محمد الشرفي... كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل الظلاميين

على هامش كتاب وزير التربية والتعليم العالي السابق في تونس

محمد الشرفي... كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل الظلاميين
TT

محمد الشرفي... كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل الظلاميين

محمد الشرفي... كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل الظلاميين

هل الدكتور محمد الشرفي هو طه حسين تونس؟ إلى حد ما، بل وإلى حد كبير. فقد كان وزيراً للتعليم في تونس مثلما كان عميد الأدب العربي وزيراً للمعارف في مصر. وكلاهما جدد مناهج التعليم بشكل غير مسبوق. كلاهما كان عقلانياً تنويرياً تقدمياً، لا غيبياً خرافياً أصولياً. بل وإن محمد الشرفي مارس مهنة الوزارة لفترة أطول بكثير من طه حسين... عندما اقترح عليه الرئيس السابق زين العابدين بن علي هذه الوزارة لم يتردد لحظة واحدة. ولكنه يقول في كتابه القيم هذا لو أنه اقترح عليه أي وزارة أخرى لكان جوابه بالرفض القاطع. يقول ما معناه: في شهر سبتمبر (أيلول) 1988 اتصلت بي رئاسة الجمهورية هاتفياً وأبلغتني بأن الرئيس يرغب في مقابلتي بصفتي رئيساً لـ«الجمعية التونسية لحقوق الإنسان». فأعجبتني المبادرة وثمّنتها، أقول ذلك وبخاصة أني لم أطلب شيئاً من الرئيس وأنه هو الذي بادر بالاتصال وطلب رؤيتي وليس العكس. وعندما التقيته في قصر قرطاج استنفدنا الموضوع المطروح في ربع ساعة فقط. وعندئذ قال له الرئيس «عندي وقت إضافي لك إذا شئت. فهل تقترح علينا إجراء إصلاحات معينة في تونس وفي أي قطاع؟ نريد أن نستفيد من خبراتك لخدمة الصالح العام». فأجابه محمد الشرفي «نعم، عندي اقتراح يخص نظام التعليم. إنه في حاجة إلى إصلاحات عاجلة أو مستعجلة. فمستوى التعليم التونسي انخفض، والتوجه العام للتعليم تقليدي رجعي، هذا في حين أن توجه الدولة التونسية حداثي تقدمي. وعندئذ بدأ الرئيس مهتماً للغاية بكلامي هذا، فطلب مني إرسال تقرير مفصل له عن الموضوع. ولم يكن يخطر على بالي إطلاقاً أنه بعد قراءة التقرير سوف يعرض عليّ الوزارة شخصياً. ولكن هذا ما حصل». قال له بما معناه: مَن أفضل منك لتطبيق هذا البرنامج الإصلاحي التنويري الذي رسمت أنت شخصياً خطوطه العريضة؟ خير البر عاجله. وبالفعل، فهذا ما كان. على هذا النحو اقترح عليه رئيس الجمهورية منصب وزير التربية والتعليم لتطبيق الإصلاحات الضرورية المنشودة. فقبِل الرجل على الفور وابتدأت مغامرته الوزارية التي استمرت خمس سنوات وخمسين يوماً بالتمام والكمال على رأس الوزارة.
ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ نستنتج أن زين العابدين بن علي كان رجلاً طيباً شهماً حريصاً على نهضة تونس على الأقل في السنوات العشر الأولى من عهده. بعدئذ ابتدأ الانغلاق والاستبداد وحكم العائلة والمحسوبيات، ولكن ليس قبل ذلك. ونستنتج أنه كان ذا توجه تنويري على عكس ما حصل بعد يناير (كانون الثاني) 2011، وذلك الربيع المزعوم والمشؤوم للغنوشي والإخوان المسلمين الذين حاولوا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لكي يصبح التوجه العام للتعليم التونسي أصولياً ظلامياً. هذه أشياء ينبغي أن تقال الآن بعد كل ذلك الضجيج والعجيج لكي نعيد الحقائق إلى نصابها.
ثم يستعرض الدكتور الشرفي الإشكالية العامة على النحو التالي: ينبغي أن تكون المدرسة في حالة تساوق وانسجام مع حالة المجتمع لكي تتمكن من دمج الطفل بسهولة في وسطه وبيئته. هذا ما تفعله معظم المدارس في كل البلدان ما عدا في العالمين العربي الإسلامي. ففي معظم بلدان الإسلام نلاحظ أن المجتمع يتحرك ويتحلحل ويتطور ولكن المدرسة لا تتطور وإنما تظل رهينة عقليات تعود إلى ألف سنة إلى الوراء! منذ قرن ونصف القرن استشعر المسلمون تأخرهم قياساً إلى أوروبا وحاولوا استدراك الوضع. وبالفعل، فقد نجحوا في ذلك على المستوى الكمي، حيث تكاثر إنشاء المدارس والجامعات ومعاهد التعليم في مختلف البلدان. ولكن ليس على المستوى النوعي. هنا لم يتغير شيء يذكر. بمعنى أن العقلية التراثية التقليدية الجامدة ظلت سائدة ومسيطرة على برامج التعليم. فبما أن المسؤولين في البلدان العربية والإسلامية كانوا يخشون من المس بالمواضيع المحرمة؛ فإنهم رفضوا إدخال أي إصلاح على مادة التربية الدينية في المدارس وكذلك مادة التاريخ.
ثم يضرب المفكر التونسي الشهير الأمثلة التالية على ذلك: في المدرسة يتعلم الطالب أن المجتمع المثالي هو ذلك المجتمع الذي تكون فيه المرأة سجينة البيت. ولكنه يكتشف فيما بعد أن المرأة تحررت ولم تعد سجينة بيتها كما كان الحال قبل خمسين سنة أو مائة سنة مثل أمها وجدتها. لقد انطلقت المرأة التونسية والعربية عموماً وخرجت من القوقعة، وأصبحت تحتل المراكز والوظائف المرموقة في المجالات كافة كالرجل تقريباً. وفي المدرسة يعلمون التلميذ أن الربا حرام. ولكنه يكتشف لاحقاً أن كل النظام المصرفي الحديث يعتمد على نظام الفائدة. وفي المدرسة يعلمون التلميذ أن النظام السياسي الشرعي الوحيد هو نظام الخلافة، حيث يهيمن رجال الدين المتعلقون بالفقه القديم القائل بضرورة تطبيق الحدود البدنية كحد الجلد، وحد الرجم، وقطع يد السارق... إلخ، ولكن هذا التلميذ التونسي يكتشف لاحقاً أن هذه الحدود المرعبة عصية على التنفيذ وأن النظام السياسي أصبح عصرياً حداثياً يرفض تطبيقها. فالقانون التجاري وقانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية كل ذلك تغير وتجدد، وبخاصة في تونس رائدة الحداثة في العالم العربي منذ أيام بورقيبة. وبالتالي، فالمدرسة تعلمك شيئاً والدولة تعلمك شيئاً آخر. وعلى هذا النحو ننتج مواطنين شيزوفرينيين منفصمي الشخصية. لهذا السبب ينبغي إصلاح مناهج التعليم وتحديثها جذرياً.

- الصدام مع الإخوان المسلمين
يقول لنا الدكتور محمد الشرفي ما فحواه: منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه على رأس وزارة التربية والتعليم اصطدم بمعادة الإسلاميين أو بالأحرى الإسلامويين له. وقد عبر راشد الغنوشي عن هذا الموقف المعادي للوزير الجديد وإصلاحاته التنويرية في تصريحاته المختلفة إلى الصحافة آنذاك. وكذلك فعل اتحاد الطلاب التونسيين التابع للأصوليين. نقول ذلك على الرغم من أن الوزير الشرفي فتح صدره لهم منذ البداية وقال لهم بأنه مستعد للحوار معهم. فهو ذو تربية إسلامية بل وتقليدية أصولية أيضاً! ولكنه تغير وتطور لاحقاً. وهذه هي حالة طه حسين أيضاً ومعظم التنويريين العرب. هنا يخصص المؤلف صفحات شيقة للتحدث عن والده وعائلته وتربيته العربية الإسلامية العريقة في مدينة صفاقس عاصمة الجنوب التونسي. وقد استمتعت بقراءتها كثيراً وذكرتني بأجواء الطفولة. ولكن الشيء الذي أدهش الوزير وصدمه هو أن الأزمة الكبرى الأولى لم تحصل مع جماعة الغنوشي والإسلام السياسي بالضبط، وإنما مع جماعة الإسلام الرسمي التابعين للدولة والمشرفين على وزارة الشؤون الدينية. وهم الذين يعلنون تأييدهم للرئيس والنظام على رؤوس الأشهاد. ولكن هنا نحب أن نطرح هذا السؤال على الدكتور الشرفي: ما الفرق بينهما يا سيدي؟ الإسلام الرسمي المؤيد للنظام والإسلام السياسي المعارض له شيء واحد في نهاية المطاف: نقصد بأنهما يحملان ذات العقلية وذات الأفكار. وبالتالي، فلا يوجد هنا أي شيء يدعو للاستغراب أو للدهشة. على أي حال لقد هاجوا في وجهه وماجوا عندما قرر حذف كتابين كانا مقررين للتربية الدينية. وهما كتابان رجعيان يقولان بأن النظام الشرعي الوحيد هو نظام الخلافة القديم على الطريقة العثمانية البائدة. كما ويقولان بأن للرجل الحق في ضرب زوجته. كما ويدعوان إلى حذف كتب جان بول سارتر ومنعها باعتبار أنها مؤلفات شخص كافر. ولكن الوزير قال لهم بأن سارتر دافع عن استقلال الجزائر وعرض نفسه للخطر بسبب ذلك. ولم تقنعهم الحجة فطالبوا ليس فقط بمنعه وإنما أيضاً بمنع كتب جميع فلاسفة التنوير والحداثة من أمثال فولتير وجان جاك روسو وكانط... إلخ. وهكذا ابتدأت معركته التنويرية مع الظلاميين من أول يوم. ولكن لحسن الحظ، فإن رئيس الوزراء الهادي بكوش وقف إلى جانبه ضد وزير الشؤون الدينية. والأهم من ذلك كله أن الرئيس بن علي شخصياً وقف إلى جانبه بكل قوة ضد التيار الظلامي الرجعي المهيمن على الساحة وبرامج التعليم.
ثم يخلص الدكتور الشرفي في نهاية المطاف إلى تسجيل الملاحظة المهمة التالية: في الواقع أن الإسلام الرسمي والإسلام المعارض يتواصلان مع بعضهما بعضاً على طريقة الأواني المستطرقة. فالإسلام الرسمي من شيوخ جوامع ومفتين رسميين ورجال دين تابعين للدولة هم الذين يدجنون التلاميذ تدجيناً ويحشون رؤوسهم بالأفكار الخرافية الأصولية القديمة. وأما الإسلام السياسي المعارض فيستغل ذات الأفكار لتهييج الناس في الشوارع ضد الدولة والنظام. وبالتالي، فعمل هذا التيار يكمل عمل التيار الآخر ولا يتعارض معه أبداً.
كيف يتعارض معه وهما يحملان نفس العقيدة الكهنوتية أي نفس الفهم الظلامي المغلق للإسلام؟ ولهذا السبب راح كلاهما يرفضان إصلاحات الوزير الشرفي الداعية إلى التخلي عن عقلية التزمت والتكفير والإكراه في الدين. وكذلك الداعية إلى التخلي عن تعدد الزوجات، والطلاق التعسفي، وضرب الزوجة وتطبيق الحدود البدنية المرعبة. على هذا النحو اندلعت المعركة الكبرى بين الدكتور محمد الشرفي من جهة، وجماعة الغنوشي والإخوان المسلمين عموماً من جهة أخرى. وهي الجماعة المدعوة زوراً وبهتاناً باسم: النهضة! يخيل إلي أن محمد الشرفي كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل جهابذة الأصولية الظلامية. كان يريد إحلال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، وابن الطفيل، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمد أركون... إلخ، محل حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وعشرات غيرهم. ولو نجح في ذلك لما «أتحفنا» مؤخراً بكل هذه الأجيال الداعشية الدموية.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم