تمركز المقاتلين وسط المدنيين والمخبرين... مسألتان حساستان في حرب أوكرانيا

سوق في دونيتسك دمرته ضربة صاروخية روسية (رويترز)
سوق في دونيتسك دمرته ضربة صاروخية روسية (رويترز)
TT

تمركز المقاتلين وسط المدنيين والمخبرين... مسألتان حساستان في حرب أوكرانيا

سوق في دونيتسك دمرته ضربة صاروخية روسية (رويترز)
سوق في دونيتسك دمرته ضربة صاروخية روسية (رويترز)

تثير الضربات اليومية على مناطق سكنية في المدن والقرى الواقعة في شرق أوكرانيا تساؤلات بشأن مسألتين حساستين تتعلقان بتمركز عسكريين في المناطق المدنية، ووجود مخبرين بين السكان.
وزارت وكالة الصحافة الفرنسية العديد من الأماكن المتضررة في منطقة دونيتسك التي يريد الروس الاستيلاء عليها، حيث وجدت أن مناطق سكنية لا أهداف عسكرية واضحة فيها تتعرض للقصف بشكل منتظم.
في بوكروفسك التي تبعد 85 كيلومتراً جنوب كراماتورسك، المدينة الكبيرة في المنطقة، دمرت غارة في 17 يوليو (تموز) أو ألحقت أضراراً بعشرات المنازل في شارع واحد. في كوستيانتينيفكا وتوريتسك وحتى كراماتورسك، ورغم أنها بعيدة عن الجبهة، تسقط صواريخ في مناطق سكنية مما يسبب سقوط ضحايا ودماراً.
يرى سكان هذه المناطق أن سبب عمليات القصف هذه لا شك فيه في أغلب الأحيان، فهم يؤكدون أن جنوداً أوكرانيين تمركزوا في أماكن قريبة، في منازل أو مدارس مهجورة. ولم تتمكن وكالة الصحافة الفرنسية من التأكد من صحة هذه المعلومات من مصدر مستقل.
واتهمت منظمة «هيومن رايتس ووتش» مؤخراً الطرفين المتحاربين الروسي والأوكراني بتعريض المدنيين للخطر من دون داعٍ عبر نشر جنود في قلب مناطق مأهولة بالسكان. ووثقت المنظمة غير الحكومية خصوصاً أربع حالات في الجانب الروسي في مناطق محتلة من أوكرانيا، وثلاث حالات على الجانب الأوكراني.
وقالت إنه على «القوات الروسية والأوكرانية على حد سواء تجنب نشر قوات وسط المدنيين، وبذل كل ما في وسعهما لإبعاد المدنيين عن المنطقة المحيطة» بهؤلاء العسكريين.
https://twitter.com/aawsat_News/status/1551217857098285057
ورداً على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، قال حاكم منطقة دونيتسك بافلو كيريلينكو، «إنها الحرب... من المستحيل تجنب تدمير بنى تحتية وممتلكات». وأضاف أن «مهمتنا الأولى هي وقف العدو، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تدمير بنى تحتية... من المستحيل شن حرب بأي طريقة أخرى».
في كراماتورسك، كان يفغين (70 عاماً) جالساً القرفصاء في الشارع ويدخن سيجارة وهو يتأمل المدرسة رقم 23 التي دمرت بالكامل في قصف صاروخي.
وهذه المدرسة التي كانت تستقبل حوالي 500 تلميذ وطالب تتراوح أعمارهم بين ستة أعوام و17 عاماً، هي ثاني مدرسة في المدينة تدمر، بينما تضررت سبع مدارس أخرى منذ بداية الحرب، حسب رئيس قسم التعليم في بلدية المدينة دينيس سيسوييف.
وأوضح أن المدرسة كانت تستخدم منذ بداية الحرب مستودعاً للمساعدات الغذائية.
وقال يفغين العامل السابق في مصنع لقطع الميكانيك الذي يؤكد أنه من مواطني المدينة «منذ ثلاثة أجيال»، إن «الروس يستهدفون الجنود الأوكرانيين... لا أعرف ما إذا كانوا متمركزين في المدرسة لكننا رأيناهم يأتون ويذهبون باستمرار في المنطقة».
وأضاف: «وفي منطقتنا هناك الكثير من أصحاب النيات الحسنة الذين يرغبون في مساعدة الروس وإبلاغهم».
هذا الاتهام تكرره ناتاليا الأم لثلاثة أطفال التحقوا بالمدرسة رقم 23، وتضيف أن مسألة «المخبرين» الحساسة تُطرح بعد كل قصف.
وقال حاكم دونيتسك كيريلينكو، «إنه سؤال: كيف يعرف العدو إحداثيات الأماكن التي يتمركز فيها عسكريون؟»، موضحاً أن «جزءاً كبيراً من السكان ما زال موالياً للمحتلين وينتظر العالم الروسي... إنهم يعلمون أنها خيانة وسيندمون عليها لاحقاً».
https://twitter.com/aawsat_News/status/1552361930102190082
وقبل أيام، كتب رئيس بلدية كراماتورسك، أوكسندر غونتشارينكو، على «فيسبوك» بأسف: «أرى أن الكراهية تتصاعد بين سكان كراماتورسك». وأضاف أن «الذين ينتظرون قدومهم (الروس) ووُعدوا بجبال من الذهب وبحرية التعبير من منقذيهم، أغبياء».
وتابع: «أرجوكم الزموا الهدوء... ضعوا جانباً أحقادكم وشكوككم... وجهوا غضبكم في اتجاه آخر، نحو الذين يريدون سرقة حياتكم الطبيعية والسلمية».
وتقول غالينا بريشتشيبا المتحدثة باسم أجهزة الاستخبارات في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، إنه تم اعتقال 37 «مخبراً» في دونباس منذ بداية الحرب، واتهموا بالتجسس والخيانة العظمى.
في جنوب أوكرانيا، أعلن حاكم منطقة ميكولاييف التي تتعرض لقصف مستمر من قبل القوات الروسية، مؤخراً، عن مكافأة قدرها 100 دولار لمن سيساعدون في التعرف على متعاونين مع الروس.
ودعا فيتالي كيم على حسابه على «تلغرام» إلى تقديم معلومات حول «الذين يكشفون للمحتلين أماكن انتشار القوات الأوكرانية»، أو مساعدتهم في تحديد إحداثيات أهداف القصف المحتملة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟