هل الدكتور محمد الشرفي هو طه حسين تونس؟ إلى حد ما، بل وإلى حد كبير. فقد كان وزيراً للتعليم في تونس مثلما كان عميد الأدب العربي وزيراً للمعارف في مصر. وكلاهما جدد مناهج التعليم بشكل غير مسبوق. كلاهما كان عقلانياً تنويرياً تقدمياً، لا غيبياً خرافياً أصولياً. بل وإن محمد الشرفي مارس مهنة الوزارة لفترة أطول بكثير من طه حسين... عندما اقترح عليه الرئيس السابق زين العابدين بن علي هذه الوزارة لم يتردد لحظة واحدة. ولكنه يقول في كتابه القيم هذا لو أنه اقترح عليه أي وزارة أخرى لكان جوابه بالرفض القاطع. يقول ما معناه: في شهر سبتمبر (أيلول) 1988 اتصلت بي رئاسة الجمهورية هاتفياً وأبلغتني بأن الرئيس يرغب في مقابلتي بصفتي رئيساً لـ«الجمعية التونسية لحقوق الإنسان». فأعجبتني المبادرة وثمّنتها، أقول ذلك وبخاصة أني لم أطلب شيئاً من الرئيس وأنه هو الذي بادر بالاتصال وطلب رؤيتي وليس العكس. وعندما التقيته في قصر قرطاج استنفدنا الموضوع المطروح في ربع ساعة فقط. وعندئذ قال له الرئيس «عندي وقت إضافي لك إذا شئت. فهل تقترح علينا إجراء إصلاحات معينة في تونس وفي أي قطاع؟ نريد أن نستفيد من خبراتك لخدمة الصالح العام». فأجابه محمد الشرفي «نعم، عندي اقتراح يخص نظام التعليم. إنه في حاجة إلى إصلاحات عاجلة أو مستعجلة. فمستوى التعليم التونسي انخفض، والتوجه العام للتعليم تقليدي رجعي، هذا في حين أن توجه الدولة التونسية حداثي تقدمي. وعندئذ بدأ الرئيس مهتماً للغاية بكلامي هذا، فطلب مني إرسال تقرير مفصل له عن الموضوع. ولم يكن يخطر على بالي إطلاقاً أنه بعد قراءة التقرير سوف يعرض عليّ الوزارة شخصياً. ولكن هذا ما حصل». قال له بما معناه: مَن أفضل منك لتطبيق هذا البرنامج الإصلاحي التنويري الذي رسمت أنت شخصياً خطوطه العريضة؟ خير البر عاجله. وبالفعل، فهذا ما كان. على هذا النحو اقترح عليه رئيس الجمهورية منصب وزير التربية والتعليم لتطبيق الإصلاحات الضرورية المنشودة. فقبِل الرجل على الفور وابتدأت مغامرته الوزارية التي استمرت خمس سنوات وخمسين يوماً بالتمام والكمال على رأس الوزارة.
ماذا نستنتج من هذا الكلام؟ نستنتج أن زين العابدين بن علي كان رجلاً طيباً شهماً حريصاً على نهضة تونس على الأقل في السنوات العشر الأولى من عهده. بعدئذ ابتدأ الانغلاق والاستبداد وحكم العائلة والمحسوبيات، ولكن ليس قبل ذلك. ونستنتج أنه كان ذا توجه تنويري على عكس ما حصل بعد يناير (كانون الثاني) 2011، وذلك الربيع المزعوم والمشؤوم للغنوشي والإخوان المسلمين الذين حاولوا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لكي يصبح التوجه العام للتعليم التونسي أصولياً ظلامياً. هذه أشياء ينبغي أن تقال الآن بعد كل ذلك الضجيج والعجيج لكي نعيد الحقائق إلى نصابها.
ثم يستعرض الدكتور الشرفي الإشكالية العامة على النحو التالي: ينبغي أن تكون المدرسة في حالة تساوق وانسجام مع حالة المجتمع لكي تتمكن من دمج الطفل بسهولة في وسطه وبيئته. هذا ما تفعله معظم المدارس في كل البلدان ما عدا في العالمين العربي الإسلامي. ففي معظم بلدان الإسلام نلاحظ أن المجتمع يتحرك ويتحلحل ويتطور ولكن المدرسة لا تتطور وإنما تظل رهينة عقليات تعود إلى ألف سنة إلى الوراء! منذ قرن ونصف القرن استشعر المسلمون تأخرهم قياساً إلى أوروبا وحاولوا استدراك الوضع. وبالفعل، فقد نجحوا في ذلك على المستوى الكمي، حيث تكاثر إنشاء المدارس والجامعات ومعاهد التعليم في مختلف البلدان. ولكن ليس على المستوى النوعي. هنا لم يتغير شيء يذكر. بمعنى أن العقلية التراثية التقليدية الجامدة ظلت سائدة ومسيطرة على برامج التعليم. فبما أن المسؤولين في البلدان العربية والإسلامية كانوا يخشون من المس بالمواضيع المحرمة؛ فإنهم رفضوا إدخال أي إصلاح على مادة التربية الدينية في المدارس وكذلك مادة التاريخ.
ثم يضرب المفكر التونسي الشهير الأمثلة التالية على ذلك: في المدرسة يتعلم الطالب أن المجتمع المثالي هو ذلك المجتمع الذي تكون فيه المرأة سجينة البيت. ولكنه يكتشف فيما بعد أن المرأة تحررت ولم تعد سجينة بيتها كما كان الحال قبل خمسين سنة أو مائة سنة مثل أمها وجدتها. لقد انطلقت المرأة التونسية والعربية عموماً وخرجت من القوقعة، وأصبحت تحتل المراكز والوظائف المرموقة في المجالات كافة كالرجل تقريباً. وفي المدرسة يعلمون التلميذ أن الربا حرام. ولكنه يكتشف لاحقاً أن كل النظام المصرفي الحديث يعتمد على نظام الفائدة. وفي المدرسة يعلمون التلميذ أن النظام السياسي الشرعي الوحيد هو نظام الخلافة، حيث يهيمن رجال الدين المتعلقون بالفقه القديم القائل بضرورة تطبيق الحدود البدنية كحد الجلد، وحد الرجم، وقطع يد السارق... إلخ، ولكن هذا التلميذ التونسي يكتشف لاحقاً أن هذه الحدود المرعبة عصية على التنفيذ وأن النظام السياسي أصبح عصرياً حداثياً يرفض تطبيقها. فالقانون التجاري وقانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية كل ذلك تغير وتجدد، وبخاصة في تونس رائدة الحداثة في العالم العربي منذ أيام بورقيبة. وبالتالي، فالمدرسة تعلمك شيئاً والدولة تعلمك شيئاً آخر. وعلى هذا النحو ننتج مواطنين شيزوفرينيين منفصمي الشخصية. لهذا السبب ينبغي إصلاح مناهج التعليم وتحديثها جذرياً.
- الصدام مع الإخوان المسلمين
يقول لنا الدكتور محمد الشرفي ما فحواه: منذ اليوم الأول لتسلمه مهامه على رأس وزارة التربية والتعليم اصطدم بمعادة الإسلاميين أو بالأحرى الإسلامويين له. وقد عبر راشد الغنوشي عن هذا الموقف المعادي للوزير الجديد وإصلاحاته التنويرية في تصريحاته المختلفة إلى الصحافة آنذاك. وكذلك فعل اتحاد الطلاب التونسيين التابع للأصوليين. نقول ذلك على الرغم من أن الوزير الشرفي فتح صدره لهم منذ البداية وقال لهم بأنه مستعد للحوار معهم. فهو ذو تربية إسلامية بل وتقليدية أصولية أيضاً! ولكنه تغير وتطور لاحقاً. وهذه هي حالة طه حسين أيضاً ومعظم التنويريين العرب. هنا يخصص المؤلف صفحات شيقة للتحدث عن والده وعائلته وتربيته العربية الإسلامية العريقة في مدينة صفاقس عاصمة الجنوب التونسي. وقد استمتعت بقراءتها كثيراً وذكرتني بأجواء الطفولة. ولكن الشيء الذي أدهش الوزير وصدمه هو أن الأزمة الكبرى الأولى لم تحصل مع جماعة الغنوشي والإسلام السياسي بالضبط، وإنما مع جماعة الإسلام الرسمي التابعين للدولة والمشرفين على وزارة الشؤون الدينية. وهم الذين يعلنون تأييدهم للرئيس والنظام على رؤوس الأشهاد. ولكن هنا نحب أن نطرح هذا السؤال على الدكتور الشرفي: ما الفرق بينهما يا سيدي؟ الإسلام الرسمي المؤيد للنظام والإسلام السياسي المعارض له شيء واحد في نهاية المطاف: نقصد بأنهما يحملان ذات العقلية وذات الأفكار. وبالتالي، فلا يوجد هنا أي شيء يدعو للاستغراب أو للدهشة. على أي حال لقد هاجوا في وجهه وماجوا عندما قرر حذف كتابين كانا مقررين للتربية الدينية. وهما كتابان رجعيان يقولان بأن النظام الشرعي الوحيد هو نظام الخلافة القديم على الطريقة العثمانية البائدة. كما ويقولان بأن للرجل الحق في ضرب زوجته. كما ويدعوان إلى حذف كتب جان بول سارتر ومنعها باعتبار أنها مؤلفات شخص كافر. ولكن الوزير قال لهم بأن سارتر دافع عن استقلال الجزائر وعرض نفسه للخطر بسبب ذلك. ولم تقنعهم الحجة فطالبوا ليس فقط بمنعه وإنما أيضاً بمنع كتب جميع فلاسفة التنوير والحداثة من أمثال فولتير وجان جاك روسو وكانط... إلخ. وهكذا ابتدأت معركته التنويرية مع الظلاميين من أول يوم. ولكن لحسن الحظ، فإن رئيس الوزراء الهادي بكوش وقف إلى جانبه ضد وزير الشؤون الدينية. والأهم من ذلك كله أن الرئيس بن علي شخصياً وقف إلى جانبه بكل قوة ضد التيار الظلامي الرجعي المهيمن على الساحة وبرامج التعليم.
ثم يخلص الدكتور الشرفي في نهاية المطاف إلى تسجيل الملاحظة المهمة التالية: في الواقع أن الإسلام الرسمي والإسلام المعارض يتواصلان مع بعضهما بعضاً على طريقة الأواني المستطرقة. فالإسلام الرسمي من شيوخ جوامع ومفتين رسميين ورجال دين تابعين للدولة هم الذين يدجنون التلاميذ تدجيناً ويحشون رؤوسهم بالأفكار الخرافية الأصولية القديمة. وأما الإسلام السياسي المعارض فيستغل ذات الأفكار لتهييج الناس في الشوارع ضد الدولة والنظام. وبالتالي، فعمل هذا التيار يكمل عمل التيار الآخر ولا يتعارض معه أبداً.
كيف يتعارض معه وهما يحملان نفس العقيدة الكهنوتية أي نفس الفهم الظلامي المغلق للإسلام؟ ولهذا السبب راح كلاهما يرفضان إصلاحات الوزير الشرفي الداعية إلى التخلي عن عقلية التزمت والتكفير والإكراه في الدين. وكذلك الداعية إلى التخلي عن تعدد الزوجات، والطلاق التعسفي، وضرب الزوجة وتطبيق الحدود البدنية المرعبة. على هذا النحو اندلعت المعركة الكبرى بين الدكتور محمد الشرفي من جهة، وجماعة الغنوشي والإخوان المسلمين عموماً من جهة أخرى. وهي الجماعة المدعوة زوراً وبهتاناً باسم: النهضة! يخيل إلي أن محمد الشرفي كان يريد إحلال فلاسفة الأنوار العرب محل جهابذة الأصولية الظلامية. كان يريد إحلال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، وابن الطفيل، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، ومحمد أركون... إلخ، محل حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وعشرات غيرهم. ولو نجح في ذلك لما «أتحفنا» مؤخراً بكل هذه الأجيال الداعشية الدموية.