«داعش درنة» يتحوّل لأكبر خطر على الحكومة والبرلمان والجيش في ليبيا

يستولي على دعم الدولة الموجّه للأهالي ويصله مدد من البحر ويتحصن بالجبال

قافلة من سيارات {داعش} ومقاتليه في مدينة درنة الليبية (رويترز)
قافلة من سيارات {داعش} ومقاتليه في مدينة درنة الليبية (رويترز)
TT

«داعش درنة» يتحوّل لأكبر خطر على الحكومة والبرلمان والجيش في ليبيا

قافلة من سيارات {داعش} ومقاتليه في مدينة درنة الليبية (رويترز)
قافلة من سيارات {داعش} ومقاتليه في مدينة درنة الليبية (رويترز)

يمثل تنظيم داعش في مدينة درنة الليبية راهنًا، أكبر خطر على مصير الحكومة والبرلمان والجيش في ليبيا؛ إذ جعل التنظيم هذه المدينة، الواقعة في شمال شرقي البلاد والمطلة على البحر المتوسط، أخطر نقطة ارتكاز لـ«الدواعش» بالقرب من أوروبا، خاصة بعدما أصبح يستولي على الدعم المُقدّم من الدولة والموجه لأهالي المدينة، إلى جانب وصول مَدد له من البحر وإنشائه تحصينات في الجبال تحسبا للحرب مع الجيش الذي يفتقر للإمكانات.
على الرغم من محاصرة الجيش الوطني الليبي قوات التنظيم المتطرف داخل المدينة الواقعة بين الجبال والشاطئ، طوال نحو سنة كاملة، تمكن «داعش» من التمدّد داخل الأحياء السكنية من جانب والتحصن في الكهوف الصخرية من جانب آخر، ليحوّل المدينة التي كانت قديمًا واحة للفنون والآداب، إلى مخزون للإرهاب يصعب التعامل معه بمرور الوقت.

الحكومة الليبية تدرك هذه المعضلة. ورصدت مساعدات تقدّمها دول في المنطقة للمتطرّفين داخل المدينة، وعليه باشر ممثلون عن السلطات الشرعية بالتحدث مع الأوروبيين في الأيام الأخيرة عن هذه المشكلة التي أصبحت تمثل خطرًا على هذه الدولة التي تعاني من الفوضى منذ سقوط نظام معمر القذافي، وعلى دول الجوار وعلى الضفة الأخرى من البحر.
الحكومة الليبية مُحبَطة من ردة فعل الغرب الذي يبدو أنه لم يدرك بعد حجم المخاطر. لكن بعض المسؤولين الأوروبيين حاولوا، مع ذلك، التحاور مع واشنطن عن «داعش» ليبيا، إلا أن مصادر غربية تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لم تعطِ هؤلاء آذانًا صاغية».
وكان يفترض أن يؤدي حصار الجيش لدرنة إلى كسر شوكة «داعش»، لكن كثيرًا من المسؤولين فوجئوا بعناصر التنظيم يتخذون من سكان المدينة البالغ تعدادهم أكثر من مائة ألف نسمة، ما يشبه الدروع البشرية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للحكومة وقف تقديم المساعدات الإنسانية والخدمات من سلع ووقود للسكان. وبالتالي، يستولي التنظيم الدموي على جانب كبير من هذه المساعدات عنوة لتعزيز نفوذه، في مقابل ضعف إمكانات السلطات الشرعية، ومن بينها الجيش الذي ما زال يعاني من استمرار قرار المجتمع الدولي بحظر تسليحه.
وخلال الفترة الماضية، نزحت أعداد كبيرة من سكان درنة هربًا من حكم المتطرفين، لكن معظم السكان ما زالوا يقيمون فيها لأسباب كثيرة أهمها أنه لا يوجد أمامهم مكان آخر يذهبون إليه، خاصة بعدما ارتفعت أسعار العقارات وإيجارات المساكن في مدن الشرق الليبي عقب نزوح ألوف من سكان بنغازي وإجدابيا وسرت إلى مدن المنطقة الشرقية، مثل البيضاء، حيث يوجد مقر الحكومة المؤقتة، وطبرق التي يوجد فيها البرلمان المنتخب.
فرج أبو هاشم، المتحدث باسم مجلس النواب (البرلمان) الليبي، قال وهو يصف الوضع في درنة لـ«الشرق الأوسط»، إن «الجيش يحاصر المدينة بالفعل، وبالتالي لا بد من دعم الجيش». وتابع: «نحن دائمًا نتحدث بهذا الشكل لكي نوضح للعالم الموقف. نحن بحاجة إلى دعم حقيقي لرفع الحظر عن تسليح الجيش. (داعش) أعلنت درنة إمارة إسلامية منذ فترة ليست بالقليلة بعدما بايعت (خليفتها المزعوم) في العراق».
وعما إذا كان يوجد ممثلون في البرلمان الذي جرى انتخابه العام الماضي، عن مدينة درنة، قال أبو هاشم إنه «لا يوجد ممثلون عن المدينة في مجلس النواب، ولكن، بحكم أن درنة رقعة جغرافية شاسعة، جرى اعتماد عضوين أو مقعدين لمن انتخبوا في منطقة الهلال المحيطة بالمدينة (وتضم بلدات التميمي، والعزيات، وخليج بمبة، ومرتوبة).
ويضيف قائلاً: «أنت تعلم أن مدينة درنة لم تحدث فيها انتخابات بسبب الوضع الأمني والمتطرفين، علمًا بأنهم كانوا قد أجروا انتخابات لبلدية درنة، ليتمكنوا من الحصول على الميزانية. هدفهم من إجراء الانتخابات البلدية الأخيرة الحصول على ميزانية المجلس البلدي، لأنهم هم مَن أشرفوا على إقامة تلك الانتخابات، وكانت اللجنة من هؤلاء، ليتمكنوا من الحصول على الميزانية. وبالتالي الهدف من إجرائهم الانتخابات هدف مادي بحت».
ويتابع مؤكدًا أن «المجلس المحلي لدرنة أصبح مُشكَّلا الآن من متطرفين». وعمّا إذا كان هؤلاء يحصلون على ميزانية من الدولة وفقًا للمجلس البلدي الذي انتخبوه، قال إنه «حتى الآن يجري الاكتفاء بما يصل إلى درنة من دعم سلعي ووقود، باعتبار أن بعض مواطني درنة نزحوا والبعض الآخر ليس لديه مكان ليذهب إليه.. ما زالت المعونات تصل إليهم من سلع ووقود وغيرها من متطلبات المواطنين اليومية».
وبشأن ما إذا كانت هناك مخاوف من أن تصل السلع التموينية والوقود إلى المتطرفين، يجيب أبو هاشم: «معلوم جيدًا أننا لا نستطيع الفصل بين السكان والمتطرفين. وليست لدينا سلطة داخل درنة لكي نقوم بإيصال الوقود إلى المواطنين فقط.. هم (المتطرفون) يستفيدون من هذا الدعم من وقود وسلع وغيرها».
وعن طريقة إيصال الدولة لرواتب الموظفين في درنة، يوضح أبو هاشم: «في الحقيقة، لا أستطيع أن أجيب عن هذه الجزئية تحديدًا، لكن البعض من الموظفين ربما لديهم حسابات مالية خارج مدينة درنة. الوضع معقد في درنة وخطير جدًا لأن لدى المتطرفين قوة كبيرة ولديهم أسلحة وتصل إليهم عناصر من المتطرفين الأجانب. الوضع جد خطير بكل ما تحمله الكلمة من معنى».
هل هذه القوة التي أصبح عليها التنظيم في درنة ما زالت كما هي رغم الحصار الذي يفرضه الجيش؟ يقول المتحدث باسم البرلمان: «نعم.. هذا رغم الحصار. حصار الجيش يقتصر على عدم خروجهم والحؤول دون شنهم عمليات إرهابية خارج درنة، ورفض السماح بدخول أسلحة أو عناصر إرهابية إلى داخل درنة».
وعن ميناء درنة البحري وعمّا إذا كان يعمل أو أن المتطرفين يسيطرون عليه؟ يوضح أبو هاشم قائلاً: «لا.. لقد جرى الإعلان عن أن الميناء مغلق، واستهدف سلاح الجو الليبي في الفترة الأخيرة باخرة بعدما وصلت إلى هذا الميناء، وكذلك ما نتج عن قصف السفينة التركية التي اقتربت من الشواطئ الليبية قرب درنة أخيرًا، بعدما كان قد نزل منها عناصر متطرّفة عبر زوارق صغيرة ووصلوا إلى درنة».
وحول ما إذا كان لديه ما يثبت أن زوارق تحمل مقاتلين أجانب نزلت من سفينة تركية وتوجّهت إلى درنة، يقول: «للأسف الشديد هذا حدث بالفعل، واستقينا المعلومات من مصادر موثوقة وشهود عيان.. ومع ذلك، أدان المجتمع الدولي قصف سلاح الجو الليبي للسفينة المشار إليها، مع العلم أن الشواطئ الليبية والمياه الإقليمية الليبية تعتبر محظورة، ولا تدخل السفن إليها إلا بإذن مسبق من السلطات الشرعية».
ووفقًا لمعلومات من داخل درنة، فإن المتطرفين لا يتحصّنون وسط السكان فقط، ولكنهم أصبحوا يتخذون من كهوف في الجبال المحيطة بالمدينة مواقع لهم للاختباء فيها والاستعداد لخوض حرب طويلة مع الجيش الليبي في حال قرر اقتحام درنة. وتقدر المصادر عدد قوات «داعش» في درنة بعدة عشرات من القادة الليبيين والأجانب ممن يديرون مجموعات من المقاتلين الذين تقل أعمار غالبيتهم عن عشرين سنة. ويتراوح إجمالي عدد العناصر التي تعمل مع «داعش» في المدينة (بغض النظر عن الإيمان بتوجهات التنظيم) بين ألف إلى ثلاثة آلاف عنصر.
من جهة ثانية، يقول عبد الناصر إبراهيم العبيدي، أحد قيادات لجنة المصالحة في ليبيا الذي يقيم على مشارف درنة، لـ«الشرق الأوسط» بشأن «داعش»، إن «الجيش لم يقرر دخول المدينة حتى الآن بسبب وجود التنظيم وسط السكان والمدنيين»، مشيرا إلى أن «التنظيم يستعين بمقاتلين صغار السن ويمنحهم أجرًا على هذا». لكن هناك من يرى أن التخلص من مشكلة درنة ستكون من أكبر المشكلات أمام الدولة الليبية، مذكرين بالطبيعة الجغرافية الصعبة لهذه المدينة.
وتجدر الإشارة، إلى أن مصر كانت قد وجَّهت ضربات لبعض مواقع «داعش» في درنة عقب ذبح التنظيم 21 مصريًا مطلع العام الحالي. ويقرّ اللواء ممدوح منيب، وهو طيار مقاتلات مصري سابق، بـ«الطبيعة الجغرافية المعقدة لمدينة درنة التي تحيط بها الجبال من جانبين والوديان من الجنوب والبحر المتوسط من الشمال». وتقول المعلومات إن «الدواعش» متحصنون في المدينة، ويملكون أسلحة ثقيلة. وبشأن إمكانيات الطائرات الحربية الليبية في القضاء على قوة «داعش» في درنة، أفاد اللواء منيب «الشرق الأوسط»، قائلاً: «إنها تستطيع، إذا كان لديها تحديد دقيق للأهداف التي تريد ضربها بحيث تكون ضربات مباشرة»، مشيرًا إلى أن التحصينات عادة ترابية «ولا أعتقد أن لديهم القدرة على بناء تحصينات من الدشم الإسمنتية. تحصيناتهم عادة مجرد حفر تحت الأرض.. ولو كان هناك استطلاع مسبق وتحديد للهدف ومعرفة بأبعاده وطبيعة تحصيناته ونوعها، فهنا يمكن تزويد الطائرات الحربية بالتسليح المناسب».
لكن مصادر من درنة تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «غالبة تحصينات (داعش) في المدينة تعتمد على كهوف موجودة في الجبال المحيطة بها، وأن القذافي دكّ هذه الجبال في منتصف تسعينات القرن الماضي حين كان متطرفو المدينة مصدر تهديد للقوات الأمنية الليبية». وعن هذه المعلومات يوضح اللواء طيار منيب أن الكهوف في الجبل تمثل صعوبة على الطيران بالفعل.. «هذا النوع من الكهوف هو من الكهوف الصخرية لا الرملية. والطلقات تتلاشى بعد عمق معين في الجبال وأحيانًا كثيرة لا تحقق الهدف».
ويتابع اللواء منيب موضحًا أن «عملية اصطياد المتطرفين في درنة ينبغي ألا تكون وهم في داخل الكهوف، ولا بد من أن يجري تنفيذ العملية وهم يتحركون في مواكب السيارات خارج هذه المناطق المحصنة.. وهنا، تكون عملية جمع المعلومات للوصول لهم ومعرفة تحركاتهم، أمرًا مهمًا جدًا يمكن أن يسهّل عملية القضاء على (داعش). حين تريد أن تصطاد الفأر فأنت تنتظر حتى يخرج من جحره وليس بأن تدخل أنت إليه».
المشكلة كما يقول كثير من المسؤولين الليبيين تكمن في أن الجيش الليبي لا يملك إلا عددًا محدودًا من الطائرات الحربية.
هل هذه القدرة المتواضعة تستطيع أن تتعامل مع تنظيم متطرف يتحصن بهذا الشكل في درنة؟ يجيب اللواء منيب بأن هذا سيكون أمرًا صعبًا.. «في هذه الحالة أرى أن تأثير القوات الخاصة والكوماندوز على البر سيكون أفضل من تأثير الطيران». وعن نظرته للحصار الذي يفرضه الجيش الليبي على المدينة وتأثيره على المتطرفين، يقول: «إنه أمر جيد، لكن مردوده ضعيف، خصوصًا أن (الدواعش) يتلقون تمويلاً دوليًا وعالميًا، في وقت نجد فيه أن الإمكانات الليبية ضعيفة.. لا يوجد تكافؤ. لا نريد أن نظلم الليبيين. هذه إمكاناتهم نظرًا للظروف التي مروا بها منذ انتهاء نظام القذافي في 2011، كما أن الجيش لم يتمكن لهذا السبب من أن يحدِّث نفسه بالتقنيات الجديدة، أضف إلى ذلك أن خبرته العسكرية متواضعة وغير كافية. لا نريد أن نطلب منهم مهامًا أكبر منهم، أو الدخول في منافسة غير متكافئة».
وزير الإعلام والثقافة الليبي، عمر القويري، يقول عن هذه القضية ردًا على أسئلة «الشرق الأوسط»، إن «مشكلة درنة كمشكلة سرت وعدة مدن ليبية أخرى سقطت بشكل كامل تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، والتعامل معها والحل الوحيد هو عبر دعم الجيش الوطني الليبي بكل ما يطلبه من إمكانات وتزويده بالمعلومات وصور الأقمار الصناعية، ومنع تدفق السلاح الذي ترسله له دول مثل تركيا وقطر».
ويضيف القويري عن المعلومات التي تتحدث عن استفادة «داعش» من الخدمات التي تقدمها الدولة لأهالي مدينة درنة: «موضوع استفادة الجماعات المتطرفة من الخدمات المقدمة لسكان وأهالي المدينة، أمر صحيح.. ونظرًا لنزوح سكان بنغازي إلى المدن المجاورة شرقًا، فإن إمكانية استقبال موجات أخرى من المهجرين (من درنة) صعبة جدًا حتى يقال لما ﻻ يتم الطلب من سكانها المغادرة».
ويتابع الوزير قائلاً إن الجيش الليبي وأجهزة الأمن واﻻستخبارات، «تعمل داخل المدينة وتقوم بعمليات نوعية ضد هؤﻻء المجرمين. إننا نواجه الإرهاب منفردين وحدنا ودول العالم تتحدث عن الحوار والأزمة السياسية متناسين الأزمة الحقيقية التي تواجهها ليبيا وهى الأزمة الأمنية التي ﻻ يمكن حلها إﻻ بدعم الجيش بعيدًا عن مساومات السياسة وحساب المصالح والمكاسب».
هذا، وسبق لكبار القادة الليبيين حثّ دول العالم على الانتباه للخطر الذي يشكله «داعش» والمتطرفون في بلادهم. ونبّه الفريق أول خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، من خطر «داعش» والإرهابيين في ليبيا على العالم، خاصة أوروبا. لكن يبدو أنه لم يتحرك أحد.
وعن الكيفية التي تنظر بها الولايات المتحدة الأميركية إلى تمدّد «داعش» في ليبيا، يقول باراك بارفي، من «مؤسسة أميركا الجديدة»، في اتصال مع «الشرق الأوسط» من واشنطن، بصراحة: «ليبيا ليست دولة مهمة بالنسبة لأميركا.. كما تعلم، الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، ضغطا على الرئيس الأميركي باراك أوباما، للتدخل في ليبيا في 2011، لأنه لم يكن متحمسًا لهذا الأمر. وبعد سقوط النظام في ليبيا أعطت أميركا الفرصة للأمم المتحدة والمجتمع الدولي لإدارة الأمور في هذا البلد، ومع أن النتيجة حتى الآن هي ظهور (داعش) في ليبيا، إلا أن الحديث هنا في الولايات المتحدة لا يركز على موضوع (داعش) في ليبيا، ولكن على (داعش) في العراق وسوريا. كما تعرف أوباما لا يريد التدخل في معارك في منطقة الشرق الأوسط، وفي المقابل أعطى الفرصة للعالم العربي ليدير مقاليد الأمور بالمنطقة».
مع ذلك، توجد مخاوف في أوروبا من وجود «داعش» على العدوة الأخرى من البحر المتوسط، فهل يمكن لضغوط أوروبية على أميركا أن تدفعها للعب دور في ليبيا ضد «داعش»؟
يجيب بارفي قائلاً: «لا.. لأن أميركا ترى أن الخطر عليها من (داعش) موجود فقط في العراق وسوريا. لقد جرى إعدام أربعة من الأميركيين في العراق وسوريا، وهي ترد بالقصف على مواقع (داعش) هناك كل يوم أو يومين في الأسبوع، وهذه هي نهاية الأمر بالنسبة لتعاملها مع (داعش). فلا دخول للجيش في الأراضي العراقية أو السورية، وبالنسبة لنا (للأميركيين) فإن ليبيا ليست مهمة، وإذا كانت تمثل خطرًا على أوروبا، فإن الأوروبيين ليست لديهم القدرة على الضغط أو التأثير على الرئيس أوباما».
لقد سبق لبارفي زيارة كثير من بلدان منطقة الشرق الأوسط بما فيها ليبيا. وعن رؤيته لـ«داعش» في هذا البلد، يقول إن هذا التنظيم موجود في كل من درنة وسرت.. «سرت مدينة صغيرة وليست مهمة، لكن درنة أخطر بكثير، لأن فيها كثيرًا من المتطرفين الذين كانوا يحاربون أميركا في العراق في العقد الماضي.. وجود (داعش) في درنة يظل أمرًا خطيرًا ويمثل تهديدًا في المستقبل. وهي مشكلة للحكومة المعترف بها دوليًا الموجودة في طبرق والبيضا، ومشكلة للجيش أيضًا».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.