تشتهر إحدى ألعاب الميسر، باسم «تكساس هولدم». وقد استعار المخرج السينمائي ميشال كمون هذا الاسم ليعرف من خلاله عن مدينته، تحت عنوان «بيروت هولدم». لماذا لجأ إلى ألعاب الورق والقمار كي يسمي مولوده الثاني بعد «فلافل»؟ لأنه رغب في تسليط كاميرته على البيئة الشعبية اللبنانية التي تعيش حياتها بالصدفة. فهي تقامر بكل ما لديها من أجل تأمين لقمة عيشها، بغض النظر عن الأساليب التي تتبعها.
تدور قصة الفيلم في بيروت التي تجتاح التفجيرات الانتحارية. يعود زيكو (صالح البكري)، وهو مقامر سابق إلى حيّه الشعبي، بعد خروجه من السجن حاملاً ذنب وفاة شقيقه وقصة حب فاشلة. يجد نفسه مجبراً على المشاركة في عملية احتيال أخيرة لإعادة بناء حياته. يحمل أحلامه على كفّه في مدينة باتت الحياة فيها تشبه المراهنات، كألعاب الميسر وسباق الخيل. يحاول أن يغير من عاداته ويتقرب من والديه وحبيبته السابقة وأصدقاء العمر للوصول إلى بر الأمان. لكنه يدرك في النهاية أن الحياة لا تضحك سوى لأصحاب الحظ، وهو ليس منهم.
فيلم مليء بأحداث شيقة، من نوع الأكشن، يشد مشاهده منذ اللحظات الأولى. وفي ظل ميزانية سينمائية لا تقارب تلك الهوليوودية، نجح كمون في إثارة أعصاب المشاهد وحثه على متابعة شريطه لنحو 97 دقيقة متتالية. ولعل عملية الكاستينغ التي اتبعها، من خلال اختياره أبطال الفيلم، أسهمت في تقديم توليفة سينمائية متكاملة. إلى جانب الممثل الفلسطيني الأصل، صالح البكري، يشارك في «بيروت هولدم» مجموعة ممثلين محترفين، في مقدمهم روجيه عساف، ونبيلة زيتوني، وعصام بو خالد، وفادي أبي سمرا، وزياد صعيبة، وسعيد سرحان، وريتا حايك وغيرهم. يلمس مشاهد الفيلم مدى التناغم الموجود بينهم إلى حد اقتناعه بأنهم أبناء حي واحد وأصدقاء منذ أيام الطفولة على أرض الواقع، تماماً كما تحكي قصة الفيلم.
كواليس «بيروت هولدم» والبيئة اللبنانية الشعبية (الشرق الأوسط)
وبعيد العرض الأول للفيلم في صالات «غراند سينما» بمجمع «أ ب ث» التجاري في الأشرفية، تحدث أبطاله عن أجواء التصوير، واتفقوا على أنها كانت رائعة. شعروا وكأنهم أصدقاء حقيقيون، وأبناء البيئة نفسها التي يمثلونها. وعلق فادي أبي سمرا قائلاً: «استرجعت وأنا أشاهد الفيلم الذي صوّر منذ سنوات عدّة، كل ذكرياتنا الحلوة في هذا المشوار. وشعرت كأني واحد من الحضور في القاعة. تابعته بعين المشاهد وليس الممثل فيه، وأعجبني كثيراً».
ميشال كمون، الذي كما ذكر في نهاية الشريط، يهدي هذا العمل لشقيقه جود المتوفي، أخرج من أعماقه بصورة لا شعورية أحاسيسه المدفونة. وهو أمر طبيعي لمخرج يتولى كتابة فيلمه السينمائي.
يخيل إليك وأنت تتابع أحداث الفيلم وشخصياته، بأنك التقيت كمون عن قرب. كاميرته ليست مجرد عدسة يديرها بل مشاعر يترجمها بلغته.
ويعلق كمون لـ«الشرق الأوسط»: «لا شك أن كل ما ترونه في الفيلم وحتى أصغر سطر من نصه، ينبع مني مباشرة، خصوصاً أني أنا كاتبه. وهو يأتي من مخيلتي ومحيطي ونظرتي للحياة وأنا شاهد عليها. استوحيت الأحداث من مراقبتي للأمور، وتجارب خضتها، وأشخاص تعرفت إليهم». ويتابع: «أبناء هذا الحي الشعبي هم أشخاص يقاومون من أجل الحياة، وأنا أقاوم لأستمر. صعوبات كثيرة تسكن السينما في لبنان، وأحاول الاستمرار جاهداً لشغفي بها».
ولكن كيف يبني ميشال كمون فيلمه السينمائي ليولد عملاً سلساً يطبع مشاهده بمحتواه وصوره حتى بعد مغادرته صالة العرض؟ يجيب: «أحلم بالفيلم قبل كتابته، وأتخيل أحداثه قبل تصويره. فتنضج الأفكار في رأسي مشهداً وراء الآخر. ومن ثم أنفذه. هذا هو الجانب الانطباعي الذي أسعى إليه في أفلامي. فيذهب المشاهد برحلة، وعند عودته تكون ذاكرته قد حفظت مواقف ومحطات ومشاهد بقيت في ذهنه خلال الزيارة».
يتابع كمون لـ«الشرق الأوسط»: «أنفذ فيلمي وكأني أصنعه لنفسي، فيكون بمثابة تجربة ورحلة أخوضهما بشغف. حتى موضوع العمل يتحول إلى هاجسي، فيتملكني ويجتاحني وكأني أقوم برحلة، أعيش تفاصيلها ونكهتها إلى حد ترجمتها في كاميرتي».
يبني كمون المشاعر القاسية ونقيضها الرقيق عند المشاهد حجرة حجرة. فجبلة الإسمنت التي يستخدمها هي صلبة صحيح، ولكنها لا تشبه تلك التي تبنى منها العمارات الشاهقة في المدينة. يركن إلى مواقف إنسانية عديدة، تخترق معاني الصداقة والحب والحنان والإخلاص لتتمتع ببساطة بيوت الطين. يتلقاها المشاهد في جرعات سريعة، تدفعه إلى التعاطف مع هذه البيئة الشعبية وهي مرآة مجتمعاتنا الحقيقية. يطربك كمون بكاميرته، وتأثير هذه الحالة يلازمك لفترة. فالبيئة الشعبية بكل حسناتها وسيئاتها يقدمها كمون في هذا الشريط الممتع من دون ريتوش. فلا يلمع صورتها ولا يزيف حقائقها، بل يستخدم لغة الشارع ليجسد واقعها كما هو وبعفوية.
المدينة المنهكة بفعل الانفجارات ومشكلات الفساد لا تترك مجالاً للحارة الشعبية لتلتقط أنفاسها. فأهلها بسطاء، يتألفون من ميكانيكي، وأستاذة موسيقى، وصاحب مكتب تدار فيه ألعاب الميسر أو المراهنات على سباق الخيل. وينقل كمون مشهدية هذه المدينة قبل انفجار 4 أغسطس (آب)؛ مدينة تنبض بالحياة وبأحلام أهلها العادية. فتستمتع برؤية مرفئها وساحلها قبل أن تصيبه الكارثة. وثّق المخرج خصوصية بيروت من حيث لا يدري. فهو بدأ بتصوير فيلمه عام 2015، ورغم جهوزيته للعرض في عام 2018 فإن أحداثاً متعاقبة في البلاد أخرت عرضه في صالات السينما لغاية اليوم.
فيلم «بيروت هولدم»، المشبع بالأحاسيس المرهفة، وبمشاهد وموضوعات غنية، بدأ عرضه في صالات السينما اللبنانية. من خلاله تكتشف كيف أن الحياة في لبنان لم تتغير. أهله يستمرون في المراهنة منذ سنوات طويلة على أمور كثيرة، لكنهم لا يلبثون أن يخسروا، وكأنهم يعيشون في دوامة قد لا تنتهي.