اللافلسفة في زمن اللامبالاة!

التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
TT

اللافلسفة في زمن اللامبالاة!

التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)

(1)
أعادت «اللا فلسفة» اليوم انتباه الفلسفة إلى الواقع، وعالم الحياة اليومية. وأصبحت تحمل على عاتقها مسؤولية خاصة تجاه عامة الناس، وهي تستفيد بالمثل (وتتغذى) من المشاركة العميقة للناس العاديين.
واللا فلسفة مستوحاة من أعمال فرنسوا لارويل الذي لفت الانتباه بقوة عندما وصف دولوز وغوتاري مشروعه اللا فلسفي في كتابهما «ما هي الفلسفة؟» بأنه «أحد أكثر مشاريع الفلسفة المعاصرة إثارة للاهتمام».
ولا تعني اللا فلسفة - في العمق - نفياً للفلسفة أو خروجاً عنها، وإنما هي محاولة للتفلسف دون التورط في الفلسفة - الميتافيزيقا بمعناها التقليدي.
لم تعد الفلسفة - من أكثر من ثلاثة عقود - هي الشكل المهيمن للمعرفة، بل صارت اللا فلسفة جسراً عابراً للحدود بين الفلسفة والأداء.
وبهذا المعني يمكن اعتبار كتاب راسل جاكوبي «نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللا مبالاة» الصادر في مايو (أيار) عام 1999، من الأعمال المهمة في مجال اللا فلسفة. وبالمثل يمكن أن نعد أحدث أعمال تود روز «الأوهام جماعية: التوافق والتواطؤ وعلم لماذا نتخذ قرارات سيئة؟»** منتمياً إلى اللا فلسفة أيضاً.
الخيط اللاضم لحبات العقد الثلاث، جاكوبي ولارويل وروز، أن أعمالهم «داست في أوجاع الناس الفكرية - العقلية»، التي لا يُعرف سبب واضح لها، رغم أنهم يعيشون في مجتمع ديمقراطي تعددي يؤمن بالحريات والحقوق الفردية.

(2)
في أوج ازدهار أطروحات صمويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات»، في عقد التسعينات من القرن الماضي، وهي النبوءة التي حققت نفسها بنفسها، ربما لأن الجميع كان راغباً في تصديقها! أراد راسل جاكوبي أن ينبه الأذهان إلى أن الصدام ليس بين الحضارات (في الخارج)، وإنما - وبالأولى - هو بين الثقافات (داخل الحضارات)، بل وفي قلب الحضارة الواحدة.
حذر جاكوبي من أمرين داخل الولايات المتحدة: الأول، أن مفاهيم مثل التعددية والاختلاف والتنوع في المجتمعات الديمقراطية (الليبرالية) لم تتأصل في أذهان الناس العاديين، فضلاً عن بعض النخب والقادة أيضاً.
الأمر الثاني، هو أن هذه المفاهيم الأثيرية، وعلى عكس ما هو شائع، تمضي من دون توقف في المجتمع الأميركي، نحو التماثل والتشابه، لا التعدد والاختلاف. وهنا مكمن المفارقة، وإن شئت المراوغة، في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعارف، فهي تقر وتعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع (فقط) من أجل إلغائه ودمجه فى «وحدة»!
جاكوبي لم يرفض بالقطع مفاهيم التنوع والاختلاف أو التعددية، وإنما أطلق صفارة إنذار من إضفاء صفة القداسة على هذه الكلمات التي نطرب لسماعها ونفخر بترديدها ونتخذها معياراً للتحضر.
وهو يشدد على ضرورة اختبارها في الواقع والممارسة العملية، وأن نخضعها دوماً للنقد وربما المراقبة، وأن يتمحور سؤالنا حول: ما قدر التعدد داخل هذه التعددية؟ وما قدر الاختلاف في هذا التنوع؟
(3)
تجدد التوترات الثقافية في الولايات المتحدة مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق، سلط الأضواء مجدداً على أسئلة جاكوبي، بعدما ثارت المخاوف عند بعض النخب في مراكز الأبحاث وخلايا التفكير، من أن تصبح هـذه القضايا الثقافية المطروحة للنقاش والحوار والجدل، غير قابلة للتفاوض - في وقت ما - أو بالأحري قبل أن تتحول إلى «قضايا مقدسة»، يصعب التوافق حولها والتوصل إلى كلمة سواء بشأنها، ما قد يهدد في النهاية المؤسسات الديمقراطية ويشجع على استخدام «العنف الاجتماعي» وفرض الرأي بالقوة.
صحيح أن تصاعد وتيرة هذه التوترات الثقافية على المستوى الشعبي والحزبي والقانوني والديني، في شبكات التواصل الاجتماعي والميديا، يطفو على السطح غالباً في مواسم الانتخابات النيابية والرئاسية، لكن تكرار تلك الحوادث المرتبطة بالجنس والعرق والنوع داخل المجتمع الأميركي، بات يشكل معضلة أعمق من أن نلصقها - وينتهي الأمر - بحالة الاستقطاب السياسي المتزايد بين اليسار العلماني واليمين الديني، والمستقلين أيضاً.

(4)
يتقابل فرنسوا لارويل مع راسل جاكوبي في نقطة مفصلية؛ وهي أن الديمقراطية أولاً وقبل كل شيء هي «ديمقراطية الفكر»، بمعنى يجب إدراج الديمقراطية في التفكير، قبل الحديث عن الديمقراطية في السياسة أو الممارسة الاجتماعية، وحتى نصل إلى هذا الغرض لا بد من أن تمارس الفلسفة نفسها النقد الذاتي.
أولى خطوات هذا النقد: ألا تحتكر الفلسفة التفكير الفلسفي وحدها، بل تفسح المجال لمختلف التخصصات الأخرى، بحيث تتساوى جميع الأفكار في القيمة، ولا يهيمن فكر على باقي الأفكار أو يتجاوزها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشير لارويل إلى أن اللا فلسفة هي عبور الحدود بين الفلسفة والأداء: بمعنى أن أنظر إلى «ما أفعله في القول وليس فقط ما أقوله».
وهذا تغيير جذري (أو قل طفرة) في ممارسة التفلسف والفلسفة نفسها.
وإذا كان سؤال الفلسفة (كانط): ما الذي يجب التفكير فيه؟ فإن لارويل يجيب من خلال اللا فلسفة: التفكير ليس فكراً، ولكنه أداء، والأداء هو استنساخ للعالم في الواقع. لأن اللا فلسفة ليست نفياً للفلسفة بقدر ما هي توسيع لمجالها بانفتاحها على الواقعية.

(5)
عالم الاجتماع تود روز يخطو بنا إلى ما هو أبعد من لارويل وجاكوبي، في كتابه الجديد الواسع الانتشار «الأوهام جماعية: التوافق والتواطؤ وعلم لماذا نتخذ قرارات سيئة؟».
فقد اعتبره البعض «الكتاب الذي جاء في وقته تماماً»، ربما لأنه طرح حلولاً عملية قد تساعد الناس العاديين والمسؤولين في الخروج من حالة الاستقطاب والانقسام الثقافي - السياسي الذي ابتليت أميركا به في العقود الأخيرة، بالإضافة إلى كونه يمكن أن يساعد المجتمعات الأخرى التي قد تواجه المشكلة نفسها في مجالات أخرى.
الكتاب إذن يحمل نظرة إيجابية للمستقبل، ويطرح روشتة بسيطة للعلاج، سهلة القراءة والتطبيق عند الجمهور العام والمتخصصين، والمؤسسات المختلفة.
وهو يبدأ يطرح سؤلاً لافتاً: كيف يؤثر التفكير الجماعي العام، والأشخاص الآخرون، واستطلاعات الرأي على أفكارنا الخارجية، رغم أن هذه الأفكار الجماعية قد لا تعكس في الواقع ما نفكر فيه حقاً؟
إن البعض منا أصبح يضحي بآرائه وأفكاره الخاصة بل واستقلاله الذاتي، لصالح التفكير الجماعي خشية النبذ والتهميش وحتى نتجنب الإقصاء والإحراج، أو قل طغيان الجماعة.
هل «جيناتنا» البيولوجية وحاجتنا الاجتماعية إلى التوافق، هي التي تقودنا للقيام بأشياء «لصالح الجماعة»، لا نريدها كأفراد بالضرورة...؟
تود روز يستخدم مصطلحات متعددة لوصف «التحيز» و«عدم الحياد» الذي نقع فيه غالباً، ويقودنا - رغماً عن إرادتنا - إلى اتخاذ قرارات سيئة مثل «تحيز التوافق» و«مصيدة المحاكاة».
إننا كثيراً ما نتجاهل مشاعرنا الشخصية حول موضوع ما لصالح ما نعتقده حول مشاعر الآخرين... وقد نخطئ أنفسنا ومشاعرنا الصادقة أو نشكك فيها، إرضاء للإجماع العام!
روز لا ينكر أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لكنه ينبه إلى خطورة «الخضوع لفكر القطيع» على حساب استقلالنا الفكري الذاتي.
صحيح أن معظمنا يتعلم - منذ الصغر - في المجتمع ألا نكون استثناء، لكن «الثقة» في أن كل ما يفعله الآخرون (أو الجماعة) يجب أن يكون صحيحاً بالضرورة وعلى ما يرام دائماً، هو مكمن الخطأ اليوم.
ويصبح السؤال: كيف نتجنب مخاطر التفكير الجماعي؟ يجيب روز: تطوير الوعي الذاتي، وهو قرار لم يعد ضرورياً فقط، بل يعد حتمياً في عالم اليوم، بحيث يمكن توسيعه وتمديده ليشمل الوعي الجماعي، أو الجماعة التي ينتمي الفرد إليها باعتباره جزءاً منها.
إن هدف المؤلف النهائي: تشجيع الوعي الذاتي أمام هيمنة القوي الاجتماعية التي تحد من تفكيرنا وقدراتنا العقلية الذاتية.
* باحث وكاتب مصري
** صدر في فبراير (شباط) 2022،
والأكثر مبيعاً، حسب «وول ستريت جورنال».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.