اللافلسفة في زمن اللامبالاة!

التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
TT

اللافلسفة في زمن اللامبالاة!

التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)
التوترات الثقافية في الولايات المتحدة تجددت مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق (أ.ف.ب)

(1)
أعادت «اللا فلسفة» اليوم انتباه الفلسفة إلى الواقع، وعالم الحياة اليومية. وأصبحت تحمل على عاتقها مسؤولية خاصة تجاه عامة الناس، وهي تستفيد بالمثل (وتتغذى) من المشاركة العميقة للناس العاديين.
واللا فلسفة مستوحاة من أعمال فرنسوا لارويل الذي لفت الانتباه بقوة عندما وصف دولوز وغوتاري مشروعه اللا فلسفي في كتابهما «ما هي الفلسفة؟» بأنه «أحد أكثر مشاريع الفلسفة المعاصرة إثارة للاهتمام».
ولا تعني اللا فلسفة - في العمق - نفياً للفلسفة أو خروجاً عنها، وإنما هي محاولة للتفلسف دون التورط في الفلسفة - الميتافيزيقا بمعناها التقليدي.
لم تعد الفلسفة - من أكثر من ثلاثة عقود - هي الشكل المهيمن للمعرفة، بل صارت اللا فلسفة جسراً عابراً للحدود بين الفلسفة والأداء.
وبهذا المعني يمكن اعتبار كتاب راسل جاكوبي «نهاية اليوتوبيا: السياسة والثقافة في زمن اللا مبالاة» الصادر في مايو (أيار) عام 1999، من الأعمال المهمة في مجال اللا فلسفة. وبالمثل يمكن أن نعد أحدث أعمال تود روز «الأوهام جماعية: التوافق والتواطؤ وعلم لماذا نتخذ قرارات سيئة؟»** منتمياً إلى اللا فلسفة أيضاً.
الخيط اللاضم لحبات العقد الثلاث، جاكوبي ولارويل وروز، أن أعمالهم «داست في أوجاع الناس الفكرية - العقلية»، التي لا يُعرف سبب واضح لها، رغم أنهم يعيشون في مجتمع ديمقراطي تعددي يؤمن بالحريات والحقوق الفردية.

(2)
في أوج ازدهار أطروحات صمويل هنتنغتون عن «صدام الحضارات»، في عقد التسعينات من القرن الماضي، وهي النبوءة التي حققت نفسها بنفسها، ربما لأن الجميع كان راغباً في تصديقها! أراد راسل جاكوبي أن ينبه الأذهان إلى أن الصدام ليس بين الحضارات (في الخارج)، وإنما - وبالأولى - هو بين الثقافات (داخل الحضارات)، بل وفي قلب الحضارة الواحدة.
حذر جاكوبي من أمرين داخل الولايات المتحدة: الأول، أن مفاهيم مثل التعددية والاختلاف والتنوع في المجتمعات الديمقراطية (الليبرالية) لم تتأصل في أذهان الناس العاديين، فضلاً عن بعض النخب والقادة أيضاً.
الأمر الثاني، هو أن هذه المفاهيم الأثيرية، وعلى عكس ما هو شائع، تمضي من دون توقف في المجتمع الأميركي، نحو التماثل والتشابه، لا التعدد والاختلاف. وهنا مكمن المفارقة، وإن شئت المراوغة، في عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعارف، فهي تقر وتعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع (فقط) من أجل إلغائه ودمجه فى «وحدة»!
جاكوبي لم يرفض بالقطع مفاهيم التنوع والاختلاف أو التعددية، وإنما أطلق صفارة إنذار من إضفاء صفة القداسة على هذه الكلمات التي نطرب لسماعها ونفخر بترديدها ونتخذها معياراً للتحضر.
وهو يشدد على ضرورة اختبارها في الواقع والممارسة العملية، وأن نخضعها دوماً للنقد وربما المراقبة، وأن يتمحور سؤالنا حول: ما قدر التعدد داخل هذه التعددية؟ وما قدر الاختلاف في هذا التنوع؟
(3)
تجدد التوترات الثقافية في الولايات المتحدة مطلع هذا العام (2022) حول قضايا الجنس والنوع والعرق، سلط الأضواء مجدداً على أسئلة جاكوبي، بعدما ثارت المخاوف عند بعض النخب في مراكز الأبحاث وخلايا التفكير، من أن تصبح هـذه القضايا الثقافية المطروحة للنقاش والحوار والجدل، غير قابلة للتفاوض - في وقت ما - أو بالأحري قبل أن تتحول إلى «قضايا مقدسة»، يصعب التوافق حولها والتوصل إلى كلمة سواء بشأنها، ما قد يهدد في النهاية المؤسسات الديمقراطية ويشجع على استخدام «العنف الاجتماعي» وفرض الرأي بالقوة.
صحيح أن تصاعد وتيرة هذه التوترات الثقافية على المستوى الشعبي والحزبي والقانوني والديني، في شبكات التواصل الاجتماعي والميديا، يطفو على السطح غالباً في مواسم الانتخابات النيابية والرئاسية، لكن تكرار تلك الحوادث المرتبطة بالجنس والعرق والنوع داخل المجتمع الأميركي، بات يشكل معضلة أعمق من أن نلصقها - وينتهي الأمر - بحالة الاستقطاب السياسي المتزايد بين اليسار العلماني واليمين الديني، والمستقلين أيضاً.

(4)
يتقابل فرنسوا لارويل مع راسل جاكوبي في نقطة مفصلية؛ وهي أن الديمقراطية أولاً وقبل كل شيء هي «ديمقراطية الفكر»، بمعنى يجب إدراج الديمقراطية في التفكير، قبل الحديث عن الديمقراطية في السياسة أو الممارسة الاجتماعية، وحتى نصل إلى هذا الغرض لا بد من أن تمارس الفلسفة نفسها النقد الذاتي.
أولى خطوات هذا النقد: ألا تحتكر الفلسفة التفكير الفلسفي وحدها، بل تفسح المجال لمختلف التخصصات الأخرى، بحيث تتساوى جميع الأفكار في القيمة، ولا يهيمن فكر على باقي الأفكار أو يتجاوزها.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشير لارويل إلى أن اللا فلسفة هي عبور الحدود بين الفلسفة والأداء: بمعنى أن أنظر إلى «ما أفعله في القول وليس فقط ما أقوله».
وهذا تغيير جذري (أو قل طفرة) في ممارسة التفلسف والفلسفة نفسها.
وإذا كان سؤال الفلسفة (كانط): ما الذي يجب التفكير فيه؟ فإن لارويل يجيب من خلال اللا فلسفة: التفكير ليس فكراً، ولكنه أداء، والأداء هو استنساخ للعالم في الواقع. لأن اللا فلسفة ليست نفياً للفلسفة بقدر ما هي توسيع لمجالها بانفتاحها على الواقعية.

(5)
عالم الاجتماع تود روز يخطو بنا إلى ما هو أبعد من لارويل وجاكوبي، في كتابه الجديد الواسع الانتشار «الأوهام جماعية: التوافق والتواطؤ وعلم لماذا نتخذ قرارات سيئة؟».
فقد اعتبره البعض «الكتاب الذي جاء في وقته تماماً»، ربما لأنه طرح حلولاً عملية قد تساعد الناس العاديين والمسؤولين في الخروج من حالة الاستقطاب والانقسام الثقافي - السياسي الذي ابتليت أميركا به في العقود الأخيرة، بالإضافة إلى كونه يمكن أن يساعد المجتمعات الأخرى التي قد تواجه المشكلة نفسها في مجالات أخرى.
الكتاب إذن يحمل نظرة إيجابية للمستقبل، ويطرح روشتة بسيطة للعلاج، سهلة القراءة والتطبيق عند الجمهور العام والمتخصصين، والمؤسسات المختلفة.
وهو يبدأ يطرح سؤلاً لافتاً: كيف يؤثر التفكير الجماعي العام، والأشخاص الآخرون، واستطلاعات الرأي على أفكارنا الخارجية، رغم أن هذه الأفكار الجماعية قد لا تعكس في الواقع ما نفكر فيه حقاً؟
إن البعض منا أصبح يضحي بآرائه وأفكاره الخاصة بل واستقلاله الذاتي، لصالح التفكير الجماعي خشية النبذ والتهميش وحتى نتجنب الإقصاء والإحراج، أو قل طغيان الجماعة.
هل «جيناتنا» البيولوجية وحاجتنا الاجتماعية إلى التوافق، هي التي تقودنا للقيام بأشياء «لصالح الجماعة»، لا نريدها كأفراد بالضرورة...؟
تود روز يستخدم مصطلحات متعددة لوصف «التحيز» و«عدم الحياد» الذي نقع فيه غالباً، ويقودنا - رغماً عن إرادتنا - إلى اتخاذ قرارات سيئة مثل «تحيز التوافق» و«مصيدة المحاكاة».
إننا كثيراً ما نتجاهل مشاعرنا الشخصية حول موضوع ما لصالح ما نعتقده حول مشاعر الآخرين... وقد نخطئ أنفسنا ومشاعرنا الصادقة أو نشكك فيها، إرضاء للإجماع العام!
روز لا ينكر أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لكنه ينبه إلى خطورة «الخضوع لفكر القطيع» على حساب استقلالنا الفكري الذاتي.
صحيح أن معظمنا يتعلم - منذ الصغر - في المجتمع ألا نكون استثناء، لكن «الثقة» في أن كل ما يفعله الآخرون (أو الجماعة) يجب أن يكون صحيحاً بالضرورة وعلى ما يرام دائماً، هو مكمن الخطأ اليوم.
ويصبح السؤال: كيف نتجنب مخاطر التفكير الجماعي؟ يجيب روز: تطوير الوعي الذاتي، وهو قرار لم يعد ضرورياً فقط، بل يعد حتمياً في عالم اليوم، بحيث يمكن توسيعه وتمديده ليشمل الوعي الجماعي، أو الجماعة التي ينتمي الفرد إليها باعتباره جزءاً منها.
إن هدف المؤلف النهائي: تشجيع الوعي الذاتي أمام هيمنة القوي الاجتماعية التي تحد من تفكيرنا وقدراتنا العقلية الذاتية.
* باحث وكاتب مصري
** صدر في فبراير (شباط) 2022،
والأكثر مبيعاً، حسب «وول ستريت جورنال».



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.