من الرواية إلى الفيلم.. أي تفاعل بين الأدب والسينما في المغرب؟

نقاد: يمكن للرواية أن تخرج السينما المغربية من انعزاليتها وقصورها الإبداعي

ملصق «الغرفة السوداء» لحسن بنجلون الذي اعتمد على  رواية بالاسم نفسه لجواد مديدش  -  ملصق فيلم يا خيل الله  -  سرير الأسرار
ملصق «الغرفة السوداء» لحسن بنجلون الذي اعتمد على رواية بالاسم نفسه لجواد مديدش - ملصق فيلم يا خيل الله - سرير الأسرار
TT

من الرواية إلى الفيلم.. أي تفاعل بين الأدب والسينما في المغرب؟

ملصق «الغرفة السوداء» لحسن بنجلون الذي اعتمد على  رواية بالاسم نفسه لجواد مديدش  -  ملصق فيلم يا خيل الله  -  سرير الأسرار
ملصق «الغرفة السوداء» لحسن بنجلون الذي اعتمد على رواية بالاسم نفسه لجواد مديدش - ملصق فيلم يا خيل الله - سرير الأسرار

هناك روايات كثيرة ألهمت عددا من المخرجين عبر العالم لإنجاز أفلام جميلة، بقدر ما أثرت المشهد السينمائي زادت من شهرة الروائيين ورفعت من مبيعات إبداعاتهم، التي تم اقتباسها أو استلهامها.
وفي الوقت الذي أكدت العلاقة بين الأدب والسينما، في عدد من التجارب السينمائية العالمية، أهمية التفاعل بين الروائيين والسينمائيين، يجمع المتتبعون للمشهد الأدبي والفني في المغرب على أن العلاقة بين الأدب والسينما، ظلت «مطبوعة بالفتور وعدم الفهم»، مشددين على أن «التراكم الكمي المحدود» للسينما المغربية «قلل من حظوظ النجاح في تحويل الرواية إلى فيلم»، وهو ما «لم يشجع، بالشكل المطلوب، باقي المخرجين على مزيد من التفاعل مع السرد المغربي».
وتحفل الخزانة السينمائية المغربية بعشرات الأفلام التي استندت إلى روايات، أو قصص ومسرحيات مغربية، ومن ذلك فيلم «صلاة الغائب» للمخرج حميد بناني الذي اشتغل فيه على رواية «صلاة الغائب» للطاهر بنجلون، والمخرج حسن بنجلون الذي اشتغل في فيلمه «الغرفة السوداء» على رواية «الغرفة السوداء» لجواد مديدش، والمخرج عبد الحي العراقي الذي اشتغل في فيلمه «جناح الهوى» على رواية «قطع مختارة» لمحمد نضالي، والمخرج محمد عبد الرحمن التازي الذي اشتغل في فيلمه «جارات أبي موسى» على رواية «جارات أبي موسى» لأحمد التوفيق، والمخرج حميد الزوغي الذي اشتغل في فيلمه «بولنوار» على رواية «بولنوار» لعثمان أشقرا، والمخرج نبيل عيوش الذي اشتغل في فيلمه «ياخيل الله» على رواية «نجوم سيدي مومن» للماحي بينبين، والمخرج الجيلالي فرحاتي الذي تفاعل في فيلمه «سرير الأسرار» مع رواية «سرير الأسرار» للبشير الدامون.
ويتحدث عدد من النقاد عن «تفاوت» هذه الأعمال السينمائية المغربية، المقتبسة أو المستلهمة لأعمال روائية مغربية، في «مقارباتها وتباينها على مستوى الهوية السينمائية»، ويرون أن «النجاح المحقق في بعضها ظل استثناء»، الشيء الذي دفع إلى القول بأن «عدم توفق أغلب المخرجين المغاربة في تفاعلهم مع الأدب المغربي لم يشجع مخرجين آخرين على مزيد من التفاعل مع الرواية المغربية والتعامل مع الروائيين المغاربة».
ومع ذلك، يرى الناقد السينمائي والقاص المغربي محمد اشويكة، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن «هناك إرهاصات مهمة جدا» لـ«علاقة إيجابية بين الرواية والسينما في المغرب»، ممثلا لذلك بعدد من الأفلام التي حظيت بالاهتمام والمتابعة، من قبيل «بولنوار» لحميد الزوغي، حيث «ساهمت الرواية في إعطاء الفيلم حمولته الثقافية والفكرية»، و«سرير الأسرار» لجيلالي فرحاتي، و«ياخيل الله» لنبيل عيوش؛ وهي أعمال تؤكد أنه «إذا التقى خيال الروائي مع خيال كاتب سيناريو موهوب وخيال مخرج موهوب يمكن أن يعطينا عملا جيدا».
ويرجع اشويكة سبب «الفتور»، الذي يتحدث عنه البعض، بصدد علاقة السينما والأدب في المغرب، إلى «طبيعة تكوين السينمائيين المغاربة»، مقارنا وضعية السينما المغربية بمثيلتها في مناطق أخرى من العالم، والتي عرفت تقليد انفتاح المخرجين على الأدب، خاصة في الغرب ومصر، كما كانت سباقة إلى إنشاء أكاديميات للفنون، مكنت الطلبة من «الانفتاح على كافة المكونين في مختلف الأجناس الأدبية والفنية، ما جعل من الطبيعي أن يفكر الخريج في الاقتباس»، وعلى العكس من ذلك، تقريبا، غالبا ما يكون المخرج السينمائي في المغرب، حسب اشويكة، خارج مثل هذا السياق التكويني، فضلا عن «ظروف الإنتاج التي تساهم في تدني نسبة التفاعل بين الطرفين»، مع تسجيل «غياب مبادرات تحفز وتكرس علاقة متقدمة بين الأدب والسينما، دون الحديث عن عقلية كثير من المخرجين المغاربة الذين يفضلون القيام بكل شيء، من كتابة السيناريو إلى الإخراج، علاوة على أن كثيرا منهم لا يقرأ الأدب المغربي، ولا يطلع عليه».
من جانبهم، يرى كثير من المخرجين المغاربة أن «الروايات المغربية عبارة عن خواطر مغلقة لا تتيح صناعة عوالم فسيحة بشخوصها وفضاءاتها وحبكتها»، ولذلك «لا توفر إمكانية التفاعل معها سينمائيا». ولدعم وجهة نظرهم، تجدهم يحيلون على روايات نجيب محفوظ، مثلا، التي يرون أنها «سيناريوهات جاهزة لا تتطلب سوى عملية تحويل تقنية تطبع البصمة السينمائية على العمل».
لا تسلم وجهات نظر المخرجين المغاربة من المراجعة النقدية، ومن ذلك أن ينتقد اشويكة القول بأنه ليست في المغرب روايات يمكن تحويلها إلى أفلام، ملاحظًا أن هؤلاء المخرجين «يبحثون عن السطرية، وعن الشخوص الجاهزة، وعن البنية السردية التقليدية الواضحة، وعن الديكورات والعوالم المتاحة على مستوى الإنتاج»، مبرزا أنه «ليس كل المخرجين المغاربة يمكن أن يقتبسوا أعمالا سينمائية»، منتقدا «اغتراب» عدد من المخرجين عن العالم الذي يخرجونه، مشددا على أن «ليس كل مخرج سينمائي مؤهلا لكي يقتحم عوالم الرواية».
يستحضر اشويكة واقع الممارسة السينمائية في المغرب، مشددا على أن «الرواية المغربية مستعدة لإنقاذ السينما المغربية، خاصة على المستوى الإبداعي»، مشيرا إلى أن «التفاعل بين الجانبين سيمكن هذه السينما من عمق في المواضيع المطروقة، وفي الإمكانيات التخييلية والمجازية»، من جهة أن «عمق الرواية المغربية وقوة مرجعيتها الأدبية والفكرية يمكن أن يمنح المخرج الموهوب إمكانيات هائلة لتوظيف علاماتها، وأفقا رحبا لاستثمار اللغة السينمائية»، مشيرا إلى أن «أكبر أزمة تعيشها السينما المغربية هو انعزاليتها عن الجمهور بسبب عدم إبداعيتها وعدم تحقيقها لانتظارات الجمهور»، قبل أن يتساءل: «لماذا يقرأ المغاربة الرواية المغربية؟ من المؤكد أنهم وجدوا فيها متعة، ثم إن هذه الرواية حققت قيمتها عربيا، على الأقل، واستطاعت أن تنافس أعرق التجارب الروائية العربية، وحتى على الصعيد الأوروبي. ثم لماذا تحظى هذه الأعمال الروائية المغربية بمن يستمتع ويحتفي بها دون أن تجد مخرجين مغاربة ينقلونها إلى الشاشة، استلهاما أو اقتباسا؟ مع الإشارة إلى أن الوفاء للرواية، على مستوى الاقتباس، يبقى مسألة نسبية، بشكل يجعلنا لا نبحث في الرواية عن الفيلم أو في الفيلم عن الرواية، بل بما يقدمه المخرج من إبداع آخر».
لكن من المسؤول عن «فتور» و«أعطاب» العلاقة بين الأدب والسينما في المغرب؟
جوابا على هذا السؤال، يرى اشويكة أن «حديث المسؤولية لا يعني أن نوجه اللوم مباشرة للمخرجين»، مشددا على الحاجة إلى «خلق فرص اللقاء بين كافة المتدخلين في العملية»، معددا عددا من المعنيين بالموضوع، مركزا، بشكل أساسي، على وزارة الثقافة والمركز السينمائي المغربي والصحافة المتخصصة والنقاد السينمائيين والباحثين الأكاديميين في مجال الأدب والدراسات السمعية البصرية.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.