الاستراتيجية المنسية: تحرير الفضاء الشيعي من القبضة الإيرانية

مع التنبه للقواسم المشتركة بين «داعشيتي» البغدادي والولي الفقيه

الاستراتيجية المنسية: تحرير الفضاء الشيعي من القبضة الإيرانية
TT

الاستراتيجية المنسية: تحرير الفضاء الشيعي من القبضة الإيرانية

الاستراتيجية المنسية: تحرير الفضاء الشيعي من القبضة الإيرانية

تستقوي حالات التطرف العنفي أو القتالي السنّية والشيعية بشد عصب حواضنها واللعب على وتر الانتقام عند تبرير ميلها للعنف والإلغاء. ثم إنها تتعمد تخوين أو تكفير كل من يخالفها ضمن بيئاتها المذهبية لتسويغ خيارها المتطرف. وراهنًا، تمرّ المنطقة العربية بنماذج لافتة لأقصى حالات التطرف السني والشيعي، تظهر مع التوسع الإيراني عبر أدواتها التنظيمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وبعض دول الخليج، وظهور «داعش» بعد بروز التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة». ولئن كانت الإفرازات العنفية تمثل فصولا في ساحات القتال، فإن بعضها يظهر عبر التفجيرات ضد المدنيين وأعمال العنف ضد الأفراد.

لعل أهم ما أتى في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله المتأخر، حسب رأينا، في ساحة عاشوراء بمدينة النبطية في جنوب لبنان، يوم 23 مايو (أيار) 2015، إقراره بوجود «الآخر الشيعي».. «الآخر غير الملتحق بإيران» والمنعتق منها، مؤمنا بقيمة الوطن والاعتدال والحداثة والتعايش، وهذا ما يسترعي انتباهنا أنصارًا للاعتدال أو مؤمنين بحقيقة ومستقبل الأوطان في وجه «الدواعش».
من الخطأ ابتداءً حصر الآيديولوجية والحركية القتالية العنيفة في الفضاء والفكر السنّي دون الفضاء والفكر الشيعي. إنه خطأ تحليلي وواقعي واضح، يردده البعض من دون تدقيق. إن «الجهاد» المختزل في مفهوم القتال كفكرة وكتأصيل موجود في كلا الأصلين والتراثين، وتوظيفه المعاصر من كلا الطرفين ماثل أمام أعيننا، ويلتقي في خطابه كما يلتقي في أدواته وممارساته التمييزية واللاإنسانية دائمًا. لكن ثمة فارقًا أصيلاً ينبغي التأكيد عليه هو أنه بينما تناهض الدول السنّية التطرّف المتزيّي بزي «الجهاد»، وتبادله العداء، تجد «الجهاديات» الشيعية كل رعاية ودعم وتدريب وتجنيد من الدولة الخمينية ونظام الولي الفقيه.
ولا شك أن مجابهة كلا التطرفين لا تكون بالمواجهة العسكرية والأمنية فقط، بل في المقام الأول باستراتيجية تحريرية للإسلام المعتدل والغالب من قبضة هذه الهوامش المتطرّفة: «الداعشية السنّية» الملتحقة بـ«أمرائها»، و«الداعشية الشيعية» الملتحقة بالولي الفقيه والنظام الإيراني معًا. ومن ثَم، التمكين لمقولة دعاة الوطن والدولة الحديثة التي تتسم بالحياد والمساواة، والتي ترتفع فوق التحيز والانتماءات الأولية لمكوناتها بشكل عام، وكذلك عبر استراتيجيات القوة الناعمة التي ترفض احتكار كلتيهما الصحة والمقدّس.

* الالتقاء بين وجوه التطرف الطائفي
* ثمة مناطق التقاء كثيرة بين حالتي التطرف - أو الداعشية - السنّية والشيعية، التي استدعت كل منهما الأخرى في «سوريا الأسد» و«عراق المالكي». وحتى الآن، فكلتاهما تسعى للتمكين لـ«إمارة» مؤمنيها وإمامتها، وهما تلتقيان في العداء ورفع شعار «الموت لأميركا وإسرائيل»، واستهداف دول المنطقة وحكوماتها تبعًا لذلك. لكن الأخطر في الالتقاء أنه يحاول دائما باستمرار تفجير الطائفة الموالية له وتثويرها في وجه الدولة ووجه الطوائف الأخرى، وإعدام فكرة التعايش والحياد بين مكوّنات الدولة والمجتمع!
ويتجلى هذا الالتقاء في العمليتين الأخيرتين لخلايا داعشية نائمة في مسجدين للشيعة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية خلال جمعتين متتاليتين، أولا في بلدة القديح القريبة من مدينة القطيف يوم 22 مايو الماضي، وفي مدينة الدمام يوم 29 مايو. وكذلك، لم تكن الشعارات الطائفية لميليشيا «الحشد الشعبي» العراقية في عملية استعادة الأنبار يوم 26 مايو أيضا «لبيك يا حسين» بناءً على رغبة إيرانية – تحوّلت لاحقًا الرغبة الأميركية والوطنية إلى «لبيك يا عراق» – إلا خطوة في هذا الاتجاه، ونحو الهدف الداعشي نفسه، أي تفجير الطائفية قصمًا وقسمة لفكرة الوطن!
أتت العمليات الانتحارية – بدعة «القاعدة» و«داعش» – في بيوت الله محاولة فاشلة للاستثمار في الطائفية واحتقاناتها، حيث المناخ والشعور العام مُحتقن ضد التوظيف السياسي للطائفية، وأثناء «عاصفة الحزم» التي بدأت في 26 مارس (آذار) الماضي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد الحالة الطائفية الحوثية المتطرّفة المدعومة إيرانيًا.
هذه الحالة الطائفية الحوثية ارتكبت جرائم حرب وإبادة ضد السنّة في عمران ودماج وصنعاء والضالع وأبين وغيرها، قبل وبعد ابتلاعها الدولة اليمنية والشرعية التي تدافع «عاصفة الحزم» ومعها المجتمع الدولي، عنها. وكانت قبلا قد غدرت بكل اتفاقاتها السابقة بدءا من «المبادرة الخليجية» في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، ثم «مُخرجات الحوار الوطني» اليمني الذي استغرق أكثر من عشرة شهور وانتهى في 25 يناير (كانون الثاني) 2013، وضم عشرة ممثلين عن الحوثيين أنفسهم، وقعوا على ذلك ولكن كالعادة لم يلتزموا، ثم قرار تقسيم الأقاليم الصادر في 9 فبراير (شباط) 2014، ثم «اتفاق الشراكة والسلم» بعد غزوهم العاصمة صنعاء في 22 سبتمبر (أيلول) 2014.
عند كل هذه المحطات تمرد الحوثيون رافضين كل توافق، ومُصدّرين العداء والتهديد وقذائف الأقوال قبل قذائف القتال التي يلقاها ويواجهها السعوديون على حدودهم في جيزان ونجران! ولقد سقط إبراهيم سندي شهيدًا في نجران بقذائف الحالة الطائفية الحوثية كما سقط عبد الجليل الأربش وشقيقه وابن خالته في العنود بانتحارية «داعش»، في يومين متتاليين، ليعلو «الوطن الواحد» و«الدم الواحد» على من يريدون تفجير الأوطان من الداخل.

* الاستثمار في الاحتقان الطائفي
* تضيق بعض الآيديولوجيات والتعصبيّات الدينية دائما بفكرة التنوع و«آخريها»، ومن هنا حاول نظام الولي الفقيه و«الجهاديات» - أو حالات التطرّف – الشيعية المتحالفة معه، على الدوام، «احتكار الكلام» باسم الشيعة العرب والمسلمين عمومًا. وهو ما تحاوله وتؤكد عليه أيضا «الجهاديات» المنسوبة للسنة.. مع فارق أن هذه الأخيرة مرفوضة من دولها، ومرفوض احتكارها التكلم باسم العالم السني والمسلمين عمومًا.
كذلك تتشارك الحالتان التطرفيتان في احتكارهما الوطنية، وتخوين كل منهما «آخريها» بتهم التبعية، وأنهم «شيعة السفارة» كما وصف نصر الله الشارع الشيعي المناوئ لحزبه ولإيران، أو «أبو رغال» كما كان أسامة بن لادن يصف الحكام العرب المعاصرين، في إشارة إلى ذلك الرجل الذي دلّ أبرهة الأشرم على هدم الكعبة! أو كما يصف «داعش» اليوم «القاعدة» بـ«أبناء إيران» وغير ذلك من تهم!
ولكن يظل العالم الإسلامي – سنيًا وشيعيًا – وفي كلا الجانبين، أوسع من هذه الهوامش اللاتاريخية الطارئة، المنفصلة عما دخله العرب من حداثة، وما استجدّ من حدود قومية، وما اعتمد من دساتير وقوانين مواطنة تجاوزت عصر الحروب الدينية القديم!
إن الاستثمار والتوظيف السياسي للطائفة أوضح ما يكون في جدل البغدادية الداعشية السائر في تكفير كل الشيعة وكل الفرق غير السنّيّة، كما يتجلى في «جهاديات» شيعية بالآلاف ادعت أنها في دفاعها عن نظام الأسدي المتوحش والمستبد، الذي عانت منه كل الطوائف والمواطنين في سوريا، بلا استثناء، ترفض أن «تسبى زينب مرتين» أو تلبي نداء الحسين! وهي في حقيقة الأمر رفعت هذه الشعارات تلبية للرؤية الإيرانية ونتيجة لها دفاعًا عن تابع سياسي خسر شعبه الذي استهدفه بالأسلحة البرّية في أبريل (نيسان) 2011 ثم بالأسلحة الجوية في يونيو (حزيران) من العام نفسه، ثم استخدم الأسلحة الكيماوية 11 مرة حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2014، ولا يزال يستخدمها ويستخدم البراميل الحارقة.
بيد أن السلاح الأخطر والأفتك الذي استخدمه الأسد فأطال عمر نظامه وعطل مسيرة الثورة هو السلاح الطائفي، إذ نجح في «تطييفها»، فاستجلب لنصرته القوى الطائفية الشيعية منذ مايو 2011، فكان رد الفعل عليه وجود «القاعدة»، ثم «داعش» الذي تأخر ظهوره حتى نوفمبر وديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه!
إن الوجود الإيراني المتوسّع والتدخل الميليشياوي الإيراني في «عراق ما بعد صدام حسين» منذ 2003 هو ما أعطى أبو مصعب الزرقاوي – الذي أصرّ على استهداف عموم الشيعة – «شرعيته» السياسية و«حاضنته» في المناطق السنّية، حتى نجح في زرع بذرة «داعش» الأولى في الأنبار عام 2007 عبر حلف «سماه حلف المطيّبين» مع بعض وجوه القبائل، عاد فتكرر في سوريا وفي اليمن. وهو يمتد الآن في عدد من المناطق الأخرى. كذلك ما كان الظهور الأول لأبو محمد العدناني، المتحدث باسم «القاعدة» في العراق، و«داعش» في ما بعد، إلا محاولة للصيد في عكر الاحتقان والتمييز الطائفي ضد السنّة في عهد المالكي وفض الاعتصام السلمي في الأنبار في يناير عام 2013.
ويتمدد «الدواعش»، سنةً وشيعةً، من تربة التمييز الطائفي وأتونه، وكانت الذريعة لضرب كنيسة سيدة البشارة أو النجاة في بغداد، حسبما أعلنت «قاعدة» الزرقاوي في حينه، «الردّ على غياب متحولتين للإسلام في مصر عام 2010». كذلك حاول حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، الصيد في عكر تفجيري القطيف والدمام الانتحاريين. وتحاول إيران توسّعًا واستهدافًا صناعة جيوب مستمرة ترهق الدول وتستهدفها، وأنشأت لذلك منظومة أحزاب الله في لبنان عام 1982 وفي الخليج عام 1987 وفي سوريا في 23 يناير الماضي 2015. ثم في مطلع الشهر الحالي أعلن نظام بشار الأسد عن استقبال 20 ألف مقاتل شيعي لمساندة نظامه المترنح والمتراجع في سوريا!
التطرّفان الداعشيان السنّي والشيعي، إذن، عولميان وتعبويان.. رغم تجنبهما الصدام. ويلاحظ أنه من أصل 103 وثائق تركها بن لادن في أبوت آباد بعد مقتله في مايو 2011، لم تنل أي منها فكرة العداء أو استهداف إيران، رغم شكوى أحد مراسليه له من سوء معاملة أسرته وعناصر تنظيمه فيها ومراقبتهم من قبل نظام الولي الفقيه!

* مشترك تصدير ثورات التطرّف
* تنطلق «الجهادية» الشيعية مما أكده الخميني، من أن مبدأه الأول هو «تصدير الثورة». ولكن لن ينجح هذا التصدير إلا في حاضنة طائفية محتدمة ومحتقنة تشعر بالتمييز ضدها، وهو أيضا ما يسعى إليه «داعش» وأخواته مستفيدًا في المجال السنّي، ويتصاعد التخوف منه مع دخول وممارسات ميليشيات الحشد الشعبي ومحاولتها استعادة الأنبار في 26 مايو الماضي.. إنه الاستثمار من أوار التمييز الطائفي لا غير. وتبدو أساليب التعبئة هي الأساليب نفسها، والشعارات نفس الشعارات، وهي تلك التي أعلنها نصر الله في خطابه بساحة عاشوراء، فليس أمام التطرفين «إلا الحرب أكثر مما حاربوا في السابق، أو استسلامهم للذبح واستسلام نسائهم للسبي»، والاستناد لكل المخزون الطائفي والديني محاولين إشعاله، بدءا من ذكرى الإمام الحسين (رضي الله عنه) إلى حادث القديح والقطيف إلى ممارسات كل منهما ضد طائفة الآخر.
إن السنّة متن ليست «البغدادية» وأخواتها سوى هامش فيه، كما أن الشيعة متن ليس حزب الله والولي الفقيه إلا هامش فيه، ولا شك أن الضجيج لا يعني الغلبة، والحقيقة البينة أن المعتدلين في الجانبين والمجالين - السنة والشيعة - هم المتن، وهم الجماهير الغالبة والأغلبيات المستقرة، رغم محاولات طيها من هوامش الدواعش، الكافرين بفكرة الدولة وحيادها والمتجاوزين لها. إنهم «الجهاديات» المتناحرة من أجل حكم الخليفة أو الإمام، عبر تأبيد الكراهية التاريخية بين أبناء الأوطان.

* استراتيجية تحرير شيعية من إيران
* ربما يكون صعبا الحديث عن التشبيك بين اتجاهات الاعتدال في لحظة تناحرية بين المتطرفين، وهم يستهدفون الجميع ويدعون للحرب في المنطقة بأسرها. ولكن لا بد من الاهتمام بها وترميزها وتجسير الجسور في ما بين التيارات المعتدلة، وتأكيد قيمة التسامح والتعايش الطائفي، ويمكن تحديد الخطوط المبدئية التالية في تخطيطها:
1) إدراك وإدارة التنوّع داخل المجال الشيعي، كما هو حادث وماثل داخل المجال السنّي، واتخاذ مواقف مشتركة ضد كلا التطرفين.
2) إدراك التنوع والخلاف بين التشيّع العربي والعلوي من جهة والتشيّع الإيراني السياسي والصفوي من جهة أخرى، كمدارس متمايزة ومختلفة، وتحاشي تجيير الكل لصالح الهامش الإيراني.
3) تجسير الفجوة مع الطرح التجديدي والنقدي للتطرّف الشيعي، منذ طالقاني وشريعتي ومطهري حتى شبستري وسوروش، وغيرهم ممّن فصلوا التوظيف السياسي للطائفة في نظام الولي الفقيه.
4) تجريم وتحريم النزعات والخطابات التعصبية المستنفرة للمكوّنات الطائفية المخالفة، والإدارة الواعية والمسؤولة في إطار الوطن بين التنوعات الطائفية.
5) التعاطي الإيجابي مع الخلاف بين «مرجعية النجف» و«مرجعية قُم» التي تنازعها شرعيتها التاريخية.
6) الانطلاق من «الآن» ومن المكان «هنا» ومن التراث التسامحي العابر للطوائف نحو الأصل الإسلامي، لا الإسلام التاريخي بحمولاته، من الفتنة الكبرى للعصر الصفوي والعثماني، نحو آفاق مشتركة تحافظ على الأوطان ضد محاولات تفجيرها الداعشية.
7) إعادة الاعتبار لسؤال النهضة الذي تحرّر من ثقل الخلافة العثمانية عند نشوئه ويقظاته، منشغلا بتجاوز حالة وفجوة تخلفنا وتقدّم غيرنا، منذ طرحه أخريات القرن التاسع عشر، وليس فقط مع شكيب أرسلان وكتابه الشهير عام 1939، بعيدا عن أسئلة التاريخ التي صارت اعتقادا وخلافا حول الإمامة والخلافة والفتن! التي تعود مع هؤلاء.
* كاتب وأكاديمي مصري



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.