هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
TT

هل يجوز أن يختلف الناس في تعريف القيَم الإنسانيّة الأساسيّة؟

يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)
يختبر الزوار النقل الآني في غرفة النقل الفضائي في منطقة المستقبل داخل متحف التكنولوجيا في كوريا الجنوبية الذي يوفر إحساساً واقعياً بالمستقبل من خلال Meta - verse وHigh Media Technology وغيرها من التقنيات المختلفة (إ.ب.أ)

أفضى تطوّرُ الأوضاع الثقافيّة في كلّ مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة إلى بناء أنظومة متناسقة متماسكة من القيَم الإنسانيّة الهادية. تأثّر هذا البناءُ بالاختبارات الوجدانيّة واللغويّة السائدة في بيئة كلِّ قوم على حدة. فصاغ الناسُ قيَمهم بالاستناد إلى قدرات التعبير المتوافرة في مخزونهم الثقافي الذاتيّ، وباستخدام المقولات الناشطة في مناقشاتهم ومطارحاتهم ومداولاتهم. فإذا بهم يستحسنون هذه القيمة أو تلك، ويؤثِرونها على غيرها من القيَم. لذلك؛ لا بدّ من التأمّل الهادئ في طبيعة هذه القيَم التي يستلهمها الناسُ في مجتمعاتهم من أجل تدبّر وجودهم، وتنشيط معيّتهم، وتفعيل مشاركتهم في بناء الحضارة الإنسانيّة الكونيّة المتضامنة المتكافلة المتكاملة.
من أخطر الأسئلة التي يطرحها العقلُ الاستفسارُ عن الاختلاف في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية هذه. فهل يجوز لنا أن نفترض التباين الحادّ في القيَم المستخرجة أصلاً من المبادئ الثلاثة الأساسيّة العظمى التي يستند إليها الوجود الإنسانيّ، عنيتُ بها صون الحياة، ورعاية كرامة الإنسان، والائتمار بالعقل؟ ذكرتُ إذاً الحياة والكرامة والعقل. ولكن يمكننا أيضاً أن نذكر قيَماً أخرى أساسيّة أثبتتها شرعة حقوق الإنسان العالميّة، كالحرّيّة والمساواة والأخوّة والعدالة. من المغني أن نضيف أيضاً القيَم التراثيّة التي تعتصم بها بعضُ المجتمعات الإنسانيّة منذ أقدم العصور، كالمروءة والعزّة والشرف والأمانة والصدق والصبر والجود، أو القيَم الدِّينيّة التي رافقت صحوة الوعي الروحيّ، كالتغافر والتناصح والتضامن والتسالم والاستضافة والمجّانيّة والتضحية والإخلاء الذاتي والرجاء.
أعلم أنّ بضعاً من هذه القيَم ينتسب في الوقت عينه إلى مرتبة الفضائل أو يتعلّق في جوهره بانفعالات النفس. غير أنّ الناس يَعدّون الصبرَ قيمة، والجودَ قيمة، والرجاء قيمة. في جميع الأحوال، تنبسط أمامنا ضمّة من المعاني الإنسانيّة السامية التي ينادي بها الناسُ في جميع المجتمعات، ولكنّهم يحمّلونها من المضامين التعريفيّة والمحتويات التفصيليّة والمنطويات التطبيقيّة ما يجعلها تتحوّل إلى قضايا إشكاليّة خلافيّة. يعنيني في هذا المقام أن أستجلي ثلاثة ضروب من الإشكال الحضاريّ.
يرتبط الإشكال الحضاري الأوّل بمسألة ترتيب مقام الصدارة بين القيَم. شهيرة العبارة اللاتينيّة التي كانت منتشرة في القرون الوسطى تَعدِل بين قيَم الواحد والحقّ والصلاح (unum verum et bonum convertuntur). ذلك بأنّ فلاسفة القرون الوسطى كانوا يَعدّون الحقّ واحداً، والصلاح واحداً، والواحدَ حقّاً وصلاحاً. لا شكّ في أنّ التصوّر المِتافيزيائي هذا يصون وحدة العمارة الفكريّة ويرعى سلامة المنطق الفكريّ. غير أنّه يختزل الأمور اختزالاً خطيراً، ويُبطل تنوّع التجلّيات التي تستثيرها هذه القيَم في تضاعيف التاريخ. ومع أنّ الفلاسفة الإغريق الأقدمين كانوا يُصرّون على الوحدة العضويّة الناشطة بين قيَم الحقّ والخير والجمال، وينسبون إلى الصلاح الإلهي المطلق (agathon) الصدارة العظمى والقدرة التأصيليّة المبدئيّة، إلّا أنّ اختبارات الشعوب الثقافيّة ما برحت تناقض التصوّر التناغمي هذا. فهل يكون الصلاح قيمة القيَم؟ أم الحقّ؟ أم الجمال؟ أم الواحد الذي منه تنبثق الكثرة التاريخيّة؟ إذا أجمع قومٌ من الأقوام على منح الجمال مقامَ الصدارة، فهل نقبل بإخضاع الحقّ والصلاح لمقتضيات قيمة الجمال؟ والجمال، ما هو؟ أفيكون في الشكل أم في المضمون؟ هل يتجلّى في الحسّيّات والماديات والجسديّات؟ أم في الذهنيّات والنفسيّات والمعنويّات والروحيّات؟
يقودنا هذا الاستفسار إلى الإشكال الحضاري الثاني الذي ينشأ من التعارض بين القيَم الإنسانيّة في المجتمع الواحد والثقافة الواحدة. ذلك بأنّ كلّ فرد من أفراد المجتمع الواحد يتنازعه ضربان من الأمانة: الأمانة على قيَم المجتمع السائدة، والأمانة على قيَمه الذاتيّة أو الخلاصات الاقتناعيّة التي استصفاها من قيَم مجتمعه. فالمعلّم يستهدي بقيمة الإنارة المعرفيّة وقيمة الإنصاف بين تلاميذه. والممرّضة تستنير بقيمة الصحّة الجسديّة والنفسيّة وقيمة الانتعاش الكياني في حياة المريض. أمّا مدير المؤسّسة الإنتاجيّة، فيسترشد بقيَم الفعّاليّة والإتقانيّة والتنافسيّة، في حين أنّ المسؤول السياسي يعتصم بقيَم الحنكة والدهاء والحكمة التدبيريّة التي تصون مصلحة الدولة العليا وتؤازره في استدامة ولايته السياسيّة. قد ينشأ أيضاً تعارض حادٌّ بين قيَم الحرّيّة الفرديّة، وقيَم الواجب الوطني والانضباط المسلكي في الفضاء العموميّ. غالباً ما تتفاقم خطورة التعارض بين القيَم في حقل أخلاقيّات الحياة؛ إذ يرتبك الناس في الاختيار بين حلولٍ طبية لا تستطيع أن تشفي كلّ أسقام المريض الجسديّة والعقليّة والنفسيّة والروحيّة. من الواضح أنّ قيَم الاقتناع الذاتي غيرُ قيَم المسؤوليّة العامّة، وأنّ تنوّع المقامات الوجوديّة يستتلي تعارضاً بين القيَم المطلوبة.
أمّا الإشكال الحضاري الثالث، فينجم عن التعارض الأخطر بين القيَم التي تستند إليها الشعوبُ في تقرير مصيرها، وهداية وجودها، وتدبير حياتها. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تحترم حرّيّة الإنسان. غير أنّ بعض المجتمعات تُخضِع الحرّيّة الفرديّة لقيَم التراث المنعقدة على صون العزّة القوميّة، وتعزيز التضامن الاجتماعيّ، والحفاظ على روح التراث الجماعيّ. صحيحٌ أنّ جميع الأمم تؤيّد قيمة المساواة. بيد أنّ بعض الثقافات ما انفكّت تسوّغ الاختلاف الأونطولوجي الطبيعي الشرعي القانوني الحقوقي بين الرجل والمرأة، بين السلالة الحاكمة والشعب المحكوم، بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، بين المؤمن وغير المؤمن، بين الإكليرُس الكهنوتي الإفتائي من حاملي شعلة الألوهة المقدّسين وطبقة الناس العَلمانيين العاديين، بين الإنسان السليم الجسد والإنسان المعوّق، بين المعترفين بالاختلاف الجنسي والمقرّين بالمثليّة الجنسيّة.
وعلاوة على الاختلافات الخطيرة هذه بين تصوّرات القيَم في الحضارات الإنسانيّة المتنوّعة، تنشط ضروبٌ أخرى من التباينات تصيب جوهر المعنى الإنساني بحدّ ذاته. ذلك بأنّ الناس لا يُجمعون كلُّهم على تعريفٍ واحدٍ يتناولون به حقيقة الإنسان. من صلب الاختلاف الأنثروبولوجي هذا ينبثق التباينُ في تصوّر القيَم الإنسانيّة الهادية. فهل يكون الإنسانُ كائناً بيولوجيّاً يقتصر بنيانُ وعيه على تفاعل الخلايا العصبيّة في دماغه؟ أم يكون كائناً روحيّاً يتجاوز مجرّد النشاط الذهني ليتصوّر الحياة تصوّراً يجعله ينتسب إلى عالم غيبي خالدٍ يدخل فيه من بعد أن يكدح كدحه ويحجّ حجّه على هذه الفانية؟
خلاصة القول في هذا كلّه، أنّ المجتمعات الإنسانيّة لا يمكنها الاكتفاء بمجرّد الإجماع اللفظي على ضمّة من القيَم الإنسانيّة المنسلخة عن محاضنها الثقافيّة، وحقولها الوجدانيّة، وبيئاتها الاختباريّة، ومكتنفاتها التاريخيّة. يجب علينا أن ندرك اليوم أنّ جميع الثقافات لا ترضى بما سنَّه الشاطبي في كتاب «الموافقات» حين رسم أنّ ملَل الأرض اتفقت على ضروريّات الشريعة الخمس: الدِّين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل. يعلم الجميع أنّ الحضارة الغربيّة لا تضع الدِّين في مقام الضروريّات الوجوديّة المطلقة. وبعضهم يعتقد أنّها كفّت عن أن تضع النسل في مقام الصدارة؛ إذ إنّ حياة الإنسان الغربي لا تتحقّق بنسله، بل بفعل كيانه الذاتي وإنجازه الشخصيّ.
أقول هذا لأبيّن أنّ شرط الشروط في تسالم الحضارات الإقبالُ الرصينُ على البحث في مضامين القيَم التي تُجمع عليها، من غير أن تجرؤ فتنظر في التباينات الإدراكيّة الخطيرة التي تجعل الوفاق عسيراً في معترك التضامن الإنساني الكونيّ. يطيب لي أن أستحضر في هذا المقام ما استخرجه الفيلسوفُ اللبناني رُنِه حبشي (1915 - 2003) من جليل المقارنة بين القيَم التوحيديّة الثلاث؛ إذ نسب إلى اليهوديّة قيمة الاستضافة، وإلى المسيحيّة قيمة المجّانيّة، وإلى الإسلام قيمة التسامح، ودعا الجميع إلى بناء أنظومة أخلاقيّة متوسّطيّة تضمّ تراثات البحر الأبيض المتوسّط في مؤتلفٍ روحي يعزّز التكامليّة الروحيّة بين هذه القيَم.
أعتقد أنّ مثل هذه الاجتهادات تساعدنا في استصفاء الجواهر الأخلاقيّة التي تزخر بها الحضارات الإنسانيّة. غير أنّها لا تُعفينا من مسؤوليّة النظر الحصيف في رسم الحدود الفاصلة بين الغنى التأويلي والإفراغ التعطيليّ. أعني بذلك أنّ قيمة الحرّيّة، على سبيل المثال، تغتني بتأويلات الحضارات الإنسانيّة واختبارات شعوبها. غير أنّها توشك أن تفقد قوامَها التطلّبي ومضمونَها الاستنهاضي إذا ما أصرّت بعضُ المجتمعات على إفراغها من أصالة منطوياتها اللصيقة بجوهرها. ومن ثمّ، ليس لنا أن نخشى الاختلاف في فهم القيَم الإنسانيّة، ولكن يجب علينا أن نصون طاقة الارتقاء في هذه القيَم؛ إذ إنّ كلّ ما يرتقي في مختبر الوجود الإنساني يعود فيلتقي في قمم الكمال المنشود.

- مفكر لبناني



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.