قبل سنوات، أثناء ندوة نظمتها مكتبة الإسكندرية للعالم المصري الراحل أحمد زويل، داعب الرجل شخصيات سياسية بارزة احتلت المقاعد الأولى من القاعة، قائلاً «نحن نستمع للسياسيين كثيراً، من فضلكم أنصتوا للعلم ولو لساعة واحدة». كان زويل يقصد بحديثه، أن القضايا السياسية التي كانت تعجّ بها الساحة المصرية وقتها، تفرض حضوراً مميزاً للسياسيين في أجندة وسائل الإعلام، لكن الحال تغير كثيراً، ولم يعد السياسيون يكتفون بالحديث في قضايا السياسة، بل أقحموا أنفسهم أيضاً في قضايا علمية مثل التغيرات المناخية؛ ما ساهم في خلق حالة من الاستقطاب الحاد بين قطاعات من الجمهور تقلل من خطورة تلك التغيرات المناخية تأييداً لرأي الحزب السياسي الذي تنتمي إليه، وقطاعات أخرى تستشعر خطورتها، لتبني حزبها هذا الموقف. ويحتدم هذا الجدل بين الفريقين منذ سنوات، وعلى الرغم من تأكيد العلماء، أصحاب الحق الأصيل في الحديث بهذا الموضوع، على خطورة وحجم المشكلة، تعليقاً على ظواهر مناخية متطرفة شهدها العالم في السنوات الأخيرة، فإن هذا الاستقطاب الحاد ظل قائماً. بيد أن الخبراء يعوّلون الآن على موجة الحر غير المسبوقة التي تضرب أوروبا، بالتزامن مع اندلاع حرائق الغابات في أكثر من مكان، في أنها قد تكتب فصل النهاية لهذه الفجوة؛ إذ لم يعد هناك مجالاً للشك أن التغيرات المناخية تطبع بصماتها الواضحة على حياتنا.
تجتاح أوروبا حالياً موجة من الحر الشديد «غير المسبوقة»، وصلت معها درجة الحرارة في كثير من الدول الأوروبية إلى أكثر من 40 درجة مئوية. ووفق الخبراء، يبدو أن هذه الموجة المناخية القاسية ستصبح أكثر تواتراً خلال العقود المقبلة، و«بات تغير المناخ السبب الواضح لذلك»، كما أوضح الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس، خلال مؤتمر صحافي في جنيف الثلاثاء الماضي. هذا الواقع جعل تالاس يتلمّس «نقطة مضيئة في هذه الظروف المناخية القاسية». وأردف «إنها قد تؤدي إلى زيادة الوعي لدى الكثير من الحكومات بقضية التغيرات المناخية».
ولم تسهم أحداث مناخية قاسية شهدها العالم في السنوات الماضية، في تحقيق ما يرجوه تالاس، كما لم تسهم نفس الأحداث في سد الفجوة بين من يؤمن بخطورة التغيرات المناخية، وبين من ينكرها من الأساس، وهو ما عزته دراسات عديدة حول العالم إلى تأثير «التحزب» الذي تجاوزت سطوته شعور المواطنين بتأثير الظواهر المناخية على حياتهم.
لقد ظهر تأثير هذا التحزب على خلق حالة «الاستقطاب المناخي» في العديد من الدراسات واستطلاعات الرأي حول العالم، منها الدراسة التي نشرها مركز «بيو للأبحاث» في 16 أبريل (نيسان) من عام 2020، وأرّخت لبدايات هذا الاستقطاب المناخي في أميركا. تقول الدراسة، إنه في عام 1997، كانت أعداد متساوية من الديمقراطيين والجمهوريين يؤمنون بأن تأثيرات الاحتباس الحراري بدأت بالفعل، ولكن في 2007 بلغت الفجوة بين المعسكرين نحو 34 في المائة؛ إذ أعرب 76 في المائة من الديمقراطيين عن اعتقادهم بأن تأثيرات التغير المناخي بدأت بالفعل، بينما كانت النسبة 42 في المائة فقط عند الجمهوريين.
ولم تضق تلك الفجوة كثيراً حتى 2020، فبينما قال نحو 78 في المائة من الديمقراطيين و(المستقلين الذين يميلون إلى الحزب الديمقراطي)، إن التعامل مع تغير المناخ العالمي يجب أن يكون على رأس أولويات الرئيس والكونغرس، أيّد 21 في المائة فقط من الجمهوريين و(المستقلين ذوي الميول الجمهورية)، هذا الرأي.
«تصدير» الاستقطاب الأميركي
من جهة ثانية، صدّرت أميركا هذا الاستقطاب المناخي إلى العالم، كما ترى دراسة للحالة الفنلندية نشرتها دورية «غلوبال إنفيرمنتال تشاينج» في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وفي هذه الدراسة حلل الباحثون مضامين لتغريدات الفنلنديين على موقع «تويتر». وأظهر التحليل، أن اتجاهات الرأي العام حول سياسات المناخ خلال الانتخابات الفنلندية لعام 2019 خضعت للفرز الحزبي؛ إذ مال الجمهور بشكل وثيق إلى الرأي الذي تروج له أحزابهم المفضلة.
كذلك، أشارت الدراسة، في مقدمتها، إلى حالات أخرى من الاستقطاب المناخي ظهرت في 11 دولة، بينها بريطانيا وأستراليا والنرويج. وليس ثمة سبب واضح لهذه الحالة التي اسمتها الدراسة بـ«الفرز الحزبي»، سوى أن السياسيين أقحموا أنفسهم في هذه القضية العلمية، حتى باتوا يتحدثون فيها أكثر من العلماء المتخصصين.
الأمر ذاته كشفت عنه دراسة أميركية لباحثين من جامعة ميتشيغان نشرتها دورية «ساينس كوميونيكيشن». وفي هذه الدراسة المنشورة في مارس (آذار) من عام 2020، حلل الباحثون مقالات عن تغير المناخ من 11 صحيفة أميركية، بما فيها «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز» و«شيكاغو تريبيون»، بين عامي 1985 و2017. وهنا نظر الباحثون في عدد المرات التي ذكرت فيها تلك المقالات الجمهوريين والديمقراطيين والعلماء، فوجدوا أنه في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كانت هناك إشارات إلى العلماء أكثر من السياسيين في تغطية تغير المناخ، لكن هذا الاتجاه تغير في العقد الأول من القرن الـ21؛ إذ جرى الاستشهاد بالسياسيين في كثير من الأحيان. ومن ثم، قالت الدراسة، إن الأصوات الحزبية لم تهيمن على تغطية تغير المناخ فحسب، بل إن هذه الأصوات كانت مرتبطة أيضاً برسائل متباينة بشكل متزايد، زادت من حدة الاستقطاب المحيط بالسياسات المناخية. وفي سياق متصل، نبّهت دراسة علمية لباحثين من جامعة واشنطن الأميركية نشرتها دورية «سوشيال فورسيس» في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2019، إلى خطورة هذا الاستقطاب في إحداث تأثيرات غير مرغوب فيها على جهود التخفيف من آثار تغير المناخ.
مخاطر الانقسام
ولكن «مع موجة الحر التي تضرب أوروبا ودولاً أخرى من العالم راهناً، لم يعد العالم يملك رفاهية هذا الانقسام»، كما يقول الدكتور مجدي علام، أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط».
علام أعرب عن غضبه، وبلهجة بدت حادة بعض الشيء، عند سؤاله حول تأثير موجة الحر التي تشهدها أوروبا في إنهاء حالة الاستقطاب المناخي؛ إذا قال «لا مجال بعد الآن لإقحام السياسة ومفرداتها، مثل كلمة الاستقطاب لدى الكلام عن التغير المناخي؛ وذلك لأننا أمام قضية علمية بحتة، وليست قضية سياسية تحتمل آراء ومذاهب مختلفة». ووصف الخبير البيئي موجة الحر التي تشهدها أوروبا حالياً بأنها «ناقوس خطر لما قد نعيشه في المستقبل، إذا لم ننجح في النزول بدرجة حرارة سطح الكرة الأرضية».
حتى الآن لم يصل العالم إلى نسبة الـ1.5 في المائة زيادة في درجة حرارة سطح الكره الأرضية، مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهي العتبة التي يعتقد العلماء، أنه لا ينبغي أن نتجاوزها، ومع هذا يشعر الناس الآن بهذه التأثيرات غير المسبوقة، فكيف سيكون الحال إذا كانت الزيادة بنسبة 2.5 في المائة؟
يجيب علام «إذا استمرت معدلات انبعاثات الغازات بنفس القدر الحالي، سنصل إلى عتبة الـ2.5 في المائة بحلول 2050، وستكون الحياة حينئذ مستحيلة على كوكب الأرض، وبالتالي، سيتوجب على البشر البحث عن كوكب آخر يعيشون عليه».
حقائق علمية
ما يجعل الحياة ممكنة على كوكب الأرض، بحيث لا يكون طقسها بارداً جداً كالقمر أو شديد الحرارة مثل كوكب الزهرة، هو حدوث التوازن بين كمية الإشعاع الشمسي الواصلة للأرض والمنعكسة منها. إلا أن معدلات استهلاك الوقود الأحفوري المتزايدة والغازات التي تخلفها الأنشطة الصناعية، خلقت غطاءً يمتص الأشعة تحت الحمراء ويمنعها من الهروب نحو الفضاء الخارجي؛ وهو ما يخل بمعادلة التوازن التي هي سر الحياة على كوكب الأرض، ويُسبب تسخيناً تدريجياً للغلاف الجوي للأرض وسطحها، ليحولها إلى ما يشبه «البيوت الزراعية الزجاجية».
تمر الأشعة فوق البنفسجية في «البيت الزجاجي» بسهولة عبر جدرانه الزجاجية فتمتصه بعض النباتات، وفي المقابل تمر الأشعة تحت الحمراء الأقل طاقة بصعوبة عبر هذه الجدران وتُحتجز في الداخل... وبالتالي تُسخن «البيت الزجاجي». ويسمح هذا التأثير للنباتات الاستوائية بالازدهار داخل البيوت الزجاجية، حتى خلال فصل الشتاء البارد، وهذا ما يشهده كوكب الأرض حاليا من تأثيرات مرشحة للزيادة، كما يؤكد علام.
يتسبب ما بات يعرف علمياً بـ«تأثير البيت الزجاجي» في تسخين الغلاف الجوي للأرض وسطحها، وما ترتب على ذلك من ذوبان للجليد أدى إلى ارتفاع مستويات سطح البحر؛ وهو ما سيؤدي إلى غرق بعض المدن ومناطق الدلتا حول العالم.
وخلال كلمة الافتتاح في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي «كوب 26» الذي عُقد في مدينة غلاسغو الاسكوتلندية خلال الفترة من 31 أكتوبر (تشرين الأول) إلى 12 نوفمبر، ذكر رئيس الوزراء البريطاني (المستقيل) بوريس جونسون مدينة الإسكندرية المصرية كإحدى المدن المهددة. وكان جونسون، في رأي علام «كريماً عندما قال إن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار 4 درجات مئوية (7.2 درجة فهرنهايت) سيؤدي إلى هذا التأثير». وأعاد علام ما سبق وأشار إليه من أن 2.5 في المائة، كافية لتحويل الأرض إلى جحيم.
وبالفعل، تستشعر كثير من الدراسات التي صدرت أخيرا بوادر هذا «الجحيم»، ومنها دراسة بقيادة «المركز الأورومتوسطي حول تغير المناخ» تناولت تأثير الجفاف الناتج عن الانحباس الحراري على غلة محاصيل الأرز والقمح والذرة وفول الصويا. ووفق الدراسة المنشورة في 6 أبريل الماضي بدورية «سيانتيفيك ريبورتس»، فإن غلة هذه المحاصيل الرئيسة عُرضة لأنماط من الجفاف أكثر تعقيداً مما دلت عليه دراسات سابقة.
ولقد تسببت موجات الجفاف الحالية، التي لم تصل بعد للمستوى الذي توقعته الدراسة، في اتخاذ الهند، التي هي ثاني أكبر منتج للقمح في العالم، قراراً بحظر تصدير الحبوب بعدما أثرت موجة الحر على المحاصيل. وتسببت هذه الخطوة في تفاقم نقص الحبوب عالمياً، لتزامنها مع الحرب الروسية – الأوكرانية، حيث المصدر الرئيس للحبوب.
وكما تضامنت الحرب الروسية - الأوكرانية مع تأثيرات تغير المناخ، لتسببا معاً تهديداً مباشراً للأمن الغذائي العالمي، فإنه من المتوقع أن تلقي الحرب أيضاً بظلالها، على قمة المناخ «كوب 27» التي تستضيفها مدينة شرم الشيخ المصرية في نوفمبر من العام الحالي. وللعلم، المأمول من هذه القمة هو تحقيق ما فشلت فيه قمة غلاسغو، وبالذات، انتزاع موافقة الدول على «التخلص التدريجي» من الفحم، وليس «الخفض التدريجي». وما يُذكر أن بوريس جونسون سار في اتجاه إقرار «التخلص التدريجي» في قمة غلاسغو، لكن اعتراض الهند، دفع الوفود المشاركة في المؤتمر إلى الموافقة على استبدال هذه العبارة بـ«الخفض التدريجي»، إنقاذاً للاتفاقية.
ولا يتوقع الدكتور محمد عبد المنعم، كبير مستشاري التغيرات المناخية بالمكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)، أن تكون مهمة إقرار عبارة «التخلص التدريجي» سهلة في قمة «كوب 27»، بعدما عادت بعض الدول التي كانت قد تخلصت من الفحم نهائياً، ومنها ألمانيا، إلى إعادة استخدامه مجدداً لتوليد الكهرباء، وذلك بعدما أثرت الحرب الروسية - الأوكرانية على إمدادات الغاز التي تصلها من روسيا.
وهنا يقول عبد المنعم لـ«الشرق الأوسط»، إن موجة الحر غير المسبوقة في أوروبا «ناقوس خطر يجعل المشكلة أوضح أمام زعماء العالم في قمة (كوب 27)، ولكن تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية ستجعل مهمة إقرار عبارة التخلص التدريجي صعبة، وربما مستحيلة».