذلك في هذا المقطع الروائي:
«استتب الأمر لصالح الإنجليز، واستسلمت المدينة لذلك الواقع، بدأ الجنود الإنجليز بالتجوال في شوارع وأزقة المدينة». (ص 86)
لكن ذلك لم يخل بفنية الرواية وبنيتها الدرامية، وظلت تمتلك كثيراً من عناصر رواية ما بعد الحداثة، وخاصة في محاولتها إعادة إنتاج التاريخ عبر زاوية جديدة، بعيداً عن المرويات الرسمية للتاريخ، وكذلك في تركيزها على الشخصيات المهمشة والثانوية، والاهتمام بشكل خاص بخلق بنية مكانية لمدينة تحت الحصار، والاهتمام بمصائر سكانها وخساراتهم، وهم يقعون بين فكي كماشتين متوحشتين للاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني في آن واحد.
تشكل رواية «دخان المرافئ» تنويعة جديدة تضاف إلى سفر الرواية العراقية والعربية.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.