سطرت الهند فصلاً تاريخياً جديداً بانتخابها أخيراً رئيس جمهوريتها الخامس عشر. ومع أن رئاسة الجمهورية في الهند شرفية إلى حد كبير، فعندما أدت دروبادي مورمو اليمين الدستورية لأعلى منصب دستوري في البلاد، سجّلت بضع سوابق لافتة. إذ نجحت مورمو في كسر السقف الزجاجي للمرة الأولى عندما أصبحت أول شخص مولود بعد الاستقلال والأصغر سناً يشغل المنصب الأعلى للبلاد. ثم إنه، بجانب كونها ثاني رئيسة للهند، باتت مورمو أول رئيس من أبناء المجتمعات القبلية الأصلية، التي تعاني من التهميش رغم كونها تشكل قرابة 10 في المائة من إجمالي سكان الهند. ما يذكر، أن براتيبها باتيل كانت أول رئيسة للهند خلال الفترة من 2007 إلى 2012. أما مورمو، فقد نجحت في التفوق على منافسها ياشوانت سينها باستحواذها على نصيب الأسد من الأصوات. والمعروف، أن سينها شغل منصب وزير المالية بين عامي 1998 و2002 إبان فترة حكم حزب بهاراتيا جاناتا. غير أن سينها كان أحد القياديين الذين انشقوا عن «بهاراتيا جاناتا»، ومن ثم غادر الحزب عام 2018، في أعقاب خلاف دبّ بينه وبين ناريندرا مودي، زعيم الحزب اليميني ورئيس الحكومة الهندية الحالي، حول قضايا اقتصادية.
تتولّى انتخاب رئيس الجمهورية في الهند هيئة انتخابية، مُشكّلة من أعضاء من مجلسي البرلمان والجمعيات التشريعية للولايات والمجالس التشريعية للولايات والمجالس التشريعية لاتحاد إقليمي دلهي وبودوتشيري الاتحاديين الذاتيي الحكم. وقبل أسبوعين تقريباً سلّم الرئيس الهندي المنتهية ولايته رام ناث كوفيند منصب الرئاسة إلى خليفته دروبادي مورمو (64 سنة). وتعدُّ هذه المرة الثانية خلال فترة ولاية رئيس الوزراء ناريندرا مودي التي يرتقي فيها شخص من فئات متواضعة طبقياً إلى منصب الرئاسة، ذلك أن الرئيس المنتهية ولايته رام ناث كوفيند جاء كذلك من خلفية متواضعة للغاية.
بعد أدائها اليمين، قالت مورمو في خطابها «لقد انتُخبت في فترة مهمة تحتفل خلالها البلاد بمرور 75 سنة على الاستقلال. الوصول إلى هذا المنصب ليس إنجازاً شخصياً لي، بل إنجاز لجميع الفقراء في البلاد. إن انتخابي دليلٌ على حقيقة أنه يمكن في الهند للفقراء أن يحلموا وأن يحققوا هذه الأحلام. هنا تكمن قوة الديمقراطية في الهند، إن الفتاة المولودة في منزل قبلي فقير يمكن أن تصل إلى أعلى منصب دستوري».
ومن جانبه، كتب رئيس الوزراء مودي في تغريدة أطلقها عبر «تويتر» معلقاً «لقد تابعت الأمة كلها بكل فخر واعتزاز أداء السيدة دروبادي مورمو جي اليمين الدستورية كرئيسة للهند. إن توليها الرئاسة لحظة فاصلة في الهند، خاصة للفقراء والمهمشين والمضطهدين، وأنا أتمنى لها كل التوفيق في فترة رئاسية مثمرة».
- حياة متواضعة
كان الانتقال من منزل طيني إلى قصر رئاسي فخم، يضم 376 غرفة، رحلة طويلة للرئيسة مورمو، التي أمضت طفولتها في منزل من الطين بقرية نائية في ولاية أوديشا (أوريسا سابقاً) الساحلية بشرق الهند. ولا يزال كثيرون من أبناء قريتها يطهون طعامهم على الحطب، كما يؤمّنون حاجتهم من المياه عبر استخدام المضخات اليدوية المجتمعية. وحتى اليوم، لم تصل الكهرباء إلى القرية بعد (حتى الشهر الماضي، عندما جرى الإعلان عن ترشحها لانتخابات الرئاسة). وفي الواقع، قبل بضعة، عندما أُعلن حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي اليميني الحاكم عن اختيار مورمو مرشحة للرئاسة عنه، شوهدت الرئيسة العتيدة وهي تمسح أرض أحد المعابد الهندوسية قبل أداء الصلاة.
تجدر الإشارة هنا إلى رئيس الجمهورية في الهند، لا يمارس سلطات تنفيذية، بل هو فقط «رأس الدولة»، وعليه بموجب الدستور أن يعمل بناءً على مشورة الوزراء. ولكن في المقابل، فإن الرئيس – دستورياً – هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الهندية ويتولى تعيين جميع الضباط، بما في ذلك تعيين القيادات. كذلك عندما تعلن البلاد الحرب فإنها تعلنها باسم الرئيس، وباسمه تعقد السلام أيضاً، بفضل السلطة التي يتمتع بها الرئيس فوق البرلمان. وبناءً عليه، فإن الدور أقرب إلى دور العاهل البريطاني أو ملوك هولندا وبلجيكا ودول اسكندينافيا، بمعنى أنه يلعب دور «الحَكَم» في نظام برلماني تمتلك الحكومة الممثلة لغالبيته السلطة الحقيقية. ومن الجمهوريات، تشبه سلطات رئاسة الجمهورية في الهند - مثلاً - سلطات رئيسي ألمانيا وإسرائيل.
- رحلة الصعود اللافتة
بالنظر إلى انتماء مورمو إلى أسرة قبلية وافتقارها إلى ما يكفي من الموارد في حياتها، تبدو مسيرة انتقالها من قرية صغيرة فقيرة في ولاية أوديشا الصغيرة إلى رئاسة الهند... رحلة غير مسبوقة.
ولدت دروبادي مورمو، يوم 20 يونيو (حزيران) 1958، لأسرة فلاحية فقيرة جداً من السانثاليين، وهم من الشعوب الموندية القاطنة في شمال ووسط شرق الهند. ومثل مَن هم في ظروفها، واجهت خلال سنوات نشأتها الكثير من المصاعب. ولرغبتها في نيل التعليم بينما تناضل لتلبية احتياجاتها الاقتصادية، اضطرت مورمو إلى الرحيل عن قريتها وهي لا تزال في السنة الدراسية السابعة. لكنها بمساعدة أقارب لها، تمكنت من إنجاز تعليمها المدرسي في مدينة بهوبانيسوار، عاصمة أوديشا، ثم التحقت بجامعة راما ديفي للنساء.
وبعد التخرّج بشهادة بكالوريوس في الآداب، حصلت مورمو على وظيفة بوزارة الرّي والطاقة، إلا أنها استقالت من وظيفتها بعد زواجها. ثم، بدأ نجمها يصعد مع انطلاق مسيرتها السياسية، إذ دخلت مورمو المجلس المحلي في قضاء رايرانغبور (الذي تتبعه قريتها) في ولاية أوديشا عام 1997. وبعدها فازت في دورتي انتخاب متتاليتين لعضوية البرلمان (المجلس التشريعي) في أوديشا عامي 2000 و2004، مرشّحة عن حزب بهاراتيا جاناتا.
كذلك، شغلت مورمو منصب وزيرة التجارة والنقل، ثم وزارة الثروة السمكية والموارد الحيوانية، بين عامي 2000 و2004. وكانت المحطة التالية في مسيرتها، التي لم تخلُ من مآسٍ وآلام، عام 2007 عندما نالت جائزة أفضل مشرّعة من المجلس التشريعي.
مورمو لم تخض الانتخابات لفترة، عانت خلالها من سلسلة من المآسي والمحن الشخصية، على رأسها وفاة ابنيها (أحدهما عام 2009 في ظروف غامضة، والآخر في حادث سير عام 2013)، ووفاة زوجها جراء إصابته بنوبة قلبية عام 2014. وإضافة لذلك، فقدت والدتها وأحد أشقائها بين عامي 2009 و2015. ولكن، على الرغم من جميع هذه المآسي، تمكنت مورمو من النهوض من جديد والمضي قدماً في حياتها وعملها السياسي، وبالذات نشاطها الحزبي. لقد وجدت مورمو العزاء في الانغماس بالروحانيات والخدمة العامة. وكانت أخبرت صديقة لها أنه لولا تفاعلها مع الناس والتعرف إلى معاناتهم اليومية، لكان الاكتئاب ليقضي عليها.
- شخصية حازمة وقوية
تتميز شخصية مورمو بالحزم والقوة، وأيضاً بالبساطة الشديدة. فهي - وسط معاناتها الشخصية - أغرقت نفسها في العمل، وعملت بجد من أجل توفير الرعاية لآلاف الأطفال المعوّزين، ونشطت كثيراً في مجال الرعاية الاجتماعية... عاملة على توفير الموارد المائية لمناطق معرضة للجفاف وبناء مدارس ومراكز صحية، علاوة على دعم منشآت تتعلق بمجال الدعم.
وفي العام 2016، صارت أول امرأة تتولى منصب حاكم ولاية جهارخاند. ولقد شغلت هذا المنصب لفترة 6 سنوات، رجعت بعد انتهائها إلى قريتها يوم 12 يوليو (تموز) 2021، وظلت تعيش هناك منذ ذلك الحين قبل أن تنتقل إلى القصر الرئاسي في دلهي.
بوجه عام، تحرص مورمو على الابتعاد عن الأضواء وعن الجدل، لكنها أثبتت قوة كبيرة كحاكمة لجهارخاند. وفي حينه، رفضت المصادقة على التعديلات التي أدخلتها الحكومة بقيادة «بهاراتيا جاناتا» على قانون الإيجارات القائم منذ عام 1908، والذي يسمح باستغلال الأراضي القبلية لأغراض تنموية دون تغيير في الملكية. وأثارت التعديلات اضطرابات داخل المناطق القبلية التي رأت فيها تمييعاً لحقوق القبائل؛ ما أجبر الحكومة على إعادة التفكير في الأمر.
من ناحيتها، لا تزال فاسانث كومار غيري، معلّمة مورمو السابقة، تتذكر الابتسامة التي حملها وجه فتاة صغيرة تتشبث بيد والدها في أول زيارة لها للمدرسة. وبحماسة شديدة لنجاح تلميذتها «الرئيسة»، قالت كومار غيري (85 سنة) «نحن معشر المعلمين كنّا على يقين من أنها ستصل إلى مناصب كبرى وتجعلنا فخورين بها. لقد شاهدتها تكافح وتتألق، من عضو مجلس بلدي ثم مجلس تشريعي فوزيرة وحاكمة ولاية جهارخاند». وأضافت بصوت مرتجف عبر الهاتف «بعد أن أصبحت الحاكمة، أهدت جميع المعلمين شالات حريرية، بمَن فيهم أنا».
في الحقيقة، لم يسمع كثيرون من سكان قرية «الرئيسة» عن حي رايزينا هيل - حيث تقع أهم مقرات السلطة في نيودلهي ومنها العنوان السكني الجديد لمورمو ـ ولا هم على دراية بحدود السلطات الدستورية للرئيس الهندي، إلا أنهم في الوقت الذي يصلّون من أجلها، يطالبون بالمزيد من التنمية في مناطق الغابات التي يسكنون بها. وعلى مستوى شخصي حميم، تقول رابندرا باتنايك، صديقة الأسرة منذ 40 سنة، وهي صحافية مقيمة في رايرانغبور، عن مورو «إنها امرأة بسيطة واحتياجاتها قليلة، وطعامها المفضل (الباخالا)، وهو طبق يصنع من الأرز واللبن الرائب. وهي نباتية صارمة، ملتزمة بالتعاليم الهندوسية، وفي حين تنأى عن الخرافات فإنها مؤمنة جداً بقيَم ثقافتها القبلية».
- مكاسب حزبها السياسية
على صعيد آخر، مع أن رحلة مورمو تشكل مصدر إلهام للجميع، فإن ترشيحها من قِبل حزب قومي هندوسي قوي مثل حزب بهاراتيا جاناتا يثير مسألة الرمزية في السياسة. ويرى خبراء سياسيون، أنه مع فوز مرشحته الرئاسية - أي مورمو - يتطلع «بهاراتيا جاناتا» بقيادة رئيس الوزراء مودي نحو التقارب مع المجتمعات القبلية، وفي الوقت ذاته على خلق جمهور انتخابي عبر مختلف أرجاء الهند.
وهنا يقول المحلل السياسي رابي داس «فيما يتعلق بحكومة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكمة، فإن مورمو تشكل جزءاً جوهرياً من المشروع الأكبر لرئيس الوزراء مودي... وهو استراتيجية مدروسة لزيادة انتشار صورة من الهندوسية المتعاطفة والشاملة بين سكان القبائل في عموم الهند». ويضيف «يُعدّ انتخاب مورمو ضربة بارعة من مودي تبعث برسالة سياسية قوية إلى المضطهدين، وتحمل دلالات سياسية قوية، وأيضاً دلالات اجتماعية ودينية مهمة، تهدف إلى هدم ثنائية التمييز بين القبائل والفئات غير القبلية التي نمّاها في البداية الحكام الاستعماريون، ثم السياسيون الهنود في وقت لاحق على مدى الـ150 سنة الماضية. أما الهدف، فهو إنهاء حد لسياسات الهوية السياسية المفتتة التي طبّعتها وأضفت عليها الشرعية دولة الاستقلال النهروية».
من ناحية أخرى، لم تُلهم رحلة مورمو النساء فحسب، بل ألهمت أيضاً الأقليات الأخرى، وسيعمل انتخابها رئيسة في المستقبل على حث المزيد من الناس على امتهان السياسة. ومع ذلك، ثمة مخاوف من أن يصبح الأمر مجرد مهمة يقوم بها الحزب الحاكم من أجل خدمة علاقاته العامة؛ الأمر الذي سيقلل من فرص التأثير الفعلي الذي يمكن أن يحققه القرار.