«الهلال الخصيب» التركي

41 % من الأكراد حول العالم في تركيا.. وفوزهم يزيد المخاوف من «كردستان الكبرى»

«الهلال الخصيب» التركي
TT

«الهلال الخصيب» التركي

«الهلال الخصيب» التركي

شكل الفوز الكبير لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات التركية هذا الأسبوع علامة فارقة في تاريخ البلاد التي تقف منذ أكثر من ثلاث سنوات على عتبة الحل للقضية الكردية الشائكة، من دون أن تتمكن من تخطيها. فرغم تراجع الخطاب الكردي في تركيا عن مقولة «الاستقلال» و«كردستان الكبرى» أي الوطن القومي الكردي، فإن مخاوف القوميين الأتراك وهواجسهم كبيرة، حيال موقف أكراد تركيا الذين أشغلوا البلاد نهاية العام الماضي نتيجة ما رأوا فيه «تقاعسا» من حكومتهم في السماح لهم بنجدة أشقائهم من أكراد سوريا في كوباني المحاصرة.

ويعتبر أكراد تركيا، الحجر الأساسي لأي كيان كردي مستقل قد ينشأ، باعتبارهم الكتلة الجغرافية، والسكانية، الأكبر في مناطق الوجود الكردي الذي قسمته اتفاقيات ما بعد الحرب العالمية الأولى بين أربع دول هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، مع بعض «النكهة» الأرمينية.
وقد قاتل أكراد تركيا في الحرب العالمية الأولى إلى جانب مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال، أملا بكيان مستقل، أو اعتراف بتمايز هويتهم. لكن الأخير انقلب عليهم بعد تأسيس الجمهورية في إطار سعيه لمحو الهوية الثقافية لكافة مكونات الدولة من غير الأتراك. ويعتبر الأكراد، رابع هوية قومية في منطقة الشرق الأوسط، لكنهم لم يكن لهم في أي يوم من الأيام دولة، فبقي حلم الدولة يظهر، ثم ما يلبث أن يتبخر نتيجة الضربات التي يتعرض لها. ولعل ما أسفرت عنه معاهدة «سيفر» في نهاية الحرب العالمية الأولى كان أقرب ما وصل إليه الأكراد. فقد نصت هذه المعاهدة على «تصور» لإقامة دولة كردية، في إطار سعيهم لتقسيم الإمبراطورية العثمانية. إذ نصت في البند 62 على أنه: «إذا حدث، خلال سنة من تصديق هذه الاتفاقية، أن تقدم الكرد القاطنون في المنطقة التي حددتها المادة (62) إلى عصبة الأمم قائلين إن غالبية سكان هذه المنطقة ينشدون الاستقلال عن تركيا، وفي حالة اعتراف عصبة الأمم بأن هؤلاء السكان أكفاء للعيش في حياة مستقلة وتوصيتها بمنح هذا الاستقلال، فإن تركيا تتعهد بقبول هذه التوصية وتتخلى عن كل حق في هذه المنطقة». لكن التنازلات التي قدمها الجانب التركي للحلفاء في أماكن أخرى، أسقطت هذا الحلم بعد أربع سنوات في معاهدة لوزان التي أوجدت الحدود الحالية للدولة التركية، فاعترف الأتراك بالانتداب على سوريا ولبنان مقابل تنازلات قدموها لتركيا في الأرض السورية وإنهاء الحلم الكردي.
أما اليوم فيقف أكراد المنطقة على مشارف لحظة تاريخية، لأن أكراد العراق شكلوا ما يشبه «الدولة» وباتوا يتمتعون بالقوة والقدرة الكافية، ويفتقدون فقط إلى الغطاء الدولي. أما أكراد سوريا فهم على الطريق، مع إنشاء مناطقهم الصافية، والتي استلزم تشكيلها بعض عمليات «الترانسفير» للعرب، فيما أكراد إيران يتململون، وقد يتحركون في لحظة ما مع اقتراب اللحظة المفصلية. ويمثل الانتصار الكردي في تركيا خطوة إضافية للأكراد، قد تكون مفتاحا نحو «كردستان الكبرى» أو شكل من أشكالها، أو قد تكون بداية لعهد كردي جديد يعتمد التمايز ضمن الأقاليم، ونوع من الحكم الذاتي، وهو ما عبر عنه زعيم أكراد تركيا عبد الله أوجلان منذ عامين بقوله: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا».
ويحذر الكاتب والمحلل السياسي التركي تأومان عليلي من علاقة أكراد تركيا بأكراد المنطقة «فهنا تكمن المصيبة، لا تنسوا أن حزب العمال وشبيهه حزب الشعوب الديمقراطي دخلوا الحدود السورية كما يدخل مقاتلو داعش لدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي كان يدافع عن بلدة عين العرب من هجومات داعش لأن الاتحاد الديمقراطي يعتبر فكريا وآيديولوجيا الجناح السوري للمنظمة الإرهابية بـ ك ك (حزب العمال الكردستاني)، هدفهم إقامة كردستان الكبرى».
ويشكل أكراد تركيا 41 في المائة من أكراد العالم، بكثير يقارب الـ15 مليون نسمة (20 في المائة من سكان تركيا) وفق تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، رغم أن الأكراد يقولون إن عددهم في العالم يتجاوز الـ50 مليونا وفي تركيا يقارب العشرين. فيما يقترب عددهم في إيران من ثمانية ملايين والعراق من 6 ملايين وسوريا من ثلاثة ملايين. أما وجودهم الأكبر في الغرب، فهو في ألمانيا مع نحو 750 ألف نسمة.
و«الكرد»، كما يطلق الأكراد على أنفسهم، يوجدون في مناطق الجنوب الشرقي، المحاذية لسوريا والعراق وإيران في محافظات هكاري وفان وآغري وبتليس وموش وديار بكر وأورفا وقارس وماردين وبينغول وإيلازيغ وتونجيلي وآدي يمان وارزبخان وغازي عنتاب وملاطيا. وينتمي 70 في المائة من الأكراد في تركيا إلى الطائفة السنية لكنهم يتبعون المذهب الشافعي، في حين أن معظم الأتراك يتبعون المذهب الحنفي، وفيهم نسبة 30 في المائة من العلويين مع وجود أقلية من الشيعة، ويتحدثون جميعا اللغة القرمانية. ويعيش أكراد تركيا، في جنوب شرقي البلاد، ومنها تمددوا إلى مناطق تركية أخرى بفعل الحاجة إلى العمل، التي جعلت - للمفارقة - من مدينة إسطنبول أكبر مدينة يتجمع فيها الأكراد في العالم، إذ يسكنها نحو ثلاثة ملايين كردي. أما الجانب الثاني للهجرة من الجنوب الشرقي للبلاد، فهي سياسة «الترانسفير» التي اعتمدتها السلطات العسكرية التركية، والتي رحلت بموجبها عائلات كردية بأكملها إلى مناطق مختلفة من البلاد
ونتيجة لحركات التمرد التي قامت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أعيد توطين الكثير من الأكراد، ومنع الكثير من الأسماء والأزياء الكردية. كما حظر استخدام اللغة الكردية، وأنكر وجود الهوية العرقية الكردية، وأشير للأكراد باسم «أتراك الجبال».
في نهاية السبعينات من القرن الماضي، ظهر عبد الله أوجلان على الساحة التركية - الكردية، فأسس في عام 1978، حزب العمال الكردستاني، الذي نادى بتأسيس دولة مستقلة في تركيا. وبعد ست سنوات فقط من تأسيسه، حمل الحزب السلاح مع فشله في العملية السياسية وقمع السلطات التركية. وفي التسعينات، تراجع حزب العمال الكردستاني عن مطلب الاستقلال، وطالب بالمزيد من الاستقلال الثقافي والسياسي، لكنه استمر في القتال. وفي عام 2012. بدأت محادثات السلام بين الحكومة التركية والحزب، بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار لمدة سنة. وطلب من مقاتلي حزب العمال الكردستاني التراجع إلى شمالي العراق العملية فشلت في وقف نهائي للعنف بين الجانبين رغم أنها خفضت منه إلى حد كبير.
ويعود الفضل في هذا إلى المحادثات التي جرت سرا أولا، ثم علنا، بين جهاز الاستخبارات التركي، وأوجلان في سجنه في جزيرة إمرالي، حيث يقضي حكما بالسجن المؤبد منذ القبض عليه في مطلع التسعينات. وقد توجت هذه المحادثات بالخطاب الشهير الذي وجهه أوجلان من سجنه إلى أكراد تركيا في «عيد النوروز» وقال أوجلان في رسالته: «اليوم نصحو على تركيا جديدة في شرق أوسط جديد، وهذا يعني أننا نبدأ مرحلة جديدة في تاريخنا. لقد قدمنا الكثير من التضحيات العظام، وترتب على هذا النضال خلق الهوية الكردية من جديد». وأضاف: «نقول لشعوب المنطقة من عرب وفرس وأتراك وأكراد يكفينا قتل بعضنا بعضا، يجب علينا أن ننتبه من هذه الحرب القذرة التي تخاض ضدنا، أما لملايين من الناس فأقول إننا بدأنا مرحلة جديدة، مرحلة تقدم السياسة على السلاح، وهذا ليس نتيجة وإنما بداية مرحلة».
ورأى أوجلان أن شعوب الأناضول مع الأكراد من حقهم العيش بسلام، ولهذا ستكون المرحلة الجديدة مرحلة الحقوق الديمقراطية والحريات والمساواة». وقال: «فلتسكت أصوات الرصاص، وليقف نزيف الدم التركي الكردي، ولنفتح الباب أمام السياسة». وتوجه إلى مقاتلي الكردستاني بالقول: «أناشدكم ترك السلاح والانسحاب إلى خارج الحدود والتحول من الكفاح المسلح إلى الكفاح الديمقراطي». وأردف قائلا: «الزمن ليس زمن القتال والحرب، بل زمن الاتفاق والمسامحة واحتضان بعضنا بعضا»، معتبرا أن «هذا لا يعني أننا تركنا الكفاح والنضال، لكننا استبدلنا نوعا آخر من النضال به».
وحول التعامل مع فكرة «كردستان الكبرى» قال أوجلان: «الأكراد قسموا على دول الجوار، ونحن نهدف إلى إقامة وإنشاء نموذج جديد لهم، وستكون شعوب الهلال الخصيب هي النموذج لنا، لكي نقيم معا نظاما ديمقراطيا يليق بعصرنا».
ولا شك في أن تركيا، بدأت بمقاربة جديدة للملف الكردي في تركيا، بعد نحو 30 سنة من الحروب التي ذهبت بنحو 40 ألف قتيل من الأتراك والأكراد جراء اعتماد الحكومات التركية المتعاقبة «الحل العسكري» للأزمة. فبعد سنوات على وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، بدا واضحا أن الجذور الإسلامية للحزب تلعب دورا كبيرا في ردم الهوة بين الطرفين، لأن العدالة والتنمية قارب المسألة الكردية من زاوية «الأخوة الإسلامية»، محققا بذلك اختراقا لافتا للمجتمع الكردي المتماسك، وبات الحزب يضم الكثير من القيادات الكردية في صفوفه، وشارك حزب «السلام والديمقراطية» وخليفته على الساحة الكردية الشعوب الديمقراطي في تمثيل أكراد تركيا في البرلمان والمجالس المحلية.
ويرى الكاتب في صحيفة «زمان» التركية علي بولاج إيجابية كبيرة في تخطي الأكراد الحاجز النسبي ودخولهم البرلمان، معتبرا أن من النتائج المباشرة لهذه العملية أن حزب الشعوب الديمقراطي سيتمكن من إعادة هيكلة السياسة الكردية من خلال نجاحها. وبالتالي ستفقد طريقة استعمال العنف أهميتها. وأن أصوات الأغلبية الكردية التي تلعب دورا فعالا في الحركة السياسية الكردية ستتّحد مع الرأي العام التركي. وسيسعى الأكراد لحل مشاكلهم بالطرق الديمقراطية. ويعتبر أن تحقيق ذلك مهم بالنسبة لمستقبل تركيا خاصة والمنطقة عامة. فالحركة الكردية إما أن تتكامل مع تركيا أو تندفع نحو الانفصالية.
ويشير بولاج إلى أن الحركة الانفصالية الكردية تختلف عن مثل التي في إسبانيا وآيرلندا في أن الحركات السياسية في هاتين الدولتين كانت سياسية إيجابية ثم تحولها إلى سلبية بسبب فشل السياسة الإيجابية. لكن السياسة الكردية في تركيا على العكس من ذلك. إذ اختارت الطريقة السلبية أولا ثم انتهجت السياسة الحزبية الإيجابية بعد مرحلة منذ مطلع التسعينات. ولذلك فإن أحزاب الحركة السياسة الكردية مضطرة لتبني استراتيجية وأولويات العمال الكردستاني المسلحة. وهذا تعبير عما يجري على أرض الواقع في السياسة الكردية والمشكلة الكردية في تركيا. ويقول بولاج: «لقد وصلنا إلى مرحلة بات الجميع يدرك فيها أن الدولة التركية ولو استخدمت كل إمكاناتها لا تستطيع توجيه الحركة السياسية الكردية وفق ما يحلو لها. وهذا ما قاله رؤساء أركان الجيش في السابق. كما أصبح العمال الكردستاني على يقين بعدم إمكانية بلوغه مبتغاه باستخدام السلاح إلى النهاية.. وهنا ظهرت الحركة السياسية الكردية الإيجابية أي حزب الشعوب الديمقراطي، وقد تبين أن لهذا الحزب قاعدة إقليمية ودولية قوية.
ويوضح بولاج أن هناك رأيين مهمين بين الأكراد. يقول أولهما أنه «لا يمكن للأكراد أن يتخلوا عن تركيا، ولكن في نفس الوقت لا يمكن قبول الوضع الراهن الذي فرضته دولة تركيا على الأكراد منذ تأسيس الجمهورية التركية. وبالتالي علينا أن نحل مشاكلنا تحت سقف تركيا الواسع». أما الرأي الآخر فيقول «إن ما توصلنا إليه من خلال الكفاح المسلح لا يمكن أن يتقدم أكثر من هذا الحد. ويجب بعد هذه المرحلة أن نعتمد على السياسة القانونية بعد ما حققناه حتى الآن. وسنعمل على حل مشاكلنا تحت سقف البرلمان من خلال حملة ديمقراطية قوية».
لكن في المقابل، يرى تأومان عليلي، وهو من حزب الحركة القومية المناهض للأكراد أن السبب وراء الفوز الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطي كان تركيزهم على إحلال السلام في البلاد، وكأن البلاد تعيش حربا بين مكوناتها من الإثنيات. ويعتبر أن الحقيقة التي يحاول إخفاءها هي أن ما يجري في تركيا أن قوات الأمن كانت تلاحق منظمة إرهابية انفصالية في الجبال. ويشدد على أن هؤلاء لم يكونوا مدعومين من الشعب والدليل على هذا أن النسبة التي أخذها حزب الشعوب الديمقراطي لم تكن جميعها من الأكراد وأعلن هذا جليا صلاح الدين ديمرتاش حين قال إن الناخب التركي أقرضنا أصواته ولن نخيب آماله. ورأى أن هذا الدور تبدل منذ أكثر من عشر سنوات مع مجيء حكومة العدالة والتنمية إلى الحكم حيث بدأت المنظمة الإرهابية بإبدال الدور التخريبي المسلح بالدور التخريبي السياسي بقيادة حزب الشعوب الديمقراطي وما أغلق من قبله من أحزاب ذات نمط عرقي إثني.
وشدد على أن حزب الشعوب الديمقراطي هو الجناح السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعتبره تركيا «منظمة إرهابية»، والدليل على هذا أن الحزب قبل أن يتخذ أي قرار يقوم بزيارة جزيرة إمرالي والاجتماع بعبد الله أوجلان ومن ثم يعلنون خريطة طريقهم، هذا بعلم وتنسيق وموافقة من حزب العدالة والتنمية الحاكم حيث يعطي تعليماته للمخابرات لإدارة وتنسيق العملية.
ورأى عليلي أن دخول تخطي حزب الشعوب الديمقراطي الحاجز النسبي يعني دخول تنظيم «حزب العمال الكردستاني» المحظور للبرلمان والتحكم في مستقبل البلاد حيث أصبحوا الطفل المدلل في أي حكومة ائتلاف ستشكل. واعتبر أن الخطوة الأولى التي ستقوم بها هذه القوة التي تمثل «الإرهاب» هي تغيير الدستور حسبما يريدون ولهذا سيكون الشرط الأول هو رفع كلمة «ترك» من الدستور واستبدالها بكلمة الشعوب التي تسكن تركيا، كما إضافة كلمة «الشعب الكردي» إلى «الشعوب التي تشكل المجتمع في تركيا»، والشرط الثاني هو خفض نسبة الحاجز النسبي لدخول البرلمان في البلاد إلى 5 في المائة أو 3 في المائة، لكي يضمنوا البقاء في البرلمان، ويفتحوا المجال للآخرين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.