«وايتهيد» والقراءة الرياضية للوجود

وايتهيد
وايتهيد
TT

«وايتهيد» والقراءة الرياضية للوجود

وايتهيد
وايتهيد

إذا كان التجريد العلمي والصياغة النظرية لقوانين الوجود تتم بلغة الرياضيات، فإن على الفلسفة - ما دام الفارق بينها وبين العلم فارق درجي لا نوعي - أن تلتزم هي أيضا باللغة الرياضية، فتصوغ لنفسها أسلوبا يشبه في دقته الأسلوب الرياضي. لكن دعوة وايتهيد إلى صياغة الفكر الفلسفي على نسق اللغة الرياضية، ليس راجعا فقط إلى انتهاج هذه اللغة في الممارسة العلمية، ولا إلى الدقة الدلالية للرمز الرياضي وحسب، بل أكثر من ذلك، يبدو أن رؤية وايتهيد في هذه المرحلة من تطوره الفلسفي كانت رؤية فيثاغورية، إذ كان يرى أن الوجود مبني على نظام رياضي. وهي الرؤية التي نلقى آثارها أيضا عند غاليلي في قوله: «إن الكون مكتوب بلغة رياضية».
ولإيضاح هذا التصور يمكن تقريب الفكرة بالمثال التالي:
إن هذا المكتب الذي أجلس إليه وأكتب عليه هذا المقال، لا يمكن أن يتحصل من مجرد لصق قطع من الأشياء بعضها ببعض بفعل الصدفة أو الاعتباط، بل لا بد من وجود فكرة المكتب في ذهن الصانع - النجار، ثم انتقالها بواسطة فعله القصدي المنظم إلى التجسيد في الواقع. كذلك هذا الكون، لا بد من أولوية فكرته قبل وجوده المادي. إنها الثنائية ذاتها التي تؤسس رؤية أفلاطون للوجود. وهي أيضا الرؤية ذاتها الأرسطية القائمة على ثنائية الصورة والمادة، نلقاها من جديد، كمنظور معرفي ناظم للرؤية الأنطولوجية الوايتهيدية. لكن ليست ثنائية وايتهيد ثنائية مفصولة كثنائية أفلاطون، أي تضع فاصلا وجوديا بين المثال والواقع، وليست ثنائية أرسطية تحايث الماهيات داخل الوجود، بل هي ثنائية قائمة على تلازم البنية الرياضية والبنية الواقعية للوجود، أي أن الوجود مبني بصيغ رياضية ثابتة، لكنها تظل بلا قوام منظور، ولا دلالة محددة، حتى إذا دخلتها مادة الوجود صارت كينونة منظورة، أي صارت حاملة لمعنى متعين ومحدد. فالوجود في صيرورته يحول الصيغ الرياضية إلى كينونة. ومهمة الفيلسوف هي أن يتأمل هذه الصيرورة ليستخلص قانونها الرياضي الكلي.
هنا شيء من الهيراقليطية في رؤية وايتهيد، إذ يعتقد، خلافا لبارميندس وزينون الأيلي، أن الوجود صيرورة وتغير، لكنه يعتقد أيضا أن في أساس هذه الصيرورة يكمن ثبات القوانين الرياضية. والنظر الفلسفي الحق هو الذي يستطيع أن يستخلص هذا الثابت، ويبرز الكلي خلف المتغير والمتعدد. وبهذا يجمع وايتهيد بين الهيراقليطية وبارميندس، بين التغير والثبات.
وفي كتاب «الصيرورة والواقع» نلقى وايتهيد يؤكد أن الرؤية الميتافيزيقية هي الرؤية الكلية العامة القادرة على استيعاب الوجود. ولتحقيق هذا الاستيعاب لا بد من منهج جديد، حيث يرفض اعتماد المنهج الاستنباطي، كما ينتقد لايبنز على ابتداعه للحساب الكلي، وتقديمه بوصفه نمطا من اللغة العامة القابلة للانطباق على كل المعارف والعلوم! وسبب رفض وايتهيد لميتودولوجية الاستنباط الرياضي، هو اعتقاده أن البحث الميتافيزيقي لا تناسبه الطريقة الاستنباطية، لأنها قائمة على استخراج القضايا من المقدمات. وهنا يرى وايتهيد أن خطأ الفلاسفة العقلانيين يكمن في أنهم اعتقدوا أن المقدمات مبادئ واضحة ويقينية، وأنها، من ثم، في منأى عن الشك! وينبّه إلى أن ما يظنه ديكارت واسبينوزا، مقدمات للتفكير الفلسفي الميتافيزيقي، أي توضع موضع البدء فينطلق منها الفكر ويستنبط، هي في حقيقتها ليست منطلقا يبتدئ منه التفكير، بل هي نتائج يخلص إليها. هكذا يقلب وايتهيد على نحو جذري علاقة المقدمات المبدئية بعملية التفكير. وما دام التفكير الفلسفي يخلص إلى هذه المقدمات ولا يصدر عنها، فإن منهجه لا ينبغي أن يكون استنباطيا. كما انتقد المنهج القياسي الأرسطي، وعده منهجا عقيما غير مثمر.
وبعد هذا النقد المنهجي الجذري، لنا أن نتخيل المأزق الذي أدخل وايتهيد نفسه فيه، لنتبين حقيقة قدرته الفلسفية على الإبداع المنهجي للخروج منه. إنه أمام مبحث ميتافيزيقي اعتاد الفلاسفة، من قبل، انتهاج القياس لبحثه. وحتى عندما اشتد النقد الفلسفي لمنطق القياس، كان البديل هو منهج الاستنباط (ديكارت، لايبنز، اسبينوزا...)، لكننا هنا أمام محاولة في غاية الجرأة. فوايتهيد يرفض القياس الصوري، كما يرفض الاستنباط الرياضي على حد سواء.
> فما هو المنهج البديل الذي يقترحه ضد العقلين الاستنباطي والقياسي؟
يقترح وايتهيد نمطا عقليا جديدا يسميه العقل التأملي، الذي هو، حسب زعمه، الأنسب للميتافيزيقا، لأن هذه - بناء على تعريفه لها - هي «الفلسفة التأملية التي تحاول تشكيل نسق». ولكي ينجح العقل التأملي في بناء النسق، ينبغي ألا يقيد صيرورة تفكيره بمنهج. فوايتهيد يفاجئنا هنا برؤية جد حذرة ومستهجنة لفعل المَنْهَجَة، حيث ينبه إلى أن العقل، في سياق بحثه عن المبادئ، يبحث عن المنهج أيضا. إذن ينبغي إطلاق التفكير العقلي، وفي عملية الإطلاق هذه سيزاوج هذا التفكير من تلقاء ذاته بين البحث والمنهجة في الوقت ذاته.
> لكن هل معنى هذا أن العقل التأملي بلا منهج؟
لا أبدا، فوايتهيد الذي يحذر من قيد المنهج سرعان ما نلقاه يعود إلى طلبه!
> كيف ذلك؟
يرجع وايتهيد إلى الخبرة، فيشير إلى أن ما هو واضح في خبرتنا هو المختلف أو المتغير. ولا يكون واضحا إلا إذا ثبت مدة كافية لإدراكنا له. لكن التفاصيل السطحية هي وحدها التي ندركها في حياتنا اليومية، بينما التعميمات العلمية لا تحصل من مجرد الملاحظة المنتهجة في الخبرة العادية، بل لا بد من ملاحظة موجهة بنظرية. لذا لا بد للميتافيزيقا من «فرض عامل»، أي لا بد لها من فرض نظري يوجه التفكير.
> لكن كيف نصل إلى هذا الموجه النظري؟
إننا نتحصل عليه بما يسميه وايتهيد «البصيرة المباشرة» التي لا تبدأ في الاشتغال على التعميمات الميتافيزيقية إلا في مراحل متقدمة، أي تبدأ في مراحل تكون التعميمات أقل عمومية. يقول وايتهيد: «إن البناء يجب أن يكون نابعا أولا، عن تعميمات جزئية يتم التوصل إليها في دوائر خاصة بالاهتمامات الإنسانية، مثل الفيزيقا، والفزيولوجيا، والجمال، والمعتقدات الأخلاقية، وعلم الاجتماع، واللغة، باعتبارها مستودعا للخبرة الإنسانية».
فعندما نتأمل حقلا ما من حقول خبرتنا، ندرك أن ملامح معينة فيه يمكن أن تكون عامة وممتدة إلى ما وراء ذلك الحقل، ونحن لا ندرك ذلك إلا بواسطة البصيرة المباشرة.
إن الإدراك الأول هو إدراك للاختلاف، لكن هذه الرؤية المباشرة التي تصل إلى التعميمات التي تجاوز حقلها تخلص بنا إلى تعميمات كلية. ويسمي وايتهيد هذه الطريقة المنهجية «العقلية الخيالية»، وهي تمسك بالثابت والضروري بينما الرؤية السابقة تلحظ المختلف المتغير.
والمبادئ الميتافيزيقية التي نخلص إليها بالتعميم الخيالي، هي ما يؤلف «الفرض العامل». لكن هذا الفرض ليس يقينا، بل هو مجرد افتراض نظري، إذ ليس ثمة ضمانة تمنع من أن تكون ثمرة البصيرة المباشرة يقينا لا شك فيه. لذا يقول وايتهيد إن منهج التعميم الخيالي هو منهج فرضي. وصحة الفرض لا تتحقق إلا إذا تمكن من أن ينطبق على ما وراء حقله الأول، أي إذا أعطانا رؤية شمولية، و«حقق الترابط والكمال المنطقي».
إن كتاب «الصيرورة والواقع»، يؤشر إلى نقلة نوعية بدأت ترتسم في فكر وايتهيد منذ 1925، حيث سيشدد على نقد النزوع العلموي المادي. فإذا كان هذا النزوع منذ بداية تبلوره قد عارض التوجهات الميتافيزيقية والدينية، ودعا إلى تحييد العلم عن سؤال المعنى، فإن وايتهيد سيؤكد حاجة العقل إلى المعنى، وحاجة الكائن الإنساني إلى الله. وهي حاجة ترقى إلى مقام الضرورة وليست مجرد ترف. ومن ثم فلا يمكن للوعي البشري أن ينحصر في حدود الرؤية العلمية التجريبية. فالعلم بطبيعته المنهجية عاجز عن الإجابة عن أسئلة الوجود الكبرى، لأنه يقوم على رؤية تجزيئية، لذا لا بد من المعرفة الفلسفية، إذ هي وحدها القادرة على بلورة رؤية كلية للوجود.



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي